راجت في السنوات الأخيرة على سطح الخطاب العربي عبارات جديدة مثل "ثقافة حقوق الانسان" و"ثقافة التسامح" وما أشبه: عبارات "دخيلة"، لا اساس يسندها ولا تاريخ يؤسسها في الوعي العربي، شأنها شأن كثير من المفاهيم الاجتماعية التي راجت في الخمسينات والستينات والسبعينات، والتي كان الحديث يجري عنها بتوظيف مفهوم "الايديولوجيا"، مثل مفهوم "الطبقة"، و"الوعي الطبقي"، و"الوعي المزيف"، و"البروليتاريا" الخ. لقد حلّت اليوم كلمة "ثقافة" محل كلمة "ايديولوجيا"، على الأقل في مجال تأطير مثل هذه المفاهيم، فأصبحنا نقول "ثقافة التسامح" و"ثقافة حقوق الانسان" الخ، بدل "ايديولوجيا التسامح" و"ايديولوجيا حقوق الانسان" الخ. فما الفرق بين العبارتين: "ثقافة كذا" و"ايديولوجيا كذا"؟ وما الذي جعل الكتاب والمثقفين وجميع "المتكلمين" اليوم يعرضون عن لفظ "ايديولوجيا" ويقبلون، هذا الاقبال المنقطع النظير عندنا على الأقل، على لفظ "ثقافة"؟ لن نستفيد كثيراً من القواميس الحالية أقصد قواميس اللغات الأوروبية لأنها هي التي تسجل في الغالب تاريخ استعمال الكلمات وتاريخ الانتقال بها من معنى الى آخر اما القواميس العربية فلم تدخلها الحياة بعد، فالكلمات فيها بلا زمان! أقول: لن نستفيد كثيراً من القواميس المعاصرة الحية فيما نحن بصدده، فلفظ "الثقافة" ولفظ "ايديولوجيا" فيها ما زالا مؤطرين بنفس المعطيات التي بقيت تحددهما منذ عقود. هذا من جهة ومن جهة اخرى فالرواج الكبير جداً، و"الزائد عن اللزوم"، الذي تعرفه العبارات التي نحن بصددها كعبارة "ثقافة حقوق الانسان" مثلاً، انما يختص به او يكاد خطابنا العربي الراهن. بعبارة اخرى انك لا تجد في اللغات الاخرى هذا الاسراف - او قل هذا الكرم - في استعمال لفظ "ثقافة"، الذي تجده في الخطاب العربي الراهن. ليس ثمة شك في ان تراجع الماركسية وسقوط الاتحاد السوفياتي كان لهما الدور الاكبر في تراجع مفهوم "الايديولوجيا" الذي ظل طوال تاريخه مصطلحاً ماركسياً في الدرجة الأولى، خصوصاً عندما يستعمل في الخطاب اليومي الأوروبي الذي كانت تؤطره المفاهيم الماركسية. اما لفظ "ثقافة"، في هذا الخطاب، فما زال يحتفظ بمواقعه وبمجالاته الخاصة. ومع انه اليوم اكثر استعمالاً وبروزاً فهو لا يقوم مقام لفظ "الايديولوجيا" كما هو الشأن في خطابنا العربي الراهن، وإنما يعبر في الغالب عن شي يمت الى تصنيف غير التصنيف الطبقي مثل الطائفية والسلالية الاثنية، مما يدخل فعلاً في مفهوم الثقافة في اللغات الأوروبية. اما وضع كلمة "ثقافة" مكان لفظ "ايديولوجيا" في العبارات التي تناسبها هذه الاخيرة، فهذا ليس شائعاً في الخطاب الأوروبي شيوعه عندنا. وأحسب ان الأذن الأوروبية ما زالت تستسيغ عبارة "ايديولوجيا التسامح"، مثلاً، اكثر مما ترتاح لعبارة "ثقافة التسامح"، عكس ما عليه الأمر عندنا! كيف نفسر هذه الظاهرة؟ لا شك ان ثمة دوراً يجب ان يعزى لاختلاف المستوى الثقافي ولمدى شيوع النظرة النقدية، التي تمنع صاحبها من الاستسلام بسهولة لما يطفو على السطح في مجال الفكر واللغة. يجب ان نعترف ان النخبة العصرية عندنا ليست كلها متمكنة من وسائل عصرنا الثقافية، بل كثيراً ما تجد الواحد منها يطفو على السطح، سطح ما نسميه ب"الثقافة المعاصرة"، فتتقاذفه أبسط الرياح يمنة ويسرة، فيمسك بما يطفو على السطح معه وبجواره من قشور، اعني من كل ما خف وزنه مما تتقاذفه الامواج. ولكي لا نسترسل في تشخيص الأمور هذا النوع من التشخيص الجارح - ربما - الذي ليس هاهنا مجاله، نطرح المسألة من خلال الكلام في "الكلمات" بدل الكلام في "المتكلمين"! لنقل إذاً: الكلمات لها تاريخ، ومن لا يختزن في وعيه تاريخها نوعاً من الاختزان يسهل عليه القفز فيها وبينها وإحلال الواحدة محل الاخريات. وتاريخ الكلمات ليس هو فقط ذلك الذي تسجله القواميس الحديثة، بل ان للكلمات عندما تتحول الى مفاهيم تاريخاً آخر اوسع وأغنى. ان المفاهيم كائنات فكرية تولد بفعل ظروف معينة ترتبط بها وتحيل اليها وتكتسي منها مضمونها التصوري وقوتها المفهومية التي تنقلها من مجال الاصطلاح اللغوي المجرد، البارد الميت، الى مجال "الاهتمام الحي"، العلمي او الايديولوجي. لقد تحدثنا في المقالات الماضية عن مفهوم مركزي في مفهوم "حقوق الانسان"، اقصد مفهوم "حالة الطبيعة". مفهوم يؤسس مفهوماً آخر! نعم، المفاهيم هكذا كلها تقريباً، بعضها يؤسس بعضاً، وغالباً ما يتعذر شرح مفهوم من دون استعمال مفاهيم اخرى. خذ مثلاً مفهوم "الايديولوجيا"! هناك ما لا يحصى من التعريفات لهذا اللفظ، غير ان معظمها يبدأ بالقول: "الايديولوجيا: منظومة من التمثلات..." الخ. التعريف هنا يبدأ بذكر مفهومين يحتاجان الى سابق معرفة بهما: "منظومة" و"تمثلات"! فإذا كان الواحد منا لا يختزن في ذهنه المعنى الاصطلاحي لكل من "المنظومة" و"التمثلات" - وهناك مفاهيم مماثلة اخرى تتلو هذين في تعريف الايديولوجيا - فانه لن يتمكن من الامساك بمدلول هذا المفهوم. والأمر نفسه يصدق على مفهوم "الثقافة" وغيره من المفاهيم. المفاهيم لها تاريخ. وإذاً فالامساك بمضمون او بمضامين مفهوم ما يتطلب المعرفة بتاريخ. وليس المقصود هنا ب"المعرفة" الاطلاع الواسع المنظم الذي تتميز به المعرفة لدى الباحث المتخصص، وإنما المقصود اساساً هو نوع من الألفة شبيهة بتلك الألفة التي تربطك بطريقك الى منزلك مثلاً. كلنا يقطع الشوارع والأزقة وهو في طريقه الى بيته، وفي الغالب نمشي في الاتجاه المطلوب دون شعور: نمر في الشوارع وقد "لا نراها": فأذهاننا غالباً ما تقع بعيداً عنها، ومع ذلك فنحن لا نضل سبيلنا، لا نفقد الاتجاه، ولا نخطئ في التعرف على باب بيتنا! كذلك الشأن في المعرفة بالمفاهيم، فليس المطلوب التعرف عليها بالطريقة التي يسلكها الغريب الذي يحمل في يده ورقة ويسأل الناس عن عنوان منزل معين. هذا يجب فعله مرة واحدة او مرتين، اما عندما يألف الشخص "المكان" فلا يحتاج لا الى ورقة ولا الى سؤال او دليل. ولكن ما القول اذا كان هذا الشخص لا يحمل العنوان على ورقة ولا يعرف كيف يسأل؟ المثقفون العرب - او معظمهم على الأقل - لا يخلطون بين "أبي نواس" و"أبي العلاء المعري"! غير ان هذين الشاعرين قد لا يعنيان للمثقف الأوروبي شيئاً على الاطلاق! لنقل استطرادا إن ما نريده من هذه المقالات هو الانتقال بوضعية كثير من القراء العرب ازاء المفاهيم التي نتناولها هنا من وضعية الأوروبي ازاء "أبي نواس" الى وضعية العربي منه! نعم قد يجهل العربي "أبا نواس" الشاعر، ومع ذلك فعبارة "أبو نواس" تربطها به علاقة ألفة ما - ولتكن لغوية محض - قد يفتقد مثلها عندما يسمع عبارة "حقوق الانسان" او "التسامح" او "العقد الاجتماعي"! * * * المفاهيم لها تاريخ، ومنها مفهوما: "ايديولوجياً" و"ثقافة". فما الفرق إذاً بين قولنا "ايديولوجيا حقوق الانسان" وقولنا "ثقافة حقوق الانسان"؟ الفرق في نظرنا، وفي السياق الذي نتحرك فيه، كما يلي: عندما عرضنا لتاريخ تطور مفهوم "حقوق الانسان"، في المقالات السابقة - كنا بصدد عرض نظريات وفرضيات تختلف من مفكر لآخر وفي الغالب من عصر لآخر. كان هناك مفهومان يتحدد بهما، صراحة او ضمناً، مفهوم "حقوق الانسان". هذان المفهومان هما: مفهوم "الطبع" كما هو في عبارة ارسطو "الانسان مدني بالطبع"، ومفهوم "حال الطبيعة" او حال الفطرة عند فلاسفة أوروبا في العصر الحديث. يمكن القول ان غرض ارسطو كان "علمياً" بحتاً، فهو قد لاحظ ان الفرد البشري يبدأ حياته في حضن امه وأبيه، وانه بطبعه ينشأ ويعيش في مجتمع يتعاون أفراده على الحصول على حاجاتهم الضرورية ولا يستطيع الواحد منهم العيش بمفرده، ومن هنا قوله: "الانسان اجتماعي بطبعه". والمجتمع يبدأ بالأسرة، ثم يتطور الى القبيلة ثم الى المدينة/ الدولة، وبالتالي فالانسان بطبعه يحيا حياة مدينية، حياة المدينة/ الدولة، ومن هنا قوله ايضاً: "الانسان حيوان سياسي". لا أستطيع ان اتهم ارسطو بأنه كان يريد من وراء نظريته في اصل الاجتماع والدولة، غير تقرير ما كان يبدو له انه الحقيقة العلمية التي تعطيها الملاحظة والتأمل. قد تكون نظريته تلك تخدم واقعاً معيناً، ولكنه لم يكن يفعل ذلك عن قصد ولا عن وعي. وإذا صح وصف وعيه هنا بأنه وعي منحاز فإن الأمر لا يتعلق بانحياز تقرره الارادة بل هو من النوع الذي تكرسه الألفة والعرف. يتجلى هذا واضحاً بالمقارنة مع وعي اصحاب نظرية "حالة الطبيعة" في القرنين السابع عشر والثامن عشر. فالذين قالوا بهذه النظرية كانوا يعرفون انهم يتحدثون عن حالة افتراضية، والذين منهم حاولوا اثبات وقوعها اجتماعياً وتاريخياً لم يكونوا بصدد تقرير واقع كما يتبدى لوعيهم - كما كان الحال عند ارسطو - بل كانوا يعرفون انهم يبحثون عن سند اجتماعي تاريخي لما افترضوا انه اصل الاجتماع والدولة، بل لما ينبغي ان يكون اصلهما! بعبارة اخرى ان ما كان يهمهم في الدرجة الأولى هو الوظيفة التي يريدون لهذه الفرضية ان تؤديها: وظيفة تفسير منشأ الدولة والسلطة تفسيراً يقرر صراحة او ضمناً ان السلطة التي تمارسها الدولة ومن يتصرف