لو كان الصحافي الاسرائيلي افرايم سيدون استاذ مدرسة لكتب في دفتر علامات ايهود باراك رسالة الى اهله بمناسبة انتهاء الفصل الدراسي الأول ومضي مئة يوم على وجوده في موقعه الجديد. علاقته بزملائه: ضعيفة ولديهم ملاحظات على قلة اكتراثه بهم. دروسه: مهمل وغير مثابر، ولكنه يتحدث دائماً كمن يعتقد انه خبير في القضايا كلها. التقييم الاخير: يمكن تصنيفه بأنه تلميذ واعد. وهو، في الواقع، كثير الوعود ولو انه يعاني من مشكلة في تنفيذها كلها. اذا استمر على هذا المنوال فقد لا يمضي سنواته الأربع، ولذا فنحن قلقون من ذلك. ايهود تلميذ يملك طاقات ومن المؤسف ألا يستفيد منها مما قد يجعله ينتهي مثل تلميذ آخر: بنيامين نتانياهو. لقد صادف مرور مئة يوم على تولي باراك مهام رئاسة الحكومة الاسرائيلية مع افتتاح العام الدراسي ولذلك لم يغالب سيدون رغبته في عرض تقييمه على هذا الشكل. ويقول صحافي آخر يعرف باراك جيداً انه يبتسم عندما يقال له انه ارتكب خطأ ويجيب: "اني ارتكب عشرة اخطاء في اليوم" قبل ان يستطرد انه "ضعيف في التفاصيل ولكنه واثق من صحة التوجه العام". اعطاء علامات الى باراك على قاعدة المقارنة مع نتانياهو هو لمصلحته تماماً. ففي المئة يوم الاولى من عهد رئيس الوزراء السابق كان حقق "الانجازات" التالية: المصادمات الواسعة مع الفلسطينيين التي اوقعت عشرات القتلى بعد القرار الاحمق بفتح النفق، الدخول في مشاكل حادة مع الصحافة نتيجة اصرارها على كشف عدد من القضايا ذات الصلة بسارة زوجته، بدايات التصدع في الحكومة الناجمة عن مواجهات رئيسها مع معظم اعضائها، والأهم من ذلك دخول العلاقة الاسرائيلية - الاميركية مرحلة فتور جعلت الرئيس بيل كلينتون يدرك ان عليه تمضية ايام صعبة مع هذا "الحليف المشاكس". والواضح ان "التلميذ" باراك متفوق على نتانياهو. فاستقصاءات الرأي تشير الى ان اكثرية اسرائيلية ما زالت تمنحه ثقتها، والاميركيون مرتاحون الى العلاقة معه، والاوروبيون يتبرعون لخدمته، مؤكدين ان عهداً جديداً بدأ منذ توليه السلطة. ولعل زيارة وزير الخارجية الفرنسي هوبير فيدرين الاخيرة الى اسرائيل مؤشر على التعاطي الجديد بين الدولة العبرية والاتحاد الاوروبي. لقد أثار انتخاب باراك عاصفة من التفاؤل في البلدان العربية. وامكن للبعض الحديث عن "انبهار" بهذا الشخص القادم لحل مشكلات الشرق الاوسط على أسس مقبولة من الجميع. غير ان الحماس فتر بسرعة بمجرد ان جمد تنفيذ واي ريفر وشرع يتهرب من الموافقة على وديعة رابين حول الانسحاب الى حدود الرابع من حزيران يونيو 67. ويمكن اعتبار زيارته الى واشنطن فصلاً مهماً في ولايته. فالمعروف انه توصل الى مجموعة من التفاهمات مع كلينتون جعلته يشعر بالقوة الكافية ان لم يكن لاملاء شروطه فعلى الأقل لتحسين موقعه التفاوضي. ولعل هذه الزيارة تدل على اسلوبه في التفكير والعمل. يعتبر باراك ان العلاقة مع الولاياتالمتحدة هي حجر الزاوية في سياسته الخارجية لأنها مصدر القوة السياسية والديبلوماسية الاولى. الى ذلك فهو يرى ان العلاقة بين اسرائيل والدياسبورا اليهودية، في اميركا خصوصاً، رصيد استراتيجي ثمين لا يجوز التفريط به بأي حال. ولذا فان مأخذه الرئيسي على نتانياهو هو انه خاصم الرئىس الاميركي فأضعف العلاقة الاستراتيجية بين الدولتين ووضع يهود اميركا في موقع حرج جداً. ان انجاز الزيارة الى واشنطن مزدوج. فهو قاد، من جهة، الى بعث الحرارة في خط تل ابيب - واشنطن، وجعل "اللوبي"، هناك، على