سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الفنان المولع بالصخب يحتفل بغربته المديدة ويعتبر نفسه محظوظاً لخروجه من الدائرة الضيقة . داعياً إلى اعادة النظر في تاريخ الحركة التشكيلية العراقية . ضياء العزاوي : مؤسساتنا الثقافية لا تحسن غير المآدب
"إذا حصرنا "جلجامش" في هويته العراقية لن يكون أكثر من بطل حكاية قديمة، على الفنّان الذي يتعاطى مع التراث أن يركّز على بعده الانساني"، هكذا يلخّص ضياء العزّاوي نظرته إلى الفنّ، معتبراً الابداع حصيلة جهد جماعي، يتعارض حكماً مع "فنّ الممكن"! والرسّام العراقي المتعددّد الآفاق الذي يحتفل هذه الأيّام بميلاده الستين، يعتبر اليوم من أبرز رموز الحركة التشكيليّة العربيّة، إذ يجرّ وراءه تاريخاً حافلاً بالانجازات والتحوّلات. بدأ متأثّراً بجواد سليم ودخل جماعة الانطباعيين، ثم تنقّل بين التجارب، وها هو يدعو إلى اعادة النظر ببعض المسلّمات التاريخيّة، رافضاً نظريّات شاكر حسن آل سعيد وانجازات "جماعة بغداد" الشهيرة. في لندن حيث يقيم منذ سنوات طويلة، التقيناه. عندما يتحدث الفنان ضياء العزاوي عن تجربته، نستطيع أن نجر المقاييس إلى أبعاد أوسع مما يرد في سياق الحديث، فهو حاضر في محطات أساسية في الفن التشكيلي العراقي والعربي، وبين تلك المحطات يجد في البحث والاكتشاف ويكرس مفاهيم ومعايير بصرية تختصر الكثير مما أحاط بالفن التشكيلي العربي. فنان مولع بالصخب، تكتشفه في حركة عابرة على سطح اللوحة تشعل حرائق اللون وتعيد تركيب الاشكال بمنطق يجعل ما عداه محض كسل ورتابة. التاريخ، الغرافيك، النص الأدبي، المجسمات واللوحة أيضاً يشكلها وفق مزاجه الخاص بحساب دقيق بين الحذر والمغامرة... المغامرة... في كل مرة أشاهد أعماله اتساءل: ماذا أبقى لها؟ وماذا أبقى للكشف لو أنه اختار مجالاً آخر غير الفن؟ هو يقول ان المصادفة قادته إلى الفن، ربما تكون مصادفة ذكية قادت هذا المشاكس العنيد بعيداً عن القواعد والأرقام، هنا وجد ما يستدرجه إلى المزيد... تجربة جديدة... اكتشاف جديد ومعه أيضاً كلام جديد. اعادة كتابة التاريخ ! حدّثنا عن بداياتك. ما هي المصادر الاولى والعوامل المؤسسة لتجربتك الشخصية؟ - البداية المهنية التي تعني عندي القناعة بجدوى الفن كانت عندما دخلت كلية الآداب وتعرفت الى الفنان حافظ الدروبي الذي كان يدير مرسماً حراً في الكلية. هناك التقيت مجموعة من الشباب يتمتعون بحيوية نادرة ويسعون بجد الى تحقيق افكار ومشاريع جديدة، كنّا مجموعة من الطلاب الحالمين بمستويات ثقافية وابداعية متفاوتة، وكان يلمّنا شمل الصداقة التي أشاعها استاذنا الفنان حافظ الدروبي بديلاً من المنهج المدرسي الرتيب. دفعني هذا المناخ الى دخول معهد الفنون الجميلة عندما كنت في السنة الثانية من دراستي في كلية الآداب، في ذلك الوقت كان لكل استاذ اسلوبه ومنهجه التعليمي الذي يتعصّب له ولكن رغم ذلك لم يعترض حافظ الدروبي عندما وجدني