لئن كان النصف الثاني من القرن العشرين شهد مزيداً من وعي الانسان لبيئته الطبيعية وللأخطار المحيطة بها، فإن هذا الوعي دفع بالكثير من الهيئات والحكومات الى اتخاذ خطوات أساسية وأحياناً استعراضية لحماية البيئة، ما اعتبر من أهم انجازات هذه الفترة من تاريخ البشرية. والحال أننا إذا قلنا "بيئة" فانما نعني بذلك الطبيعة، بما فيها من نبات وحيوان. وفي العالم، اليوم، كثير من المنغلقات الطبيعية التي تعتبر أماكن حماية لانواع نادرة هي في طريق الانقراض من الحيوانات. لكن الغريب هو أن الأهم والأغرب بين تلك الأماكن، هو أقلها شهرة. ولعل ضآلة شهرته هذه نابعة من بعده عن المسالك الطبيعية للسياح. فهو مجرد أرخبيل يبعد عن أدنى نقطة يابسة اليه الاكوادور ما لا يقل عن ألف كيلومتر. وهذا ما يجعله في منأى عن عبث الفضوليين، وعن همجية سياح طائرات "الشارتر". اسم الارخبيل غالاباغوس، ويقع في مياه القارة الأميركية اللاتينية. وأرخبيل الغالاباغوس عبارة عن مجموعة جزر بركانية اشتهرت منذ اكتشافها بجمالها الطبيعي وحيواناتها وطيورها العجيبة والأليفة. فهنا يمكنك الاستحمام والغوص، جنباً الى جنب، مع أسد البحر وعجل البحر. والتنزه على الشواطئ برفقة طيور البطريق، اضافة الى رؤية ما يسمى بطيور البحر البلهاء ذات الاقدام الزرقاء وهي تطعم صغارها من دون اي ازعاج. وهنا ايضا يمكنك رؤية السلاحف العملاقة التي يصل وزن بعضها الى اكثر من مئتي كيلوغرام. فالحياة البرية هنا بالتأكيد هي حياة غير اعتيادية. اكتُشف أرخبيل الغالاباغوس بالصدفة العام 1535 عندما ضل اسقف من باناما يدعى توماس دي بيرلانجا طريقه خلال توجهه من بلده الى البيرو. وما أن تجول الاسقف في الجزيرة حتى بعث بتقرير كامل عنها الى ملك اسبانيا آنذاك تشارلز الخامس وقد احتوى هذا التقرير على ما رآه الاسقف من حياة برية وبحرية وطبيعة خلابة. ولكن اهم ما احتواه التقرير كان الحديث عن وجود سلاحف عملاقة تقطن في الجزر كلها تقريباً وتسمى هذه السلاحف باللاتينية GALA'PAGO ومن هنا سميت الجزر بهذا الاسم. غير أن هذا التاريخ يجب ألا يمنعنا عن ادراك حقيقة مهمة وبديهية وهي ان سكان اميركا اللاتينية الاصليين وهم من الهنود قد اكتشفوا هذه الجزر قبل العام 1535 وهو تاريخ اكتشافها الاوروبي. في تلك الأزمان ولأكثر من ثلاثة قرون، ظلت جزر الغالاباغوس تستخدم كقاعدة لقراصنة البحر والمغامرين فضلاً عن الصيادين الذين كان بامكانهم البقاء فيها مدة طويلة وذلك لوفرة الطعام. بدأت اولى الرحلات الاستكشافية العلمية مع بداية القرن السابع عشر ولكن اهمها على الاطلاق كانت زيارة العالم الشهير تشارلز داروين العام 1835 اي بعد 300 عام من اكتشافها. مكث داروين هناك اكثر من خمسة اسابيع دوّن خلالها كل ما عرفه عن الحياة البرية والبحرية وتطورها وهو ما ساعده بعد ذلك في التوصل الى نظريته الشهيرة. ضُمت جزر الغالاباغوس الى دولة الأكوادور في العام 1832 وظلت لمدة مئة عام مزاراً يقتصر على الرحلات الاستكشافية حتى العام 1934، عندما قررت الحكومة الأكوادورية تحويل الجزر الى ملتجأ للحياة البرية والبحرية ثم اصبحت منطقة محمية يطلق عليها اسم "الحديقة القومية" اما اول رحلة سياحية منظمة الى الجزر فكانت في اواخر الستينات. يتكون ارخبيل الغالاباجوس من مجموعة جزر بركانية منعزلة تقع في المحيط الهادئ على 95 درجة غرباً من خط غرينيتش ويمر بها خط الاستواء. اما اقرب كتلة ارضية لها فهي قارة اميركا اللاتينية ولا سيما دولة الاكوادور التي تبعد حوالي 1000 كيلومتر شرقاً ودولة غواتيمالا 1600 كيلومتر شمالاً. وتغطي مساحة الجزر اكثر من 7882 كيلومتراً مربعاً موزعة على 13 جزيرة اكبرها جزيرة إيزابيلا حوالى نصف مساحة جميع الجزر، اما أعلى جبل في الأرخبيل فيوجد ايضاً على جزيرة إيزابيلا ويسمى بركان الذئب ويتخطى ارتفاعه اكثر من 1707 امتار. وهناك خمس