انتقلت السلطة في البحرين، في هدوء، على رغم مظاهر الحزن، الى الامير الجديد الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، إثر وفاة والده الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة. وعين الامير الجديد أكبر أنجاله الشيخ سلمان بن حمد ولياً للعهد. وكان غياب الشيخ عيسى المفاجئ، عقب اجتماع عقده مع وزير الدفاع الاميركي وليام كوهين، قد أحدث صدمة عميقة في البحرين والعالم العربي والاسلامي. وانعكس الهدوء الذي اتسمت به إجراءات انتقال الحكم الى الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة استقراراً إضافياً عم مؤسسات القطاع المصرفي الذي يمثل أهم مركز مالي في منطقة الخليج العربي. وبات في حكم المؤكد أن الامير الجديد سيواصل نهج السياسة الخارجية الذي انتهجه المغفور له الشيخ عيسى. وأثار رحيل الشيخ عيسى بن سلمان أسى شديداً في البلاد، إذ ظل يحكمها منذ العام 1961، الى درجة يصح معها القول إنه باني نهضتها الحديثة التي شهدت خروجها من الاعتماد على الاقتصاد التقليدي لتصبح مركزاً مهماً للعمل المصرفي والمالي، ولتتحول دولة قادرة على تنويع مصادر دخلها على رغم محدودية مواردها. ويذكر البحرينيون والاجانب الذين يرتادون البلاد للعمل أو الزيارة أن الشيخ عيسى كان يفتح أبواب مجلسه للقاصي والداني، باذلاً أقصى جهده لحل مشكلات من يستنجدون به. القطاع المصرفي ولا يتوقع - إثر التغيير الذي أملته وفاة الشيخ عيسى، أن تحصل تغييرات في القطاع المصرفي المربح الذي يضم نحو 45 وحدة مصرفية خارجية ونحو 19 مصرفاً تجارياً تصل جملة أصولها المجمعة الى حوالى 87 مليار دولار. كما يتوقع أن يتواصل في عهد الامير الجديد الشيخ حمد نمو قطاع الاتصالات الذي اجتذب مجموعة من أكبر الشركات العالمية، وأفاد التطور في هذا المجال في تحديث القطاع المصرفي وتطوير البنية الصناعية للبلاد. وتمثل السياسة الخارجية لهذه الجزيرة الصغيرة التي لا يزيد عدد سكانها على 580 ألف نسمة عنصراً مهماً من عناصر تعزيز الاستقرار الذي تنعم به. ويشار بوجه خاص الى وجود قيادة الاسطول الاميركي الخامس في البحرين. كما أن البحرين قدمت تسهيلات كبيرة للقوات المتحالفة أثناء أزمة الغزو العراقي للكويت. ويتصل ذلك الجانب بالوضع العسكري للبحرين، خصوصاً أن الولاياتالمتحدة أعلنت أنها توصلت الى اتفاق مع المنامة تبيعها بموجبه صواريخ جو-جو أميركية متطورة من طراز "أمرام" من شأنها تقوية الدفاعات البحرينية في وجه أي خطر قد يدهمها. وتأتي أهمية هذا الجانب في ضوء الحقيقة المتمثلة في أن الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة عسكري محترف. وقد تمرس في شؤون الحكم تحت رعاية والده الراحل الذي عينه ولياً للعهد منذ العام 1964، مما سيساهم في توليه مقاليد الحكم بشكل أفضل. وعلى رغم الصلات الوطيدة بين البحرين والقوى الأجنبية الكبرى، فإن المراقبين أجمعوا على أن الشيخ حمد سيضع مصالح بلاده وما يراه ملائما ًلتحقيقها قبل كل اعتبار آخر. وأشاروا الى أن الامير الجديد ورث عن أبيه الراحل الجرأة في إدخال التكنولوجيا الحديثة والقدرة - في الوقت نفسه - على تجنب إثارة نفور ذوي الاتجاهات المحافظة. وأقام الشيخ حمد على مدى السنوات الأخيرة علاقات وثيقة مع كبار المسؤولين في الدول الاعضاء في مجلس التعاون الخليجي وبعض البلدان العربية كالاردن. وتجلت تلك الروابط في تعدد الوفود التي وصلت الى المنامة لتقديم التعازي الى الاسرة الحاكمة. وكان ملحوظاً بوجه خاص حرص عدد من أبناء الزعماء العرب على السفر بأنفسهم الى البحرين لتقديم واجب العزاء، مما عده المراقبون امتداداً لظاهرة بدأت في مأتم العاهل الاردني الراحل الملك حسين بن طلال. وقال محلل غربي إنه يعتقد بأن الامير الجديد "رجل عملي له رؤى واضحة في شأن المسائل الاقليمية والدولية، وكان والده رجلاً حكيماً في