أدرس الفن في معهد الفنون، وكان قد جاء ليحلّ محلّ الفنان فايق حسن موقتاً. كنت قريباً الى اسلوب الفنان جواد سليم وكذلك فايق حسن وكاظم حيدر. دخلت في جماعة الانطباعيين لاعتبارات الصداقة فقط، وكان التأثير الحاسم لجواد سليم منذ البداية، واهتمامه بالتراث حوّل دراستي للآثار من الواجب الاكاديمي الى الابداع. في تلك الفترة تجد تأثير الفن السومري واضحاً في اعمالي. وقد كان شغف جواد سليم بالتراث البصري لا يخضع لنسق تاريخي دقيق، ففي الخمسينات انجز ملصقاً جمع فيه "نابو" وزوجته وتكويناً اسلامياً من فترة متأخرة، لفت هذا الملصق نظري الى مصادر جمالية غاية في التنوع والفرادة. واذا ما عدنا الى اعمال جواد سليم التي لم تدرس بشكل واف، نجد ان الكلام الذي قيل في فصول من "الحركة التشكيلية في العراق" لشاكر حسن، فيه الكثير من الرغبة في اعادة كتابة تاريخ الحركة التشكيلية. فهو يعتبر توجه جواد سليم للتراث وسيلة لايجاد اسلوب مميز لمجرد عمله القصير في المتحف العراقي الذي كان تحت ادارة ساطع الحصري، اي ان توجهه سياسي بالاساس وليس ابداعياً. كما يعتبر أن تأسيس جماعة بغداد يعود الفضل فيه الى الحسني وشاكر حسن في حين يدّعي ان جواد سليم كان متردداً… بينما التاريخ يشير ويؤكد ان الجماعة، بعد وفاة جواد، لم يعد لها الحضور الفعّال الذي كانت عليه عندما كان حياً. أما اندهاش جواد سليم بالواسطي عبر بعض الأعمال - لأن اعمال الواسطي لم تنشر كاملة الا خلال السبعينات وبشكل سيء - فهو يعود الى حساسيته وولعه بالاكتشاف، على الرغم من علمه ان الواسطي رسام كتب لا لوحات. ماذا عن المؤثرات الاخرى، المعاصرة مثلاً، وهل اقتصر الهمّ على موضوع التراث فقط؟ - الخلاصة بصرية. لنأخذ الامور بنتائجها : لقد عمّ هاجس التراث حتى اصبح عنصراً اساسياً في العديد من اعمال الرواد، وانتقل ذلك الى تلامذتهم في الستينات. لقد كانت للماضي سطوة هائلة، تقابلها نزعة للأخذ بمدارس عالمية متنوعة وكان لقاء هذه التجارب في المعارض الجماعية التي نظمت من قبل جمعية الفنانين او نادي المنصور، وفيها بدت الملامح العامة لبدايات الحداثة، على الرغم من ان اكثر الرواد جاؤوا بمؤثرات فنية لم يكن لها حضور فعّال في التجربة العالمية، كما كانت تلك المؤثرات اقرب الى البلد الذي درسوا فيه منها الى البانوراما الواسعة للفن العالمي. والا كيف يمكن تجاهل فنانين اساسيين، تجلّت لدى بعضهم نزعة شرقية مثل كليمت؟... او تأثيرات اسطورية مثل جماعة "الكوبرا" وغير ذلك؟ وربما بسبب محدودية ما نقل لنا لم يتمكن الفنان العراقي من تجاوز مناخات اساتذته في حينها، وزاد في ذلك محدودية ما وفره معهد الفنون الجميلة من علاقات مع العالم الخارجي. واذا ما توقفنا عند تلك الفترة سنجد مجموعات من الفنانين يدورون في فلك اسماء معينة… ولكن في منتصف الستينات قادت التبدلات السياسية الكبيرة الى تفكيك تلك الحلقات. وقد قدم معرض المجددين الاول الاشارة الى اختراق الحدود القائمة سواء على صعيد العمل الفني او في قواعد تكوين الجماعة، حيث عرض الفنانون الشباب اعمالاً بدت للوسط الفني خارجة عن المألوف، ان لم تكن غريبة وهي في الواقع لم تكن إلا خروجاً على المحيط الذي رسمه الرواد. معطف جواد سليم ولكن الفن التشكيلي العراقي عرف اتجاهات أخرى؟ - بعد معرض المجددين خرج الإبداع عن دائرة الجماعة والحزب والسلطة. في تلك الفترة بدأ يتضح السلوك الابداعي الفردي، حدث هذا في الشعر والرسم، كان أغلب المجددين من خارج بغداد ولم يكن هذا معهوداً وقد جاؤوا بأفكار ومشاريع وتطلعات خارجة عن سياق الثقافة السائدة والمتمركزة في بغداد. وتزامن ظهورهم مع عودة مجموعة من الفنانين الشباب، جاؤوا من اماكن مختلفة من العالم. عاد كاظم حيدر واسماعيل فتاح الترك وميران السعدي ورافع الناصري وغازي السعودي من فرنسا واسبانيا والصين والاتحاد السوفياتي... وكان لكل منهم تجربة خاصة ومختلفة، كما شاعت ظاهرة المعرض الشخصي. وكل هذا ساعد على الخروج من نمط التجمعات القديمة التي لم تكن في الواقع اكثر من حلقة متلقية تحيط بالمعلم، فجماعة بغداد مثلاً - اذا استثنينا شاكر حسن - لم تقم سوى على جواد سليم على رغم كل ما كُتب وقيل. هل كانت النتائج "بصرياً" بمستوى ما قيل وكتب؟ - الانجاز البصري تجاوز البحث، ولم يأت منه، بل جاء بمصادره الخاصة. وأنا مقتنع بأن البحث البصري او ما يترتب عليه من نتائج هو الذي يدفع الى الكشف النظري. شاكر حسن آل سعيد فعل العكس، ولقد تكرست بسببه قناعة بأن قيمة الفنان في ما يقول وهذا خطأ فاحش. في الفن العالمي نتائج مذهلة لم تتأسس على بحث نظري، بينما نجد عندنا، على بساطة تجربتنا بحوثاً في الحداثة وما بعدها وما فوقها، من دون ان يكون للبحث اساس واقعي. تقرأ نصوص شاكر حسن، تعجب بها او لا ليست هذه هي المشكلة، السؤال هو: ما علاقتها بموضوعها؟ لقد كتب عن الحائط من دون ان يأتي على ذكر تايبيه، ونحن نعرف ما توصل اليه تايبيه في هذا المجال. ليس ثمة عيب في ان تتصل هذه التجربة بتلك، المهم هو ان لا تتحول الى تجارب كيماوية : العمل الابداعي حصيلة جهد جماعي، والبحث الجاد هو الذي يصل العناصر بعضها ببعض ويعممها. هنا تجد في أعمال هوكني الكثير مما انجزه بيكاسو، ولا ضير في ان يتداول الفنان ما يتاح له من تجارب، فالبحث الجاد يضع كل هذا في نصابه الصحيح. بيروت... أفق أوسع متى خرجت عملياً وإبداعياً من حدود الهوية العراقية؟ - في منتصف السبعينات أيضاً، عندما بدأت المعارض الشخصية وخرجنا من دائرة التجمعات. أقمت معرضاً في بيروت، بدعوة من يوسف الخال بعد ان شاهد اعمالي في بغداد. ليوسف الخال اثر كبير في الثقافة العربية، في الشعر والفن وهو الذي فتح لنا نافذة بيروت. أقام اسماعيل فتاح معرضاً له هناك كما أقيم معرض لفن الغرافيك العراقي... بعد بيروت فتحت لنا نافذة اخرى في الكويت، ومن هنا تحقق لنا التواصل مع تجارب الفنانين العرب. نستطيع ان