جزر يقطنها حوالى 9000 شخص يعتمدون في معيشتهم على السياحة وصيد الأسماك والزراعة. اما باقي الجزر فهي مقصورة على الحيوانات فقط. وقد ظلت جزر الغالاباغوس تحمل اسماء كانت تارة اسبانية وطوراً انكليزية حتى العام 1892 عندما قررت الحكومة الاكوادورية تسميتها بأسماء رسمية موحدة وهي ما تعرف به اليوم. وقد تكونت جزر الغالاباغوس أصلاً منذ حوالي خمسة ملايين عام نتيجة لانفجارات بركانية تحت سطح البحر أدت الى ظهور كتل ارضية. وبعض هذه البراكين لا يزال نشطاً حتى انه قد سُجل اكثر من خمسين انفجاراً منذ العام 1535 ومع ذلك فإن هذه الجزر تعتبر حديثة التكوين بالنسبة الى باقي الكرة الارضية التي تكونت منذ بليون عام تقريباً. اما كيف اكتظت هذه الجزر بكل هذا العدد الضخم من الطيور والحيوانات؟ هناك نظرية تقول ان بعض الطيور استطاع الوصول اليها آتياً من قارة اميركا الجنوبية، اما السلاحف التي تشتهر بها الجزر فقد وصلت اليها عائمة، وذلك لقدرتها على البقاء في الماء لمدة طويلة. والعجيب في الأمر انه لا وجود لأية حيوانات وحشية كالأسود والنمور، وهو ما يفسر عدم خوف الحيوانات والطيور من الانسان اذ يمكنك الاقتراب منها وحتى لمس بعضها، لكن القانون يقف حائلاً بينك وبينها. هناك اكثر من 58 نوعاً من الطيور في هذه الجزر منها 28 نوعاً مستوطناً وهي طيور الجزر الاصلية، اما الباقي فهي طيور مهاجرة حديثاً اضافة الى عشرات الانواع من الطيور التي لم تسجل بعد نتيجة لصعوبة رؤيتها. واغرب هذه الطيور هو ما يسمى بطائر البحر الأبله ذي الاقدام الزرقاء وهناك ايضا طائر الفرقات ذو الصدر الاحمر اضافة الى صقر الغالاباغوس وطيور الفلامنغو النحام العملاقة التي يمكن رؤيتها على الشواطئ لأنها طيور بحرية تعتمد أساساً على أكل الأسماك. وتقطن الأرخبيل انواع عدة من الزواحف ولكن اشهرها الاغوانة البحرية، وهي نوع من الزواحف التي تعيش على اكل الاعشاب البحرية وتعتبر نوعاً نادراً من الزواحف يقتصر وجودها على هذه الجزر. اما الانواع الاخرى فمنها الاغوانة البرية وهي ايضا من الانواع النادرة في العالم ولا تقل اهمية من مثيلتها البحرية ولكنها اكبر حجماً وقد يصل وزن بعضها الى اكثر من 6 كيلوغرامات، وهي موجودة بكثرة على جزر ايزابيلا وسانتا كروز، وفرناندينا وجزر اليلازا الجنوبية. وتعيش هذه الاغوانة على اكل نبات الصبّار الذي يوجد بكثرة في جميع جزر الأرخبيل. وهنا نأتي الى اهم زواحف الجزر وهي السلاحف العملاقة والتي سمي باسمها الأرخبيل، وتوجد هذه السلاحف بكثرة في شمال جزيرة سانتا كروز، وتنقسم الى 14 نوعاً منها ثلاثة انواع اندثرت بالفعل منذ عهد داروين نتيجة اكتشاف الانسان الأرخبيل واعتماده أساساً على هذه السلاحف كطعام. اما الانواع الباقية فلم يبق منها سوى عشرة آلاف سلحفاة وجميعها تخضع للمراقبة التامة من قبل محطة تشارلز داروين للأبحاث التي تقع في المنطقة نفسها. اما حيوانات الأرخبيل فهي قليلة ومنها ما يسمى بجرذان الأرز وهي أتت الى هذه الجزر غالباً عن طريق السفن فضلاً عن وجود انواع اخرى كالوطواط، اما اهم حيوانات الجزر واكثرها وفرة فهو أسد البحر ويوجد تقريباً على شواطئ الجزر كلها ولا يتجاوز تعداده ال 50 ألفاً وهو حيوان عدواني نوعاً ما تنتفض عدوانيته اذا حاولت الاقتراب منه كثيراً. وهناك ايضا عجل البحر وهو شبيه بأسد البحر ويوجد بمنطقة بويرتو إيغاس على جزيرة سانتياغو. واثناء زيارتك شواطئ سانتا كروز ستلاحظ اعداداً كبيرة من الدرافيل والحيتان، اما الاسماك فقد سجل منها اكثر من 306 انواع ويتوقع اكتشاف انواع اخرى، وتنتشر هذه الاسماك في مياه الأرخبيل، وتعتبر المصدر الرئيسي للطعام لطيور الجزر البحرية وحيواناتها البرمائية. وأخيراً اذا كنت من المهتمين بالتاريخ الطبيعي فأرخبيل الغالاباغوس بالتأكيد سيساعدك في معرفة الكثير عن تكوين الأرض وبداية الحياة الحيوانية فيها