باسمها هي سلطة الشعب، وان الحاكم انما يستقي الشرعية لحكمه من رضى الناس. لم تكن فرضية "حالة الطبيعة" مطلوبة لذاتها بل من اجل الوظيفة التي تؤديها وهي الوصول الى فرضية "العقد الاجتماعي"، التي لم تكن هي الاخرى مقصودة لذاتها بل من اجل ربط شرعية الحكم برضى الناس واختيارهم. وواضح ان هذه الوظيفة التي يراد لفرضيتي "حالة الطبيعة" و"العقد الاجتماعي" ان تقوما بها هي وظيفة لها علاقة مباشرة بالصراع الاجتماعي الذي تحركه المصالح المتناقضة، الشيء الذي يعني انه كان هناك خصم تواجهه هاتان الفرضيتان، هو النظريات التي تربط شرعية الحكم بغير نظرية الاختيار والتراضي والتعاقد، وكانت زمن ظهور هذه الاخيرة قسمين: قسماً يربطها بفكرة "الطبع" عند أرسطو، اعني بالأسرة/ القبيلة، وقسماً يربطها بما عرف في أوروبا ب"الحق الإلهي للملوك". عندما يكون الأمر على هذه الشاكلة، نكون امام ما ندعوه "الايديولوجيا". فالمهم هنا ليس معرفة كيف تم سير الأمور واقعياً كما هو شأن العلم، بل المهم هو الكيفية التي يجب ان تسير عليه الأمور سياسياً واجتماعياً. ذلك باختصار - مع ما يكتنف الاختصار من تجاوزات - هو الفرق بين العلم والايديولوجيا. اين يقع مفهوم "الثقافة"، في عبارة "ثقافة حقوق الانسان"، مثلاً، هل داخل الايديولوجيا ام خارجها؟ أعترف انني لا استطيع ان أناقش هذه المسألة في المجال الذي بقي من حجم هذا المقال، ان كان قد بقي ثمة مجال. على ان أدلي بتحديد موقت استند فيه الى ما يبدو انه هو ما نريد تقريره من وراء مثل هذه العبارة، فأقول: يخيل اليّ اننا نقصد بعبارة "ثقافة حقوق الانسان" - أو ثقافة "العقد الاجتماعي"، او "ثقافة التسامح" الخ - شيئاً يمكن التعبير عنه هكذا: تأسيس مفهوم "حقوق الانسان" في الوعي وتطبيق مضمونه في السلوك. تحديد قد يبدو واضحاً بسيطاً وانه من الممكن ان نتعاقد عليه. ليكن! ولكن يجب ان لا ننسى ان وراء الشجرة اكمة، وان "وراء الأكمة ما وراءها"! ان التحديد الذي اقترحناه يعبر عما نريد، ولكن "هل كل ما يريد المرء يدركه"؟ يكفي ان نشكك في امكانية ادراك هذا الذي نريد حتى ينهار ذلك التحديد. سؤال واحد قد يقلق راحتنا، نصوغه كما يلي: لقد عاش الغرب مسألة حقوق الانسان كأيديولوجيا، اي في اطار صراع فكري واجتماعي وديني وسياسي، فكانت النتيجة ان ترسخت "حقوق الانسان" في فكره ووعيه وسلوكه، على الأقل ازاء بني جلدته، فهل يمكن، لنا او لغيرنا، الحصول على النتيجة نفسها بمجرد استعادة تلك الايديولوجيا، لا بوصفها صراعاً متعدد الأبعاد، بل فقط بوصفها "ثقافة"؟ بوصفها "معرفة"؟ كان سقراط يقرر ان الفضيلة معرفة: يعني ان من يعرف الخير لا بد ان يفعله! هل كان ساذجاً؟ هل كان مخطئاً؟ ماذا يفيد الجواب عن مثل هذه الاسئلة وقد رأينا كيف تأسس مفهوم "حقوق الانسان" على فكرة ان "الانسان ذئب للانسان"! فلنكتفِ بالقول إذاً: كان سقراط حسن النية بالانسان، ولنقتدِ به، ولننتقل الى بناء نوع من الألفة مع مفهوم آخر: "العقد الاجتماعي".