"الفرانكوفوني يتهم المدافع عن اللغبة العربية بأنه رجعي وقريب من المتطرفين. والمتمسكون بالثقافة العربية يتهمون الفرانكوفونيين بأنهم خونة ومستلبون". هكذا يلخص مرزاق بقطاش المشهد الثقافي في بلاده. داعياً الى تجاوز هذا الصراع. ويؤكد الأديب الجزائري الذي يكتب بالعربية، أن "قضية الايصال هي الأهم، بمعزل عن مشكلة اللغة". كما يعبر صاحب "طيور في الظهيرة" عن حساسية واضحة تجاه المشرق العربي، إذ يتهم نخبته بالتخلي عن مثقفي بلاده، ويتحدى القاهرة أن تنشر كتاباً واحداً لأي أديب جزائري. ويخوض بقطاش في قضايا التطرف والارهاب، معتبراً أن الوقت لم يحن كي يتمكن الأدب من الاحاطة بالمأساة الجزائرية. مرزاق بقطاش أحد أعمدة التجربة الروائية في الجزائر. لمع اسمه مطلع الثمانينات مع صدور روايته الأولى "طيور في الظهيرة" التي كتبها في نهاية السبعينات. وقد تعرض هذا الأديب والصحافي البارز، في 31 تموز يوليو 1993، لمحاولة اغتيال تركت آثارها الواضحة على وجهه. وبقطاش إبن الحيرة الجمالية والتعبيرية التي تشكل لديه حافظاً دائماً على الابتكار الجمالي واللغوي. قال فيه مواطنه الطاهر وطار "انه كالمحارب. اللفظة بالنسبة إليه عيار ناري، مستقل بذاته. هدفه المعنى الواضح كما هو، والصورة الفنية كما هي. حتى ان الإنسان وهو يمضي في القراءة، لا يتمالك من القول، ان التعبير باللغة العربية في الجزائر لم يعد مغامرة خطيرة، يقوم بها المثقف، ويحمد الله في الاخير انه انتهى منها بالسلامة. ان مدرسة الرافعي والعقاد، وزكي مبارك، والمنفلوطي، أغلقت أبوابها الى الأبد في جزائر الأدب الفني الحديث". انجز مزراق بقطاش في الاشهر الماضية ثلاثية روائية، أول اجزائها عن "الوقائع العجيبة" التي قادت محمد بوضياف من المنفى المغربي الهانئ الى كرسي الدم في الجزائر. وفي هذه المناسبة قصدته "الوسط"، ودار هذا الحوار في سيدي فرج، في شقة على البحر، بحضور صديقه الروائي واسيني الأعرج. * أنت صامد في الجزائر كاتباً وصحافياً... - أتصور أن حالتنا في الجزائر تشبه وضعية "أهل الكهف" كما تحدث عنها أفلاطون: فهم في الداخل، ولا يشعرون بالنعيم الذي يعيشونه. نحن الآن نعيش حالة من الحرية، لكننا لا نعي ذلك. جيراننا من العرب والأوروبيين قد يغبطوننا على تلك الحرية، الكامنة في حالة من اختلال التوازن المفتوح على الاحتمالات. نعم أنا في الجزائر، الآن وهنا. لا أعرف متى نصل الى حالة من الاستقرار. ما أعرفه أن هناك دوافع للأمل، لم يعد ممكناً أن نعود الى الوراء. معظم المتغيرات التي تمت في العالم العربي خلال القرن المنتهي حدثت بفعل خارجي، وها نحن ننتظر خلاصنا من المتغيرات الخارجية. قد يكون هذا أمراً حسناً، وقد يكون سيئاً، لكنه ما يحدث. حتى ان ما ينتج من فكر، يتبع موضة آتية من الغرب: من الاشتراكية والماركسية والبنيوية، الى