تناغم مع التوجهات الاميركية العامة. ويقال ان مفتاح هذا الانجاز هو وعد قطعه باراك لكلينتون ومؤداه الا تكون السياسة الاسرائيلية مصدراً لتوتير علاقات الادارة بعاصمة عربية مهمة والا تؤدي الى خربطة الاستراتيجية الاميركية الاجمالية في الشرق الاوسط. ولقد كان منطقياً ان ينجح رئيس الوزراء الاسرائيلي في مسعاه هذا. فغلاة المتطرفين اليهود والاميركيين لم يعودوا يجدون سنداً اسرائيلياً معارضاً يتذرعون به لاقتراح توجهات اخرى. ويؤشر هذا الواقع الجديد على نجاح باراك الداخلي: لقد زعزع اليمين القومي الاسرائيلي سواء بنجاحه في تشكيل حكومة ائتلاف واسعة او بانتهاجه خطاً تفاوضياً متصلباً لا يمكن لليكود، وهو الذي وقع واي ريفر، ان يعترض عليه بحدة. والحديث، هنا، عن نجاح باراك هو حديث شخصي. فالواضح ان بصماته تدمغ التكتيك التفاوضي وصولاً الى حد انه قد يتولى بنفسه مفاوضات الوضع النهائي. وهذا الجانب الشخصي هو الذي يدفع صحافياً مثل سيدون الى القول بأن زملاء باراك يشتكون من قلة اكتراثه بهم. ولقد ارتفعت اصوات تشير الى هذه الحقيقة، وعبر وزراء او قادة في حزب العمل عن تبرمهم من تجاهل رئيس الوزراء لهم. غير ان ذلك لم يصل مرة الى المدى الذي وصل اليه مع نتانياهو الذي اشتبك مع معظم حلفائه ولذلك فان هناك من يقول ان باراك لا يفعل سوى التزام المنطق الجديد للمؤسسات. لقد جرى انتخابه بنسبة 56 في المئة في حين ان حزب "العمل" حاز اقل عدد من النواب في تاريخه ولذا كان لا بد ان ينعكس ذلك على شكل توازن جديد يستعيد النظام الرئاسي ولو انه لا يقلّده تماماً. ولا بد، في هذا المجال، من الاشارة الى استثناء شبه وحيد يخص شمعون بيريز. فهذا الاخير يلقى معاملة اقل ما يقال فيها انها سيئة. منحه باراك حقيبة "التعاون الاقليمي" المستحدثة فاكتشف ان لا صلاحيات لها ولا موازنة ولا ملاك. وبعد اسابيع من لملمة الصلاحيات والموازنة تبين ان لا دور له في الوضع الداخلي ولا في المدى الاقليمي. غير ان رئيس الوزراء اوكل الى بيريز، في الآونة الاخيرة، مهمة استثنائية: الاشراف التحويلي والاجرائي على الجسر الدي يريد انشاءه بين غزة والضفة الغربية. وفعل ذلك بعد ان حدد الكلفة ب600 مليون دولار، والمدة بأربع سنوات. والمفارقة هي ان وظيفة هذا الجسر ضبط عملية "الفصل الجسري" بين الاسرائيليين والفلسطينيين، والرجل المكلف بها هو ذلك الذي تميز بالدعوة الى "الشرق الاوسط الجديد" الذي تختلط فيه شعوب المنطقة كلها وتزول بينها الحدود الاقتصادية! تقود قصة الجسر الى اكتشاف اسلوب باراك التفاوضي مع الفلسطينيين. لقد اتفق معهم على موعد فتح "الممر الآمن" وعلى موعد اطلاق الدفعة الثانية من المعتقلين. تلاعب بالموعدين بعض الشيء ولكنه، في غضون ذلك، اقدم على تشريع اكثر من 30 بؤرة استيطانية كانت اقيمت عشية انتخابه وبدعوة مباشرة من ارييل شارون. وبكلام آخر كانت الفرحة باطلاق الاسرى غامرة، والمواطنون الفلسطينيون مشغولون بالحصول على "بطاقات ممغنطة"، في حين كان باراك يقنع قادة المستوطنين بتسوية تقضم المزيد من الأرض وتوجد حقائق يصعب تجاهلها عند مفاوضات الوضع النهائي. لقد نجح في تمرير هذه الخطوة التصعيدية من غير ان يلقى مقاومة لا من رافضي الاستيطان ولا من العالم الخارجي، ومن غير ان يستطيع الفلسطينيون اتخاذ الموقف المناسب. حصل ذلك بعد ان كان باراك حقق انجازاً اولياً بفرضه اعادة التفاوض حول "واي ريفر". ومع انه فشل في دمج المرحلة الثالثة من