منذ صدور الجزء الأول من نقده لمؤلّف محمد عابد الجابري "نقد العقل العربي"، بدا واضحاً أن جورج طرابيشي اضطلع بمهمة موسوعية لم تترك صغيرة وكبيرة في مشروع المفكر المغربي من دون تحر ومراجعة وتصويب وإعادة تفسير. وبعد الجزء الأول "نظرية العقل 1996"، يواصل في "إشكاليات العقل العربي" الصادر عن دار الساقي، مشروعه النقدي، مناقشاً الاشكاليات التي اقترحها الجابري لقراءة العقل العربي. يتناول هذا الكتاب ثلاثاً من الإشكاليات التي طرحها الجابري، هي تلك التي تخص الإطار المرجعي للعقل العربي، من حيث بنيته اللاشعورية وعلاقة اللغة بالعقل. بالنسبة إلى الأولى، افترض الجابري وجود مرجعية ثابتة للعقل العربي تعود الى ما سماه بعصر التدوين الذي امتد بين منتصف القرنين الثاني والثالث للهجرة، وفيه تشكلت "نظرة العربي الى الأشياء، الى الكون والإنسان والطبيعة والتاريخ". جسّد ذلك العصر حاجة الدولة العباسية الحديثة العهد الى تقعيد وتسنين علوم الحديث والفقه والتفسير والنحو واللغة، أي وضع شروط ما اعتبر معرفة صحيحة. وبترافق مع السيادة السياسية للعباسيين ساد إطار مرجعي متماسك ومتحيز أنتج صورة ما سبقه من عصور كالإسلام الأول وما قبل الإسلام، وأورث العصور التي تلته نظماً معرفية ثلاثة: البيان والعرفان والبرهان. ومن تعارض هذه النظم وتداخلها نشأ الزمن الثقافي العربي الذي يصفه الجابري بالركود والاجترار. هذه باختصار أطروحة الجابري التي يعارضها طرابيشي في غير موضع. فهو لا يعترف أساساً بوجود فترة محددة زمنياً بدقة اسمها عصر التدوين، ويثير شكوكاً عميقة حول حقيقتها الفاصلة التي يراها ضرباً من الاختلاق صاغه وعي الأخلاف ليجعلوا منها "إطاراً مرجعياً مفترضاً لوعي الأسلاف" . آخر هؤلاء الأسلاف الجابري، وأوّلهم الذهبي الذي عاش في القرن الثامن الهجري وألف كتاب "تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام" الذي ورد فيه نص قصير صار مرجعاً معتمداً عن تاريخ عصر التدوين والحواضر التي انطلق منها. وبينهما، كما يلاحظ طرابيشي، رهط من الكتاب والمؤرخين، كالسوطي وابن تغري بردي والمستشرق غولدزيهر وأحمد أمين، لم يكن أحد منهم شاهداً عياناً على ذلك العصر الذي سبقهم. وخلافاً لسواه ممن اقتبسوا إشارة الذهبي عن عصر التدوين، لم يأخذ الجابري تلك الإشارة على علاتها، بل حللها كاشفاً عما سكت عنه نصها كظواهر تدوين علم الكلام، وتعريب الدواوين وتدوين السياسة. فتلك الظواهر سبقت التاريخ الذي عينه الذهبي لبداية عصر التدوين، أي في سنة ثلاث وأربعين ومائة هجرية. ومع ذلك فإن استدراكاته على نص الذهبي لم تعفه من نقد طرابيشي الذي يعتبر أنّه أغفل النظر الى دلالات الألفاظ التي استخدمها الذهبي، فخلط بين التصنيف والتدوين والتبويب. لذا يرى طرابيشي ان الجابري فهم التدوين بمعنى نقل الثقافة من الطور الشفاهي الى الطور الكتابي. ونظن أن طرابيشي ليس محقّاً، إذ تكفي مراجعة سريعة للفصل الثالث من كتابه "تكوين العقل العربي" للتأكد مما نقول. فقد أوضح الجابري في سياق تعليقه على نص الذهبي أنه "إذا ما فهمنا من التدوين مجرد التسجيل والتقييد وتحرير بعض المسائل في شكل مذكرات خاصة، فسيكون من الضروري حينئذ الرجوع بعيداً الى الوراء. وهناك فرق كبير بين عمل فردي شخصي وعمل جماعي عمومي يخص الأمة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها". ما قصده الجابري تحديداً من مفهوم عصر التدوين، ليس تاريخ الانتقال الى الثقافة المكتوبة في الإسلام، وإنما تلك العملية الفكرية المنظمة التي بدأت في النصف الأول من القرن الثاني للهجرة، واستهدفت وضع أصول العلوم الرئيسية ومجالاتها في الثقافة العربية الإسلامية. وتسلتزم هذه القطيعة، برأي الجابري، قلب معادلة التفكير في الثقافة العربية لصالح العقل البرهاني، المتحصل من الأشتغال بالعلم والفلسفة، مقابل العقلين البياني والعرفاني. لكن طرابيشي لا يقبل بالتشطير الثلاثي الذي بنى عليه الجابري تصوره، ولا يأخذ بمفهوم القطيعة المعرفية. لذلك فقد انتقد مشروع الجابري، لأنه لم يراهن على مفهوم النهضة، كما يفهمه طرابيشي، بوصفه إنفكاكاً للعقل الفاعل من أسر الثقافة السائدة، وبوصفه ثورة لاهوتية تحرر النص التأسيسي الأول من ربقة النصوص التفسيرية الثانية. والاختلاف بين النظرتين يمكن إرجاعها الى تباين تقييم الجابري وطرابيشي