الليبرالية والسوق الحرة والعولمة! وغالباً ما نأخذ تلك "البضاعة" المستوردة من دون أدنى وعي نقدي. * لكن تلك الأفكار، الاشتراكية مثلاً، طبعت الواقع العربي وحددت مساره... - ما أخذناه من المبادئ الاشتراكية كان عبارة عن سرقة، وتجن على الشعوب. الشيء نفسه ينطبق على علاقتنا بالرأسمالية، فهي لها سياقها الغريب علينا. والسؤال المطروح هو: كيف نكون صادقين مع انفسنا، وكيف نقضي على تلك البنى والنظم المتحجرة. * كيف تتصور نظرة المشرق الى الجزائر؟ - أشعر، بصدق وصراحة، ان اخواننا المشارقة خذلونا. المشرق قبلتنا، وكل ثقافتنا مشرقية، وعيوننا كانت دائماً مصوبة نحو الشرق. وبعد استقلال الجزائر كنا نتصور ان الالتحام العضوي مع المشرق سيتم بصورة طبيعية، لكن، مع الأسف، لم يحدث شيء من هذا. فالمشارقة تصوروا أن العروبة مسألة طبيعية ومفروغ منها في المغرب، فلم يقدموا شيئاً لنا. واليوم تزداد الهوة اتساعاً، ما يعزز المشاعر الشوفينية. فأنا اتحدى أي كاتب جزائري ان يتمكن من نشر اعماله في القاهرة. المصريون لا يشجعون كاتباً جزائرياً، لأسباب سياسية ربما. ولو استثنيت الطاهر وطار في فترة من الفترات، ومحمد ديب، فليس هناك اي كاتب جزائري آخر نشر له في القاهرة. هذا يدل على خيار استراتيجي في مجال الثقافة. المصريون، يتصورون أنفسهم محور الثقافة العربية. ومع احترامنا للمصريين، فقد قرأنا كتبهم وانجازاتهم، ونحن نعتز بها، لكن لا بد أن يكون لنا مكان بينهم. في حين أن بعض الكتاب الجزائريين، مثل واسيني الأعرج وأمين الزاوي، عاشوا في دمشق، فقدمت لهم فرصاً للبروز. أما لبنان فإنه يعنى بالثقافة لأسباب تجارية في بعض الأحيان. كان سهيل إدريس يأتي ومعه بضاعته من الكتب، بدءاً ب "أصابعنا التي تحترق" و "الخندق الغميق" المنشورة في منتصف القرن، والتي بقيت تباع هنا حتى الأمس القريب. والآن أين سهيل ادريس؟ وأين سائر الناشرين والكتاب اللبنانيين؟ لماذا لم يعد يصلنا أي كتاب من صاحب "الآداب" او سواه؟ لم تعد الجزائر ربما سوقاً مربحة! قبل سنة، أرسلت مخطوطة روايتي الى "دار المدى" في سورية، فرفضت نشرها ما لم ادفع تكاليف الطباعة! لكن صديقي الذي حمل روايتي الى تلك الدار قال لهم: الكاتب ليس مستعداً لدفع فلس واحد، لكنه يتنازل لكم عن حقوق النشر مقابل طبع الرواية. وعندما قوبل عرضه بالرفض، حمل الصديق الرواية من تلقاء نفسه إلى "دار سعاد الصباح". هناك حواجز كثيرة تحول دون التواصل بين المشرق والمغرب، وبين الأقطار العربية بشكل عام. وهذا الوضع لا يمكننا إلا اعتباره هزيمة للغة العربية في الجزائر. لقد تربينا في الخمسينات والستينات على فكرة العروبة، ثم ألقي بنا في البحر. إنهزم المشارقة والعرب كلهم في العام 1967، وقيل انها مجرد نكسة، لكنها انعكست علينا سلباً بشكل مذهل في الجزائر. وتوالت الهزائم والحروب والكوارث والمذابح... ونحن هنا في عزلتنا، صار ينظر الى العربية بصفتها لغة الهزيمة بالنسبة الى الأجيال الجديدة، أو لغة التطرف. ويعتبر الكثير من الشبان انها لغة "لا تطعم خبزاً" لمن يريد دخول القرن المقبل. * ألا تعتقد أن في كلامك شيئاً من التعميم والاطلاق؟ - سألتني عن التواصل بين المشرق والمغرب، فأطلقت ليأسي العنان. لكن لا بد ان استثني من كلامي الكثير من المثقفين والمبدعين العرب كأفراد. فهؤلاء بطبيعة الحال يعانون من القهر والتهميش أو الاستيعاب، وليس لهم أي تأثير على مجرى الاحداث... قال لي أدونيس مرة خلال زيارة الى الجزائر: "أنتم الأدباء الجزائريين محظوظون، لأنكم حتى عندما تختلفون مع السلطة يمكنكم ان تعيشوا. أما نحن في المشرق، فإما ان ننتمي الى السلطة لنحصل على خبزنا، او نموت جوعاً". وهذا قد يفسر ما نعيشه الآن من قطيعة، ومن تقهقر حضاري. بالأمس كان البشير الابراهيمي يكتب عن فلسطين، و "جمعية العلماء" تتناول قضايا مشرقية، ورضا حوحو يكتب عن الوحدة العربية، وعمر راسم يكتب بالفرنسية عن فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى. كان هناك نوع من التواصل. وكان الجزائري، مثلاً، يمشي ببطاقة تعريف فرنسية ويصل الى الشام، او البيروتي يمشي ببطاقة تعريف فرنسية ويصل الى الجزائر وقسطنطينة. وعندما استقل العرب، مشرقاً ومغرباً، تغير وضعهم نحو الأسوأ. * تقصد ان تجارب الاستقلال فشلت في تحقيق الحلم العربي؟ - نعم، للأسف. كنا في السابق اكثر وطنية، وقدرة على التفكير الحر والموضوعي. قل لي مثلاً: كم عدد كتاب المغرب العربي الذين حصلوا في العقدين الاخيرين على جائزة أدبية في المشرق؟ كأننا غير موجودين على الاطلاق، أو كأننا موضوعون في حجر صحي: أليس في المغرب العربي كله مبدع واحد يستحق الاهتمام؟ وعندما تتفرج على الفضائيات، او تقرأ الصحافة، لا تجد حواراً مع مثقف من الجزائر، ولا اغنية جزائرية أو ريبورتاجاً عن الجزائر. فأي عروبة زائفة هذه! * كأنك تريد ان تقول انها عروبة من طرف واحد؟ - يراد لها ان تكون "عروبة من طرف واحد". وعندما يتذكرك الإعلام، تكتشف انه ينفّذ "توجيهات عليا"، او يفعل لاعتبارات اعلامية بحتة: أي البحث عن التشويق والاثارة والفضائح والمواضيع الساخنة. مرة قيل لي إن احدى الفضائيات تبحث عني، ولما استقبلت الفريق التلفزيوني فهمت سر هذا الاهتمام المفاجئ: لم يكن يهمهم أدبي او تجربتي الابداعية والثقافية والانسانية، سمعوا انني أصبت بالرصاص فهرعوا لتحقيق سبق صحافي. أنا بالنسبة الى الاعلام العربي مجرد حالة أمنية! * من الذي أطلق الرصاص عليك؟ - من يطلق النار في الجزائر برأيك؟ هل هذا سؤال؟ يعجبني المثقفون المشارقة حين يتساءلون بسذاجة: من يقتل من في الجزائر؟ * نعم، هذا سؤال مطروح بقوة، من الذي يقتل؟ - وحدها الجماعات المتطرفة لا تعرف سوى العنف لغة للحوار والتخاطب... * يقال إن هناك أطرافاً عدة تورطت في فترة ما بقتل المثقفين. - لقد اثرتني يا اخي! * لنترك المسألة إذاً. لماذا حاول هؤلاء اغتيالك؟ - لأنني كاتب، ولأنني في ما يقال كنت عضواً في المجلس الاستشاري الوطني. ولأفترض ان هناك دوافع سياسية وراء محاولة اغتيالي، فلماذا اغتيل بختي بن عودة؟ ولماذا اغتيل يوسف سبتي الذي كان الساعد الأيمن للطاهر وطار، ولم يكتب المذكور كلمة واحدة في رثائه؟ ولماذا قتل الطاهر جاعوط، وعشرات غيرهم من المثقفين والمبدعين؟ لأن هؤلاء كانوا يكتبون، ويحبّون أن ينيروا ويستنيروا، ويحلمون بالسعادة والتقدم، ويؤمنون بتطور المجتمع، وتطور البلد. ما حدث في الجزائر ليس صحوة وإنما ردة! عندما سئلت في دولة مشرقية "من الذي يقتل في الجزائر؟"، لا اخفيك انني اصبت بالقرف. الذي يطرح هذا السؤال يفعل إما لسبب سياسي كما هو الحال بالنسبة الى بعض الغربيين، أي بهدف وضع اليد على قرارات مهمة في الجزائر... أو لضعف في المعرفة والتحليل كما هو الحال بالنسبة الى بعض المشارقة. انت تعيش القهر، وتعرف ان الذي يقهر هو إما الطاغية، وإما الظلاميون الذين يريدون ايقاف عجلة التاريخ. هل هناك مثقفون عرب؟! * هناك بين المثقفين العرب من يرى أن قيام السلطة بقطع المسار الديموقراطي للانتخابات البلدية، هو وراء كل هذا العنف... - هل هناك مثقفون عرب أساساً؟ المثقف عليه أن يقرأ الأحداث، لا أن ينجرف فيها. وما دام الحديث يدور حول المثقفين العرب وموقفهم من الازمة الدامية في الجزائر، فاسمح لي أن أذكر حالة ذلك المنظر المشرقي، المقيم في باريس حيث يؤلّف الكتب، ويدرّس، هانئاً مطمئن البال، في جامعة السوربون. هذا الكاتب يعرف الجزائر جيداً، ولديه هنا اتصالات وعلاقات معظمها مع جهات رسمية، وكثير من كتبه صدرت هنا، في فترة من الفترات، عن هيئات رسمية. وإذا به بين ليلة وضحاها ينقلب مدافعاً عن الديموقراطية، هو الذي ارتبط بنظام الحزب الواحد، ويسدي الينا النصح، ويعتبر أن "جبهة الانقاذ" كان يجب أن تصل الى السلطة، مستدركاً - كي يطمئننا - أن المقام لا يمكن ان يستقر بها في الحكم طويلاً. استغربت طبعاً هذه الخفة في التحليل الصادر عن شخص يتسلى بالتنظير، ولا يبالي بمصائر الناس والشعوب. قلت لهذا "الديموقراطي" الكبير: لماذا لا تذهب وتقول هذا الكلام لحكام بلدك التي تركتها لتعيش في أوروبا؟ مثل هذا الكاتب، ببساطة، تحت تأثير آراء مجموعة من الفرنسيين الذين يدافعون عن مصلحة بلادهم. فعندما يتخذ أحدهم موقفاً نعرف أين يصب. لكن المثقف العربي أين موقعه؟ والى متى يبقى ملحقاً برأي الآخر؟ * لننتقل الى الأدب. كيف ينعكس الواقع اليومي الدامي في الجزائر على مخيلتك الروائية؟ كيف تختار الآن موضوعاتك وشخصياتك؟ - لي جملة من الروايات التي لم انشرها حتى الآن. كنت باستمرار البطل في روايتي، ومعظم أعمالي كتبتها بضمير المتكلم. هناك طبعاً ضمير المخاطب كما في الرواية الجديدة. وأنا أؤمن بالمقولة الكلاسيكية التي مفادها أن الرواية لا تكتب إلا بعد ان تبرد الجمرة. ومع احترامي لكل ما كتب، فإن الأدب الجزائري الذي تعامل مع الأزمة واتخذها موضوعاً حتى الآن هو أدب "اشعاري". والأدب الاشعاري قلما ينجح، بدليل تجربة الاتحاد السوفياتي، فكل الأدب الذي تحدث عن الثورة كتب بعد ان انطفأت جمرتها. وما يحدث الآن، في تصوري لا ينبغي ان يدخل ضمن عمل روائي إلى بعد حين. * كيف تكتب اليوم إذاً؟ - اكتب وجدانيات فقط، في ضوء تجربتي الشخصية. لدي عدد من الوجدانيات التي قد تتحول في يوم من الأيام إلى روايات، او الى قصص، او تظل حبيسة شكلها. كتبت أخيراً رواية في ثلاثة اقسام، والقسم الثالث عنوانه "مرزاق بقطاش"، أنا بطل روايتي. يفوق الوصف * كيف يمكن لمخيلة الروائي وعينه ان تعبرا الى مذبحة في الريف الجزائري في اواخر التسعينات، بكل وضوحها الغامض وواقعيتها السوريالية، وقسوتها الخيالية؟ - هذا يمكن قياسه فقط بفكرة الصدمة. عشت حرب التحرير التي كانت فترة بالغة القسوة وعامرة بالألم. لكن ما يجري الآن مختلف تماماً، لا أعرف كلمات بوسعها التعبير عنه، كلاسيكيات الأدب العالمي منذ الاغريق ليست بشيء يذكر امام ما نعيشه يومياً هنا. ربما كان "أوديب" سوفوكليس ينطوي على ابعاد ميتافيزقية، لكن المذبحة الجزائرية لا يمكن تصورها لا عبر السوريالية ولا من خلال أي اسلوب او شكل فني معروف. أفكر احياناً، وربما كنت مخطئاً، ان كل ما يجري لا يستطيع ان يشكل موضوعاً درامياً في رواية. انه شيء يفوق الوصف. ما زال هناك اناس مثلنا في هذا البلد، لحسن الحظ. مثقفون كتبوا في الصحافة، وانشأوا حركات سياسية، وحملوا السلاح وطاردوا المجرمين، او الارهابيين. ولولا ذلك لما كنت في هذه الجلسة معك. انا انظر الى الواقع كفنان، والحكم عندي هو على النوع الأدبي، وعلى كيفية التعامل مع الموضوع. ولا يمكنني الآن الاجابة عن أسئلة جمالية، فقد تعبنا من المعالم والحدود. * ما جدوى الكتابة إذاً؟ - هذا سؤال غريب... الكتابة قدري، أنا انطلق هنا من مفهومي للأدب، وأتكلم بذاتية محضة. الكتابة بالنسبة اليّ هي الصدق، فبه وحده يمكن للكتابة ان تكون فعالة. الكتابة ضرورة، لا أكتب إلا للترويح عن نفسي. والكاتب لا يمكن أن يكتفي بموقف المتفرج. وقد ادهشك إذا قلت أن لدي دوافع دينية للكتابة، بمعنى انني في كل كتاب من كتبي أكرر فكرة انني انسان مؤمن. أرجو ألا يفهم كلامي في اطار ضيق، فالمقصود انها غاية تشمل الوجود كله في نطاق الحق والخير والجمال. الحق والجمال بعض من غايتي، وأشعر انني سأحاسب عما اكتب امام القارئ وأمام الله. من هذا المنطلق ليست الكتابة عندي عبارة عن هروب أو تفريغ. الذين يكتبون بدوافع نفسية، قد يتوقفون في يوم ما عندما يتم التنفيس عما يعتمل في ذواتهم. أنا لن اتوقف عن الكتابة: عندما كنت بين الحياة والموت في المستشفى بعد حادثة الاعتداء علي، أول شيء طلبته هو الورق والقلم، على الرغم ان يدي كانتا ملفوفتين. الكتابة بالنسبة إلي حاجة طبيعية. * وماذا عن العلاقة باللغة؟ - أشعر بالغبن عندما اكتب، وأظن ان هذه حال أي مبدع جزائري، بسبب غياب الأرضية الفكرية الموحدة، وبسبب غياب اللغة المشتركة مع الناس. نشكو في هذا البلد من مأساة حضارية، هي التضعضع اللغوي. المعرّب يكتب بالعربية والمتفرنس بالفرنسية، وهناك الآن من يكتب بالأمازيغية... والعلاقة بين هذه الفئات اللغوية الثلاث غير قائمة، بل هناك عداء فيما بينها، وهو عداء متولد عن الجهل. المتعرب قد يكره المتفرنس لأسباب أيديولوجية، والمتفرنس يكره المتعرب لأسباب سياسية. الفرانكوفوني يتهم المدافع عن اللغة العربية بأنه رجعي وبعثي و... أنه أقرب الى "جبهة الانقاذ"، و... الإرهاب! والمتمسكون بالثقافة العربية يتهمون الفرانكوفونيين بأنهم عملاء وخونة ومستلبون ومشوّهو الهوية. ويمكنك ان تتصور المشهد الثقافي في البلد بعد ذلك! * وما موقعك أنت من هذا الصراع؟ - أنا أترفع عن هذه الدناءات، فالمبدع مبدع أكتب بالفرنسية ام بالأمازيغية ام بالعربية، ام بأية لغة أخرى. لا بد من تجاوز خطوط الصراع التقليدي في هذا المجال بين عروبي وفرانكوفوني! أنا أحاول أن أقدم فناً مقبولاً من الجميع. بطبيعة الحال، عندي شعور بأهمية ايصال الشكل الأدبي الذي أريد. الرواية فن مستحدث في العالم العربي، على رغم كل ما قاله ويقوله النقاد الأدبيون من انها موجودة في اشكال تراثية كألف ليلة وليلة وغيرها... الرواية بمعناها الحديث شكل تعبيري جديد علينا، وعندما نكتب بالعربية، يجد واحدنا صعوبة كبيرة في نقل المشاعر والأحاسيس، والافكار التي تصطخب في وجدان الناس. عندما أكتب في بعض الأحيان اضطر الى نقل بعض التعابير الشعبية بالفرنسية وبالعربية وبالامازيغية، ثم قولبتها باللغة العربية الفصحى. وهذا يعني ان نسبة 80 او 90 في المئة من الزخم الموجود أصلاً في هذه التعابير، يضيع في الإبداع. المشكلة الراهنة إذاً هي كيف اصل الى القارئ بمعزل عن هذه اللغة او تلك. عملية التوصيل هي الأهم إذا شئت ان يحدث تفاعل بيني وبين المجتمع الذي انتمي اليه. وما أقوله عن كتاب الضاد في الجزائر ينطبق حرفياً على كُتاب اللغة الفرنسية فيها. أتمنى ان يبلغ الكاتب الجزائري بالعربية مرحلة من النضج، تدفعه الى التعامل مع الجميع من دون خلفيات أيديولوجية وسياسية. التجربة المؤلمة التي نعيش، لا بد أن تدفعنا الى ايجاد حلول حضارية. وعندئذ يمكننا ان نتجاوز هذه المرحلة، ودخول مرحلة أخرى على مستوى التعبير عن الذات، وعن الهوية الجزائرية. كيف تكون هذه المرحلة؟ لست أدري. أنا أطرح السؤال، وظيفة الكاتب ان يطرح الأسئلة.