الانسحابات بالتوصل الى "اتفاق - اطار" لمفاوضات الوضع الدائم فان مجرد اعادة التفاوض، ثم التفاوض على ما تم التوصل اليه هو انتصار له. وتمكن، في غضون ذلك، من بلورة خطته لمفاوضات الحل الدائم. وهي تقوم على مفصلين: الاول، هو التمسك العنيد بعدد من "اللاءات": لا للانسحاب الى حدود حزيران، لا تفكيك للتجمعات الاستيطانية، لا وجود لجيش اجنبي غربي النهر، لا لحق العودة، لا للتنازل عن السيادة في القدس. وتمثل هذه "اللاءات" موقفاً متشدداً الى حد ان شارون لما طالب باراك بتحديد الخطوط الحمر لم يجد ما يضيفه عليها. وبما ان رئيس الوزراء الاسرائيلي يدرك ان المفاوض الفلسطيني لا يمكنه القبول بهذه الشروط او على الاقل، لا يمكنه القبول بها في غضون المهلة المحددة "اتفاق اطار في شباط/ فبراير العام 2000 وحل دائم في ايلول/ سبتمبر، بما انه يعرف ذلك فلقد بدأ الترويج لفكرة جديدة. تنطلق هذه الفكرة من مقدمة خادعة تقول ان باراك يتفهم الصعوبة الفلسطينية في الموافقة وتصل الى استنتاج يقترح تقسيم الحل النهائي بدوره الى مرحلتين: يتم، في الاولى، تطبيق ما يتفق عليه، وفي الثانية، اي بعد سنوات عديدة، يجري حل القضايا المستعصية. وما لم يعرف حلاً سريعاً يبقى كما هو، اي عملياً، خاضعاً للسيطرة الاسرائيلية. يراكم باراك يوماً بعد يوم حججاً تذهب في هذا الاتجاه مدركاً ان فلسطينيين قد تعجبهم الفكرة. وعندما يبدو له ان هناك ميلاً للاعتراض يلجأ الى السلاح الاخير: التلويح بامكانية التقدم الحاسم على المسارين السوري واللبناني. فيضغط باراك بهذين المسارين على المسار الفلسطيني، ولكنه، ايضاً، يضغط به عليهما. وهو يريد ان يضع نفسه في موقع من يستدرج العروض ومن ينظم "مناقصة" يختار في نهايتها ما يناسبه. ولكن هذا التلاعب ليس ورقته الوحيدة. فهو يعتبر انه نجح في تحويل ورقة لبنان الى سلاح ذي استخدام مزدوج. فالمقاومة تفيد سورية في الضغط على اسرائيل، ولكن تحديد موعد الانسحاب في تموز يوليو القادم يفيد اسرائيل في الضغط على سورية ولبنان. وقبل ان يتم استنفاد اسلوب الضغط هذا زاد عليه باراك عنصراً اضافياً. فلقد اعلن انه سيتخذ، بعد اسابيع، قراراً باعتبار الجولان منطقة تنمية ذات اولوية الامر الدي يعزز الحركة الاستيطانية فيه. ويعني ذلك تأييد الاحتلال للهضبة بما في ذلك بعد الانسحاب من لبنان. وحتى يعطي للتهديد مضمونه سرّب الاخبار عن ان الاجتماعات العسكرية التي ترأسها درست احتمالاً وحيداً هو الانسحاب من جانب واحد من لبنان! المعروف ان باراك، في شبابه، كان يهوى تفكيك الساعات واعادة تركيبها. والمؤكد انه احتفظ، من جراء ذلك، بعلاقة فريدة مع الزمن وهو يحاول، من موقعه، التلاعب بالمحطات قدر الامكان. واذا اخذنا تصريحاته واتفاقاته مع الفلسطينيين سنكون امام جدول اعمال حافل. فبعد اسابيع يفترض ان يتم التوصل الى اتفاق مع سورية على صيغة لاستئناف المفاوضات، وفي غضون ذلك سيستمر تنفيذ اتفاق شرم الشيخ وصولاً الى كانون الثاني/ يناير 2000، واذا لم يحصل تقدم مع دمشق فان المفروض النجاح في انجاز اتفاق - اطار مع الفلسطينيين في شباط فاذا مالت الامور بهذا الاتجاه بتنا امام سبعة شهور فقط لانجاز صيغة الحل النهائي. ويتخلل الشهور القليلة هذه موعد الانسحاب من لبنان في تموز. وهذا الجدول مضبوط بدقة طالما ان مرحلة ما بعد تموز هي مرحلة "الغيبوبة" الاميركية في الحملة الرئاسية وهو الأمر الذي يعني تأخير القرارات الحاسمة الى… الألفية الثالثة!.