سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
صاحب "العصفور الأحدب" يفتح قلبه ل "الوسط" بعد سنوات من الصمت . محمد الماغوط : بدايتي الفعلية كانت في السجن والوطن العربي مقهى والدول طاولات تخدمها الشعوب 1 من 2
بعد سنوات من الصمت، نُشرت خلالها أحاديث وحوارات صحافيّة منسوبة إليه، قرّر محمد الماغوط أن يفتح قلبه ل "الوسط"، في مناسبة صدور أعماله الكاملة ومسرحيّته "خارج السرب" عن "دار المدى" في دمشق. ومن صومعته الدمشقيّة، تحدّث الشاعر الكبير الذي خرج من جبّته رهط من أبرز شعراء قصيدة النثر، عن بداياته وخيباته ويأسه و"إحساسه بالعار القومي". تحدث عن السجن الذي "يحمله على ظهره مثل ماكيت مجسّم"، وعن رفاق مجلّة "شعر"، عن السلميّة مسقط رأسه "على تخوم البادية وتخوم المدينة وتخوم الريف"، عن بيروت التي عاش فيها بعض سنواته الخصبة، فكانت له "ضماداً من الحب والكرامة والحنان"، وعن "مقهى أبو شفيق" الذي يرفض أن يعود إليه على عكّاز. "البشر يكبرون وينسون، وأنا أكبر وأتذكّر" يعترف صاحب "حزن في ضوء القمر" في هذا الحوار الذي ننشره على حلقتين. يصعب أن يصادف المرء رجلاً أكثر ارتباكاً من محمد الماغوط. كأنه القلق في ثياب رجل. خلال حديثنا معه الذي تم على جلستين، واستغرق أكثر من ست ساعات، لمسنا عن كثب تلك الطبيعة البشرية التي أعطت كل هذا الابداع، وفهمنا أي رجل حزين هو هذا الساخر الكبير. عندما فتح لنا الباب، ألفيناه متجهماً، قلقاً، مرتبكاً، كأنه شعر فجأة بأنّه تورط في الموافقة على اجراء الحوار... ولعله راح يفتش عن طريقة للتملّص من هذه الورطة. جلسنا قليلاً فلم ينبس ببنت شفة، بادرناه: هل نبدأ؟ قال: "لننتظر قليلاً، أنا الآن مثل نهر مرت عليه خيول وقطعان وحوافر ودبابات، احتاج الى فترة من الزمن حتى تهدأ الرمال ويترسب الحصى في داخلي". قلت له ما الذي يعكرك؟ قال: "الصواريخ الأميركية والبريطانية". كانت رفيقة دربك الراحلة سنية صالح تقول إن فترات الخصب عندك تتزامن مع الأزمات؟ - في الأوقات العادية أكون شخصاً عادياً جداً، وفي الأزمات أكون محمد الماغوط. قصف أي قرية لبنانية هو قصف شخصي لي، أشعر أن الصواريخ الأميركية والبريطانية موجهة لي شخصياً. البشر يكبرون وينسون، وأنا أكبر وأتذكر، جوهر المشروع الصهيوني قائم على هذه الحقيقة، بن غوريون كان يقول ان الكبار يموتون والصغار ينسون، وأنا حتى الآن لم أمت ولن أنسى. متى بدأت لديك ثنائية العصفور والقفص؟ - بداياتي الأدبية الحقيقية كانت في السجن. معظم الأشياء التي أحبها، أو اشتهيها، وأحلم بها رأيتها من وراء القضبان، المرأة، الحرية، الأفق. حتى بعد أن خرجت من السجن بسنوات طويلة بقيت هذه الثنائية متواجدة في ما تكتب. - أنا أحمل السجن على ظهري، تماماً مثل ماكيت مجسّم. هل مكثت طويلاً وراء القضبان؟ - الزمن ليس هو المعيار. كان الأمر جديداً علي كل الجدة، كان السجن في مخيلتي مكاناً للمجرمين: السارق والقاتل وطالب الثأر. هذا المجرم يعرف أنه محكوم بجناية معينة وعقوبة محددة، يقضي وقته بصنع أطواق الخرز وتنتهي القضية. أما أن تُسجن وتهان وتعذب بسبب فكرة، هذا ما جعلني أشعر أن شيئاً تحطم في أعماقي غير الاضلاع، شيء أهم من العظام. لماذا اعتقلت؟ - كنت عضواً في الحزب السوري القومي، وليس في حزب البعث، كما ورد قبل أيام في مجلة "مرايا المدينة" التي ذكرت بأنني انتسبت للبعث في الثالثة عشرة من عمري. هل دخلت الحزب عن قناعة؟ - كنا مراهقين، وكان الأمر أشبه بالتقليد الاجتماعي، تماماً كالزواج. كان من المفروض أن يدخل الانسان حزباً، لكن سرعان ما شعرت بالسأم من الخطابات والتنظير. كان احساسي بالظلم والعار القومي أكبر بكثير من أي منشور سياسي أو خطاب في مهرجان. فماذا يعنيني من السفن الفينيقية التي كانت تعبر المحيطات والبحار، وأنا لا استطيع أن أعبر زقاقاً موحلاً طوله متران؟ إذاً دخولك الى الحزب القومي كان مصادفة؟ - محض مصادفة. كان في بلدتنا السلمية حزبان، وكان الجو بارداً، حزب قريب من بيتنا وفي مقره مدفأة، وحزب بعيد ولا مدفأة لديه. وأنا اخترت الحزب الأقرب الذي فيه مدفأة، وحتى الآن لم أقرأ صفحتين من مبادئه على الرغم من أنني سجنت بسببه عشرين مرة. ماذا كنت تقول للمحقّقين الذين يقومون باستجوابك؟ - كان الاعتقال عشوائياً، ولا مجال للتحقيق فيه. مبدأ الاعتقال الكيفي كان جديداً. قبل السجن كنت تكتب؟ - كانت عندي اهتمامات شعرية، ومحاولات كتابية لكن تجربة السجن فجرت طاقتي. متى غادرت الحزب؟ - أنا بطبيعتي فوضوي، لم أنتسب بشكل منطقي ولم أغادر بشكل منطقي. كانت لدي حاجة ما للانتماء كوني فقيراً مسحوقاً، وكان الحزب يشكل نوعاً من الحماية لشخص لا يملك مالاً ولا جاهاً. متى غادرت السلمية؟ - في سن الرابعة عشرة، عندما اعتقلت لأول مرة، بين 1955 و1956. وكان المكان الأول الذي أزوره خارج السلمية سجن المزة. كيف كنت ترى السلمية؟ - مشكلة السلمية أنها تعيش على تخوم البادية، وتخوم المدينة، وتخوم الريف. كنت أراها محاطة بفوهات البراكين المطفأة، التي كانوا يقولون إنها أبراج قلاع، ولها أسماء. ما الأحاسيس التي انتابتك وأنت تغادرها للمرة الأولى؟ - من الصعب أن أستعيد الآن احساساً عمره أربعون سنة. كل ما أتذكره من السلمية وحل وبرد وأحلام، من دون أية تفاصيل. لماذا توجهت الى بيروت؟ - في فترة الوحدة مع مصر، كان ثمة تضييق كبير على حرية التعبير والأحزاب. ذهبت لأنني كنت مطلوباً هنا. لم تقصدها لأنّها كانت عاصمة ثقافية؟ - كلا على الاطلاق. لقد فررت اليها فراراً، وقطعت نصف الطريق مشياً على الأقدام. وهناك تعرفت إلى أدونيس؟ - لا، كنت قد تعرفت إليه وراء قضبان سجن المزة. وعندما ذهبت الى بيروت التقيته وشاعر آخر، قومي الانتماء، هو نذير العظمة. وكان أدونيس متحمساً للشعر، يعيش بهاجسه، فاهتم بي واحتضنني هو ويوسف الخال. لا اجيد غير العربية المعروف أن أدونيس هو الذي قدمك للوسط الثقافي البيروتي. كيف حصل ذلك؟ - لم أكن أعرف بالأمر. قيل لي إن أدونيس قرأ بعض قصائدي في فندق البلازا، ولم يقل إنها لي في بادئ الأمر. كنت شبه مقيم في مقهى "أونكل سام"، فأتى إلي أشخاص مهتمون بالأمر وهنأوني، ولأول مرة شعرت بأهمية ما أكتب. بعد ذلك التقينا في بيت يوسف الخال، مع نازك الملائكة ويوسف غصوب ورفيق المعلوف والرحابنة وغيرهم، وأصبحت أدعى للغداء والعشاء. وأنا بحكم جوعي التاريخي كنت أقبل جميع الدعوات. وتبين لي أنني كنت لاجئاً اقتصادياً في بيروت لا لاجئاً سياسياً. بيروت كانت بالنسبة إلي مثل جبيرة الجبس لليد المكسورة. كنت محطماً وكانت ضماداً من الحب والكرامة والاحترام والحنان. أما أدونيس، فصحيح انه قدمني في الخمسينات للوسط الثقافي البيروتي، لكنني أعتقد أنه لا يمانع اليوم في تقديمي لمحكمة "نورمبرغ"! كيف سارت علاقتك بعد ذلك مع جماعة "شعر"؟ - لم أكن أتكلم في اللقاءات التي كانت تتم أغلب الأحيان في بيت يوسف الخال. كنت أسمع أحاديث عن شعراء وأسماء لا أعرفها، فأنا لا أجيد لغة غير العربية. كنت أصمت خلال الحوارات والنقاشات، وعندما يحضر الطعام آكل. كان يوسف الخال وزوجته يعدّان الطعام لاسبوع كامل، على الطريقة الأميركية، وفي احدى المرات قلت: لم نُبق أنا وفؤاد رفقة على شيء في البراد سوى الماركة. كثيراً ما انتقدت يوسف الخال في مقالاتك وحواراتك، اما هو فكان دائم الاحتفاء بشعرك وبتجربتك، حتى انه كتب في احدى مقالاته: هبط علينا محمد الماغوط مثل آلهة اليونان. ما الانطباعات التي تحتفظ بها الآن عنه؟ - تعرفت إلى يوسف الخال في الفترة التي نشر فيها ديوانه "قصائد في الاربعين"، وكان عمري يومذاك 23 سنة. كانت طموحاته بتطوير حركة الشعر العربي اكبر من طاقته. وهو كانسان اهم من شعره بكثير. حتى وهو ينطفئ كان يضيء الآخرين. وأنسي الحاج؟ - أنسي طاقة انسانية جبارة، شعرية ونثرية وعاطفية، ولولا خوفي من اميركا لقلت طاقة نووية. اكثر ما احب في الانسان الموقف، وأنسي رجل موقف، لا مواقف. وشعره؟ - احياناً ساقية صافية، افضل من نهر عكر ومسموم. وماذا عن سعيد عقل؟ - نرجسيته مثل لهيب البركان، ليست خاوية. إذا كان قراء هذه الايام أصبحوا نرجسيين فهل نلوم الشعراء؟ هل تعتقد بأن عدم معرفتك لغة أجنبية ساهم في تفردك؟ - لم أفكر طيلة حياتي بتطوير الشعر، أو بتفرد صوتي، وأنا حتى الآن لا أفرق بين شعري ونثري. لم اختلف مع احد صمتُك خلال جلسات جماعة "شعر"، ألم يُثِر حفيظة أي من الحاضرين؟ - كنت صغيراً في السن، وخارجاً لتوّي من السجن، وجائعاً ومشرداً... هذه الأشياء أخذوها بعين الاعتبار ولم يجعلوني أشعر بالغربة لحظة واحدة. كيف اختلفت معهم؟ - لم اختلف طيلة حياتي مع أحد، أنا كما أنا ولم أتغير. لكنك كتبت ضدهم... - أنا مكشوف مثل سهل البقاع أو الزبداني، لا توجد عندي حسابات أو مواقف معلنة ومواقف مبطنة. إذا رأيت خطأ ما، لا استطيع أن أتغاضى عنه، بل أقوله حتى لو كان فيه "خراب بيتي". ويبدو أن تلك المرحلة كانت بداية لستر العيوب والأخطاء وتبريرها، كنت أشعر أن مهمتي كانسان وليس ككاتب أن أفضحها. من هنا كانوا يقولون انني جريء، أنا لست جريئاً ولكني صادق مع نفسي. لا استطيع أن أكون جباناً قبل الظهر، وشجاعاً بعد الظهر، يسارياً عند العصر ويمينياً عندما يهبط الليل، ناصرياً في الربيع وشيوعياً في الشتاء. كنت أنا نفسي في جميع الفصول والأوقات والأزمات، ولم أتغير حتى هذه اللحظة. وكل هذه الهزائم ألم تغيرك؟ - على العكس هذا يجعلني أشعر بأهميتي كانسان عربي، عند الأزمات القومية الكبرى قد اتشاءم، أحزن، أنفعل، أكسر ما تقع عليه يدي... لكن طوال عمري لم أصل الى اليأس المطلق. قلت إن طاقاتك تتفجر عند الأزمات، وهي كثيرة في السنوات الأخيرة، لماذا لم نقرأ لك جديداً؟ - الكتابة عندي عزاء شخصي لا سعي إلى الشهرة والمجد. اكتب أكثر بكثير مما أنشر، فمشكلة الكاتب العربي الآن، كثرة التحفظات والموانع والمحرمات. إنّه كمن يريد أن يستحم في الشارع من دون أن يراه أحد. أقصد الشعر لماذا لم تعد تكتبه؟ - في كل ما أكتب هناك شعر، هناك قصيدة ما. لا استطيع أن أجلس خلف طاولة وأقول أريد أن أكتب قصيدة جديدة أو مسرحية. أحياناً في منتصف الصفحة تقرأ قصيدة واسم دواء. عندي أشياء كثيرة لم أنشرها. سمعنا عن مجموعة قيد الاعداد بعنوان "غرب عدن شرق الله"... - نعم، كل ما كتبته سأنشره تحت هذا العنوان، ومن الممكن أن يكون أكثر من كتاب. ومقهى "أبو شفيق" لماذا لم تعد تذهب إليه؟ - كنت أسير إليه مشياً على الأقدام، والآن لن أعود إليه بعكاز! ثم ان مصاطبه الخشبية العتيقة صارت من الاسمنت، لأن إحداها سقطت مع زبائنها في النهر. والشلال الذي كان يتدفق من نهر يزبد هادراً ومتوزعاً في عدد من السواقي، بين أرجل الزبائن، هذا الشلال منذ فترة ليست بالقصيرة بات يهدر فجأة ويسكت فجأة كأنه تابع لوزارة الاعلام. قضيت وقتاً طويلاً من عمرك في المقاهي... - نعم. وبعد هذه العشرة الطويلة، اكتشفت أن الوطن العربي عبارة عن مقهى واحد، والدول طاولات متفرقة تقوم على خدمتها الشعوب 51 - 52 - 53 - حوار نخبة مجلة شعر عنصر المأساة في المعركة الدائرة بين الشعر العربي الأصيل، والشعر الحديث الذي تتزعمه "مجلة شعر" هو كونها معركة غير متكافئة، من جهة وطويلة النفس من جهة أخرى، كمعارك اللاوس وفيتنام الشمالية. فبدلاً من أن تبقى المعركة رياضية، أو جدلاً فكرياً لا غنى عنه لتحديد اتجاه سفينة الفكر العربي أمام هذا الفيضان، تحاول قلة من "الرادحين" الفتيان، وممن قبلهم القارئ العربي مجاملة أو على مضض طرفاً كاملاً في هذه المعركة، تحاول هذه القلة المستحيل لتحطيم تلك السفينة على الصخور، وإغراقها فور نزولها مياه البحر ... عندما يقف "تشومبي" الشعر الحديث الأستاذ يوسف الخال في مؤتمر الطالب العربي المعاصر في روما ليقول أمام جمهرة من الغرباء والمستضلعين والمستشرقين: صحيح أن البعوضة تدمي مقلة الأسد فحسب... ولكن إذا تكاثر البعوض فعلى الأسد أن يزأر، أن يحرك عنقه على الأقل ... قد يكون التصرف في الانحناء أمام عظمة التراث الغربي، والتهام ما جاد ويجود به، ومقارنته صدفة واعتباطاً بالتراث العربي، هو السبب المباشر لهذا الخلل الواضح في مقاييسنا الفنية، وحكمنا على الأشياء ... وإذا أمعنا النظر في محيطنا الأدبي المترامي الأطراف، لوجدنا أن النخبة الوحيدة التي تعتز بهذا المرض وتدافع عنه وتنميه، هي نخبة "مجلة شعر" قل لأحدهم ثلاث مرات المتنبي... يسقط مغمى عليه. بينما قل له وعلى مسافة كيلومتر: جاك بريفير... فينتصب ويقفز عدة أمتار عن الأرض كأنه شرب حليب السباع ... إن الذي خلق هذا الشعور وغذاه هم جماعة مجلة شعر أنفسهم. العلة ليست أبداً في التراث، بقدر ما هي في النفوس في نفوسهم هم، بارزة بكل وضوح في أشعارهم وأحاديثهم وسكسوكاتهم! × مقتطفات من مقال لمحمد الماغوط منشور في جريدة "الأنوار" البيروتية عام 1962 بعنوان "نخبة مجلة شعر" الشتاء الضائع بيتُنا الذي كانَ يقطنُ على صفحة النهر ومن سقفه المتداعي يَخطُرُ الأصيل والزنبق الأحمر هجرته يا ليلى وتركتُ طفولتي القصيره تذبُلُ في الطرقات الخاويه كسحابةٍ من الوردِِ والغبارْ غداً يتساقط الشتاءُ في قلبي وتقفر المنتزهاتُ من الأسمالِ والضفائر الذهبيّه وأجهشُ ببكاء حزين على وسادتي وأنا أرقبُ البهجة الحبيبه تغادرُ أشعاري إلى الأبد والضبابُ المتعفّنُ على شاطئ البحر يتمدّد في عيني كسَيْلٍ من الأظافرِ الرماديّه حيثُ الرياحُ الآسنه تزأر أمام المقاهي والأذرعُ الطويلةُ، تلوحُ خاويةً على الجانبين ... فأنا جارحٌ يا ليلى منذ بدء الخليقةِ وأنا عاطل عن العمل أدخّن كثيراًَ وأشتهي أقرب النساء إليّ ولكَم طردوني من حارات كثيره أنا وأشعاري وقمصاني الفاقعة اللون غداً يحنّ إليّ الأقحوانْ والمطرُ المتراكمُ بين الصخور ... فاعطوني حريّة التلصص من شقوق الأبواب وبُنيةً جميلة تقدّم لي الوردَ والقهوة عند الصباح ... لأركض كالبنفسجة الصغيرة بين السطور لأطلقَ نداءات العبيد من حناجر الفولاذ. مقطع من قصيدة "الشتاء الضائع" من مجموعة "حزن في ضوء القمر" من يوميات يوسف الخال كم هو لذيذ أن تطل عليك بين الحين والحين، من صفحة مجلة أو جريدة صورة رفيق لك في السلاح. فتروح تتأمل ملامحها بعمق، كأنما ترى صاحبها للمرة الأولى. ويزداد شعورك، بغبطة، حين تقرأ ما يقول، فتجد في الكثير منه ما تريد أن تقوله أنت. هذا ما حدث لي، وأنا أفتح صفحات "الأسبوع العربي". كان وجه محمد الماغوط هناك وكانت اصبعاه تطبقان على فمه بسيكارة لم يبقَ منها إلا العقب، راح يمتصه بشراهة وعنف، لا بشفتيه بل بكامل وجهه. وكانت عيناه مطبقتين كريشتي عصفور أسود. وعادت بي الذاكرة سنوات إلى الوراء حين كنا لا نعيش إلا للشعر والحلم. كنا نطمح إلى تغيير الواقع المرير بالكلمة الصادقة، وكانت كلمة محمد الماغوط مثالاً لنا وقدوة. وتوالت الأيام، فماذا بقي لنا؟ بقي لنا الشعر والحلم، لكن الواقع المرير أصبح أمرّ. وبدل أن نغيّره، غيّرنا هو... الأحد /12 /9 1971