نقول ان نقلة حاسمة حدثت، بعدما تسلمت ادارة جمعية الفنانين التشكيليين مجموعة ضمت مكي حسين، اسماعيل فتاح، جودت حسيب وأنا. كنا نعمل بحيوية ونخطط لمشاريع كبيرة، أقمنا معرض الواسطي، حضّرنا له وأقمناه خلال ثلاثة أشهر في الوقت الذي طلبت فيه المؤسسات الرسمية مهلة سنتين لنجازه التقينا الفنانين العرب من كل الأقطار العربية، عمّق التقاء التجارب بحثنا في صميم الإبداع، ما ساعد على تقويض ما تبقى من اسس قامت عليها التجمعات الفنية السابقة. لماذا؟ - لم يعد الفنان العراقي في حاجة الى الجماعة لعرض أعماله. صار بإمكانه اقامة معرضه الشخصي في العراق، أو خارجه، ما أتاح له حرية العمل على هواه. خذ مثلاً معرض كاظم حيدر ملحمة الشهيد الذي دار حول "ثيمة" واحدة استمدها من الماضي، لكنه اسقط عليها الحاضر بجرأة نادرة، وكذلك اقام اسماعيل فتاح معرضاً نقل فيه تجارب اوروبية لم نعهدها آنذاك... هذا التنوع، ناهيك بالتغير السريع، لا تحتمله التجمعات التي عرفت بولائها المدرسي. لقد ترك فايق حسن جماعة الرواد وشكل مع كاظم حيدر واسماعيل فتاح جماعة الزاوية التي لم تصمد أكثر من سنة على رغم أهميتهم. باختصار يمكننا القول إن منتصف السبعينات كان عصراً ذهبياً للفن التشكيلي العراقي قبل أن تتدخل المؤسسات الرسمية وتفرض منطق المناسبات. المؤسسة الرسمية والمؤسسة السياسية، ما دورهما في حركة الفن التشكيلي العراقي؟ - التكوين السياسي، والاجتماعي أيضاً، لم يؤسسا في العراق لمنطق العمل الجماعي بشكل سليم. نجد الفنان في اصفى حالاته بعيداً عنهما، يطوّر تجربته ويدفع بحدودها إلى أبعاد تعجز عن الوصول إليها المؤسسة، رسمية كانت أم اجتماعية، في حين ان المنطق الصحيح يقول إن هذه مهمة المؤسسات لا الأفراد. أنا اسعى إلى جمع عملي مع المعمار والمسرح والتصميم الصناعي. هذه هي تخوم الفن ومن دونها ينضب، بينما نجد المؤسسات مجرد واجهات تتغاضى عن الابداع بشكل فج. السياسي يهتم بالمناسبة على حساب الابداع، وهو حامل شعار "السياسة فن الممكن"... بينما الابداع هو التعارض مع ما هو جامد. كما نجد بعض الادعاءات النظرية تسقط في هذا الفخ. خذ مثلاً تجربة البعد الواحد، لقد حاولها شاكر حسن على شاكلته نظرياً وتحت خيمته ارتكبت جنايات كثيرة بحق الابداع... فهذه الادعاءات شجّعت على ظهور أعمال هابطة بحجة الحرف والهوية والتراث، من دون ان يوضح أصحابه ماذا يعني ان يستخدم فنان اندونيسي أو عربي حرفاً عربياً في لوحته؟ وهل يكفي هذا الادعاء لتبرير اللوحة؟ الفن يقوم على مرجعية كاملة، تتصل بالحياة التي نعيش. ان تعتمد اللوحة على استعمال الحرف، ليس هذا قوامها وحجتها، بصرياً أو نظرياً. الحرف إشارة ليس إلا، فاللوحة تشاهد ولا تُقرأ... والمهمّ هو كيف تتعامل مع التراث : إذا حصرنا "جلجامش" في هويته العراقية لن يكون أكثر من بطل حكاية قديمة، على الفنّان الذي يتعاطى مع تلك الأسطورة أن يقدّم قراءته ونظرته لأبعادها الإنسانية. تاريخ جماعة بغداد وهل شارك النقد الفني في صياغة مفاهيم متقدمة مثل هذه؟ - كلا للأسف نقادنا جاؤوا من الأدب، وتحديداً من الشعر، تحدثوا كثيراً عن الفن التشكيلي وكأنهم يقرأون نصاً مكتوباً... ولأننا لا نملك مكتبة فنية عربية - أو مترجمة - لم يبقَ أمامنا سوى هذا لا معايير نهتدي بها ولا لغة مشتركة، ولو عدت إلى تاريخ الفن العراقي الحديث تجده مكتوباً على هوى جماعة بغداد، من شاكر حسن آل سعيد إلى نزار سليم. مروراً بجبرا إبراهيم جبرا. وهؤلاء يردّون محاولات التجديد بمجملها إلى جواد سليم أو جماعة بغداد. هكذا كُتب تاريخنا الفني، فهل نستغرب بعد ذلك، مثلاً، لماذا لم تعطَ مديحة عمر حقها في أدبيّات هؤلاء المعروفين بانحيازهم للحرف، مع انّها من أوائل الذين أدخلوا الحرف في أعمالهم؟ نشتغل بالكلام تعيش في أوروبا منذ زمن طويل، هل خرجت بصيغة ما تجمع بين رصيدك وما توافر لك هنا؟ - أستطيع أن اقول بأنني محظوظ بخروجي من الدائرة الضيقة التي يعيش فيها الفنان العربي، فهنا تختفي الحصانة التي تحيط بالفنان وتجعل له مقاماً مميزاً هو في الواقع عزلة. ولا أدري كيف يبدع الفنان عندما تصبح صفته مصدر ابداعه! هنا تتداخل مصادر الابداع بحيوية الحياة اليوميّة للمدينة، إذ أجد في معرض لتصميم السيارات ما لا أجده في معرض تشكيلي عربي. هنا يرسم الفنان بقلم الرصاص ويسجل ملاحظاته على دفتر صغير، ينحت ويصمم، وكل هذا يعني ما يعنيه في تجربته من دون تكلف أو ادعاء. في الغرب يعيش الفنّان حياته مستمداً من تفاصيلها اليومية مادته التي تتصل بالمعمار والمسرح والسينما والناس... أما نحن فننشغل بالكلام، كلام كبير ولكن ليس له معنى. فالشعراء مثلاً، وهم الأقرب إلى الفنان التشكيلي العربي، يخشون لوحته، إذ يعتقدون أنها تسرق عناصر الابهار من القصيدة! ومؤسساتنا الثقافية قائمة على مفاهيم عثمانية، كل ما تفعله هو إشهار جائزتها، ودعوة الفنانين إلى عرض البضائع المشاركة... ثم تنظيم مآدب العشاء. زرت معرض الكتاب الأخير في فرانكفورت : عندما تشاهد ما يعرض هناك، وكيف تنظّم التظاهرة لا يمكنك سوى أن تستغرق في الأسى المديد على حالنا. ماذا يعني أن تهتم مؤسسة فنية بتنظيم دورة لتعليم الرسم؟ أليست هذه مهمّة المعاهد والأكاديميات الفنية؟ وماذا يعني ان تهتم المؤسسات الفنية العربية التي تنظّم التظاهرات والمعارض، بعدد الدول المشاركة في فعالياتها، وعدد الأعلام المرفوعة، أكثر من اهتمامها بقيمة الفنان الذي جاء تحت هذا العلم أو ذاك؟ وماذا يعني ان تتعامل المؤسسات الفنية، في المعارض الدولية، وفق المنطق المدرسي الذي يغيّب الجانب الابداعي في تجربتنا؟ وكيف يمكن للفنان الجمع بين الكرسي أي المنصب والابداع، في مؤسسات لا تحتمل الاختلاف والمشاكسة؟ لقد عجز معظم مؤسساتنا عن القيام بالمهمات التي أنشئ من أجلها. بل إن تلك المؤسسات أشاعت أحياناً مفاهيم خاطئة عن الثقافة والفن. إننا أحوج ما نكون اليوم إلى قلب طاولة الأفكار التقليدية لكي نشرّع للحركة الفنية العربيّة آفاقاً جديدة. وفي مثل هذا المناخ كيف انجزت كتبك عن الشعر؟ - انجزتها بجهد شخصي، بطاقتي الفردية، أي من دون الحوافز التي يعرفها النشاط الثقافي في المجتمعات المتحضرة. كتاب الشابي مثلاً لم تقتن دولة مغاربية منه نسخة واحدة... والمؤسسات الثقافية العربية جميعها لم تقتن نسخة من كتاب "ألف ليلة وليلة"... أما كتاب "مجنون ليلى"، فقد أنجزته بالتعاون مع الصديق الشاعر قاسم حداد، وما حصل مع كتبي السابقة حصل مع كتابي "المجنون" أيضاً. لكنّني مقتنع، مع ذلك، بأن ما أقوم به عمل حضاري أجد فيه وفي اللوحة والمنحوتة والمجسمات ما لا أجده في البحث النظري. تدعو إذاً إلى نوع من "القطيعة" مع المؤسسة ؟... - أنا مقتنع بأن الابداع لا تصنعه المؤسسات، على الأقلّ تلك التي يعتني القيّمون عليها بالمناصب والمظاهر والوجاهات الاجتماعيّة... أكثر مما يعتنون بمصادر الابداع. وأنا مقتنع أيضاً بقدرة الفنان على تجاوز منطق المناسبات، وطنية كانت أم ايديولوجية، وبقدرته على تحصين نفسه من الاهانات المهذبة، وتفادي القبول بمنطق الانحناء الفطري الذي يسوغه بعضهم. إننا بحاجة إلى مبدعين وليس إلى موظفين وسياسيين تحكمهم القوانين العشائرية. ونحتاج إلى نقاد يتابعون حركة الفنّ، ويخاطبون الحسّ والذوق والهمّ المعرفي لدى الجمهور والفنانين، ويكشفون خلل المؤسسات... كما نحتاج إلى مؤسسات رسمية، تعمل بمنظور مغاير لمبدأ الصداقات الاقليمية والمباهاة الاجتماعية، ولا تعتبر ما تقدمه للفنان منّة. في العالم ما يكفي من الأمثلة على التقاليد الراقية، والقواعد الحضاريّة في التعامل، ومن لا يريد أن يرى ويتعلم يضع نفسه تحت طائلة التاريخ الذي لا يجامل في حكمه. من اللوحة إلى الكتاب... للأدب في الفن التشكيلي العراقي حضور طاغ. وللفنان ضياء العزاوي تجربة غنية مع الادب، فبعض فنّه تشكلت ملامحه في النص قبل الصورة، واحتضن أفكاراً ونزعات جريئة لم يكن في موروثونا البصري الموثّق ما يرفدها. بدا ذلك جلياً في اللوحة وانتقلت تلك النزعة لديه، بجرأتها وصخبها، الى الدفاتر/ الكتب.في لوحة العزاوي تأتي الاشكال مثقفة واعية، موحية بفكرة... أما في الكتب فتنطلق بحيوية ومرونة… هناك تحمل الاشكال نصوصها ورصيدها الفكري، وهنا تنفض عنها هذا العبء فتبدو عنيفة، متمردة ولعوباً… ربما لان النص يحمل عنها عناء الشرح، ولذلك تجدنا نقرأ في اللوحة ما بين الصور. اما في الكتاب، فالعين تسرح بحرية ويسر بين الالوان والخطوط في غواية اللعب وقيمة اللوحة. أنجز الفنان العراقي كتباً فنيّة عدّة بالاشتراك مع شعراء عرب معاصرين، كما أنجز كتاباً عن مجنون ليلى وآخر عن الف ليلة وليلة. واعتمد في كلّ مشروع مواصفات دقيقة تثبّت عدد النسخ، نوع الورق والخامات المستخدمة، وطريقة الرسم او الطباعة. وفي كل تجربة جاء عدد النسخ محدوداً، وكلّ نسخة موقّعة من الفنان وفي احيان من الفنان والشاعر.