لما سمي بعصر التدوين. فالجابري يحمل اليه، إجمالاً، نظرة سلبية ليسند دعوته لإحداث قطيعة معرفية معه. أمّا طرابيشي فيقاربه من زاوية ايجابياته المتمثلة في إبداع عقلي امتد الى شتى مجالات الفكر. الإشكالية الجابرية الثانية التي يناقشها طرابيشي هي الخاصة بالبنية اللاشعورية للعقل العربي. فهو يعتبر أن طرح هذه الإشكالية لم يؤد عملياً الى اكتشاف جوانب الوحدة في العقل والثقافة العربيين، كما زعم الجابري، بل الى تخيل النظم المعرفية القائمة عليها في علاقة استبعاد متبادل، أو حرب "مواقع وخنادق ثابتة ودائمة" ص 278. ويعتبر طرابيشي أن الجابري فهم هذه البنية اللاشعورية فهماً غير تاريخي من خلال منطق الهوية والتماثل، ولذلك فقد استثناها من التحقيب والتمرحل وما شابهها من توصيفات توحي بالتغير والتطور... ليمهد الطريق أمام مفهومه المفضل عن القطيعة المعرفية. ويثير طرابيشي بعد ذلك سؤالاً أشمل عن مدى انطباق مفهوم البنية اللاشعورية الذي استخدمه عالم الإناسة كلود ليفي شتراوس لدراسة الثقافات الشفاهية، على الثقافة العربية ذات التقاليد الكتابية والمنجزات المعرفية الراقية. ويعقبه بملاحظة أخرى فحواها أن مفهوم البنية اللاشعورية ومفاهيم أخرى استخدمها الجابري، مثل النظام المعرفي واللاشعور المعرفي، انتزعت من معانيها الأصلية وفرضت قسراً على موضوعها. وينبه طرابيشي القارئ الى ما يظنه تناقضاً في موقف الجابري الذي يصف البنية اللاشعورية، طوراً، كمحدد خفي للعقلانية العربية، وطوراً آخر، كركيزة واعية لتلك العقلانية وُضعت أسسها في عصر التدوين. ويدلل على النقطة الأخيرة بالإشارة الى ان مكوناتها، المتمثلة في النظم المعرفية للبيان والعرفان والبرهان، قد وردت في "عناوين مئات من الكتب التراثية" ص 317. فقد استخدمها، مثلاً، القشيري في "لطائف الإشارات" للتمييز بين مسالك المعرفة، الأمر الذي دعا الجابري لاحقاً للتنازل عن حق ملكية مفهوم التقسيم الثلاثي الآنف الذكر، في حين ظل متمسكاً بدعوته الى الشروع بعصر تدوين جديد، عبر اعادة ترتيب العلاقة بين تلك النظم لصالح العقل البرهاني. فهل ان الجابري لم يفعل حقّاً سوى قراءة تراث القدماء بمفاهيم القدماء، كما استنتج طرابيشي؟ وهل ان تداول الكتاب والمفكرين القدماء للتقسيم الثلاثي لمجالات المعرفة يلغي دوره كمحدد ضمني وكمعطى قبلي في إنتاج الثقافة العربية لنفسها في عصور ازدهارها وانحطاطها؟ إشكالية اللغة والعقل هي الإشكالية الثالثة التي شخصها طرابيشي عند الجابري، وخصها بفصل طويل توافر على محاججة تفصيلية في أسلوبها وغنية في محتواها. موضع الجدل هنا هو نظرة الجابري اللاتاريخية، ذات الأحكام المعيارية المسبقة عن اللغة والعقل العربيين. فهذه النظرة قادته الى "جبرية لغوية" أطبقت على العقل في سجن لغة صنعها الأعراب، وعكست عالمهم الصحراوي وتفكيرهم الحسي، ان لم نقل البدائي. فداء العقل العربي، وفق منطق الجابري، يكمن في اللغة ذاتها الفقيرة بمصطلحاتها، الجامدة بتراكيبها والعقيمة بمنطقها. وفي رده على هذه التعميمات لا يتردد طرابيشي عن وصف الجابري بعقد مضاربة تبخيسية على اللغة العربية، تجاوزت مواقف آباء الاستشراق كأرنست رينان صاحب نظرية تفوق اللغات الآرية على اللغات السامية في محمولها العقلي. ويقيم طرابيشي أطروحته النقيضة على حجج منها، أن اللغة العربية، كبقية لغات العالم، تحدد العقل والثقافة وتتحدد بهما، لذا فإن تخلفهما ليس من مسؤولية اللغة بينما يصح العكس. ويشير إلى أنّها لم تكن، في أي طور من أطوارها التاريخية، لغة بدوية خالصة، وانما حملت تأثيراً مزدوجاً للبدو والحضر، لعالم الصحراء ولعالم المدينة، لبلاغة الشعراء ولدقة المصطلح الفلسفي. ان اللغة العربية حسب طرابيشي لم تتحجر فتكفّ عن مواكبة التاريخ، بل مرت بتحولات أو طفرات، كان آخرها الطفرة المعاصرة منذ النصف الثاني من القرن العشرين. ويشتمل هذا الفصل على مادة معرفية غزيرة يمكن أن تقرأ لذاتها، اذا ما وجدها القارئ فائضة عن حدود السجال. أما من الناحية النظرية، وعلى رغم الاجتهاد الواضح لطرابيشي في تفكيك إشكاليات الجابري، فإن المؤلّف لم يتوقف بما فيه الكفاية عند التأثير البنيوي في تفكير الجابري. فإشكالياته التي بدت لطرابيشي مغلقة ومنتزعة من صيرورة التاريخ، كانت تستحق مناقشة أوسع من زاوية المنهج الذي جعلها تبدو متماسكة ومعقولة