تشديده المستمر على مراعاة التقاليد العربية الخليجية في التعامل مع الدول الاخرى وفي حل القضايا المحلية". وأضاف: أتوقع أن يتحرك الشيخ حمد سريعاً عند مواجهة التحديات وبأسلوب أشد حزماً، لكن ذلك لا يعني أنه سيكون أقل أو أشد تأييداً للغرب". وهي إشارة الى العلاقات الوطيدة التي ارتبطت بها البحرين على مدى عقود مع الولاياتالمتحدة وبريطانيا. وفي المقابل فإن واشنطن ولندن تعتبران الامير الجديد "صديقاً جيداً لنا معه علاقة عمل وثيقة". وتوقع أن يبقى الاعتدال القاعدة في التعامل مع الأوضاع الداخلية وان يستمر الموقف على حاله في الخلاف مع قطر. وسيكون ولي العهد الامير سلمان بن حمد خير عضد لوالده، ويتوقع أن يقوم بدور مهم في العناية بالقطاعات الشبابية والرياضية، وهي مجالات عني بها والده منذ السبعينات. ويذكر أن الامير الجديد رعى على مدى سنوات مركز الوثائق التاريخية الذي نجح في غضون سنوات في جمع مادة وثائقية ضخمة عن تاريخ البحرين وسجلها في استعادة عروبتها والابقاء على صلتها مع بقية البلدان الخليجية. ويتوقع أن يتخذ آمير البحرين قرارات اقتصادية في الفترة المقبلة في سياق المساعي للحفاظ على التوازن الاقتصادي أمام تراجع أسعار النفط، غير أن المراقبين يجمعون على أن البحرين ستبقى واحة للاستقرار المالي والاقتصادي، مستفيدة من نجاح أميرها الراحل في بناء قطاع قوي للخدمات التي تعتبر أحد المقومات الأساسية لاقتصاد البلاد. وتعتبر البحرين، وهي ارخبيل يتكون من نحو 35 جزيرة، أول بلد خليجي يكتشف فيه النفط العام 1932، وإن كان يعتقد بأن احتياطها النفطي آخذ في النضوب. وتنتج حالياً نحو 38 ألف برميل يومياً، غير أنها ليست عضواً في منظمة الدول المنتجة للنفط أوبك. وتفيد الدولة من إمكاناتها السياحية العالية التي تستقطب عدداً كبيراً من السياح العرب والاجانب، الى جانب الزوار الذين تستضيفهم المنامة لحضور المؤتمرات والمعارض التي حققت البحرين سمعة طيبة في تنظيمها. ويعزى الى الشيخ عيسى بن سلمان الفضل في تحويل بلاده الصغيرة همزة وصل حقيقية بين آسيا واوروبا. وكان لافتاً في تجربة البحرين في ظل قيادة الامير الراحل أنها درجت على اعتماد موازنات مالية تغطي سنتين متتاليتين اعتباراً من العام 1978، الامر الذي أتاح للدولة النهوض ببرامج تنموية طموحة، وخطط اجتماعية واقتصادية كان لها أثر كبير في تطوير البلاد وتسهيل معيشة السكان والوافدين. وعلى رغم أن الهبوط الاخير في اسعار النفط كان له تأثير ظاهر في بعض اقتصادات دول الخليج، فإن نجاح البحرين في تنويع مصادر دخلها منذ فترة مبكرة أتاح لها النجاة من التأثيرات السلبية المشار اليها. وواكبت الطفرة الإنمائية عناية برعاية البحرينيين طبياً واجتماعياً وخدمياً، وهو مجهود ما كان ليتحقق لولا حرص السلطات على أن يكون للانفاق على تلك الجوانب النصيب الاكبر في الموازنة المرصودة لتلك البرامج في الموازنة العامة للدولة. ورافق ذلك تنفيذ عملي دقيق للفلسفة القائلة إن الإنسان هو أساس التنمية، وإن العناية بتنمية الموارد البشرية أهم من العناية بالموارد الطبيعية، أو التي تأتي قبلها على الأقل. وكان الامير الراحل أشد حرصاً على علاقات بلاده بالدول الخليجية المجاورة التي تقتسم معها مصيراً واحداً وتواجه مثلها تحديات مشتركة. وربما تبدى ذلك الحرص في افتتاح مشروع جسر الملك فهد الذي يربط البحرين بالمملكة العربية السعودية فوق الخليج العربي بطول يصل الى 25 كيلومتراً. وبالفعل فإن السعودية تعتبر أكبر شركاء البحرين في التعاون التجاري والاقتصادي. ويمثل الجسر ثمرة تعاون صادق بين خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز والامير الراحل. ولا شك في أن الشيخ عيسى ترك لأكبر أنجاله إرثاً من النجاح والقدرة على الصمود بوجه العقبات، مما سيكون خير زاد لأمير البلاد الجديد في سياق مساعية لمواصلة المسيرة