سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حوار طويل مع صاحب "موسم الهجرة إلى الشمال" الذي لا يحب الكتابة ، ولكن ... مولع بشكسبير لكن المؤثرات السودانية هي الأبقى الطيب صالح : حصل ما كان يخشاه أبي ... 1 من 2
"ابتدأت أكتب بالمصادفة" هكذا يقول الطيّب صالح الذي كان يرغب في دراسة الزراعة كي يفيد أهله... فإذا به أحد أبرز روائيي الضاد، وأكثرهم انتشاراً، خلال النصف الثاني من هذا القرن. ومع أن الأديب السوداني البارز لم يكتب منذ سنوات، فهو ما زال يشغل الدارسين والقرّاء، وما زالت كتبه حاضرة فوق رفوف المكتبات العربيّة والغربيّة. آخر اطلالة له كانت في ندوات "موسم أصيلة" في المغرب. وهنا حوار شامل معه على حلقتين في شجون السياسة والأدب. منذ بداية صدورها في أواسط الستينات، ما تزال أعمال الطيب صالح تلاقي اهتماماً واسعاً من قبل القراء والناشرين والنقاد والدارسين. وتتواصل ترجمة أعماله إلى لغات جديدة كل عام، كما تصدر الكتب والدراسات عن تجربته، وتقام الحلقات الدراسية لرصد مساهمته المتفردة في الرواية العربية والعالمية. ومع تسارع وتيرة الأحداث السياسية الجارية في السودان التي أدخلته في حال من عدم الاستقرار السياسي، ساهم صاحب "موسم الهجرة إلى الشمال" بإبداء رأيه في ما يجري، وحدد لنفسه موقفاً واضحاً ما يزال يجاهر به. "الوسط" التقت الأديب السوداني وحاورته حول قضايا أدبية وسياسية، فتحدث بصراحته المعهودة. تحصيلك العلمي الأكاديمي كان في غير وجهة الأدب، غير أنك انتهيت كاتباً. كيف بدأت علاقتك بالكتابة، وما هي المؤثرات التي دفعتك إليها؟ - دائماً أقول إنني ابتدأت أكتب بالمصادفة. لم نكن، في جيلنا، نرغب أن نكون كتاباً وشعراء، كنا نرغب في مهن مفيدة لأهلنا، الطب والهندسة والبيطرة والزراعة... أنا كنت أرغب في دراسة الزراعة، فأنا ابن بيئة زراعية، وقد كان هذا تفكيراً رومانسياً. قضيت فترة في مدرسة العلوم في جامعة الخرطوم، وكان اسمها كلية الخرطوم الجامعية. وأذكر ان استاذنا المرحوم أحمد محمد صالح، وجدني ذات مساء أقرأ كتباً أدبية في حصة المذاكرة في المدرسة الثانوية فقال لي: "هل تريد أن تصبح أديباً؟ طُظ!". أحببت مهنة التدريس، وكنت أعمل في معهد التربية في بخت الرضا، حين أعلنت هيئة الاذاعة البريطانية بي بي سي عن رغبتها في تعيين مذيعين من السودان. لم يخطر ببالي أن أعمل في الاذاعة، لولا تشجيع صديقي رجل الأعمال فتح الرحمن البشير، فتقدمت وتم اختياري للعمل في الاذاعة. هكذا بدأت الكتابة نوعاً من التواصل مع البلد، تعبيراً عن الحنين والاحساس بالغربة، فإذا بي أجد نفسي كاتباً. ماذا كانت قراءاتك الأولى؟ - كنا نقرأ كل شيء. نقرأ كل ما يأتينا من مصر من الكتب القديمة مثل "الأغاني" و"العقد الفريد" وكتب الجاحظ. وفتحت لنا اللغة الانكليزية طبعاً آفاقاً واسعة جداً. جيلنا كان يقرأ، والجيل الذي قبلنا كان يقرأ أكثر. كنت أذهب إلى المكتبة وأقرأ صفحات من كتاب ثم أعود في اليوم التالي وأقرأ صفحات أخرى... إذ لم يكن بمقدوري شراء الكتاب. عندما كنت في المرحلة الابتدائية في بورتسودان، كان بين زملائنا شاب يدعى صلاح شاذلي، وكان أهله على شيء من الغنى والاستنارة، ووالده يملك مجموعة "الفجر". وعن طريق صلاح قرأت كل أعداد مجلة "الفجر". كنا في الواقع نقرأ كل ما يقع تحت أيدينا. في ذلك الزمان لم تكن هناك أشياء تشغل الناس، الاذاعة كانت في بدايتها، ولم نكن نستمع إليها لأن أجهزة الراديو كانت قليلة جداً، كما لم نكن نذهب إلى السينما. وفي غياب التلفزيون لم يكن هناك شيء سوى القراءة. وكان لدى ابن خالتي محمد السيد عبدالرحمن مكتبة جيدة فيها كتب هيكل "حياة محمد" و"حياة عمر"، وكتب مثل "المستطرف في كل فن مستظرف" و"البيان والتبيين" للجاحظ، ودواوين شعريّة. وكنا نستلف من المدارس، إذ كانت تملك مكتبات جيدة. كان عندنا نهم للقراءة في ذلك الزمان. كان عددنا قليلاً ما كان سرّ التعلق الشديد بالقراءة؟ - طلاب المدارس الثانوية في ذلك الزمان كانوا هم الخلاصة. مئة وعشرون طالباً في كل السودان. وكان لا بدّ لكل من دخل المرحلة الثانوية أن يكون ذكياً. لذلك كنت دائماً أقول إن الرئيس السوداني السابق جعفر نميري لا يمكن أن يكون بليداً ما دام دخل المرحلة الثانوية، لا أدري إن كان من دفعتنا أم لا، هو درس في حنتوب وأنا درست في وادي سيدنا. كان عددنا قليلاً وكنا شاعرين بالمسؤولية، أغلبنا من الأرياف والقرى، أولاد الأفندية والتجار لا يتجاوزون واحداً في المئة. اكتشفنا عالماً جديداً، عالم الدراسة، وكانت الحياة في المدارس فعلاً حياة جديدة بالنسبة إلينا: هذه المدارس الكبيرة بنظامها الصارم، الدخول فيها كان يعني الدخول في النخبة، مع اننا لم نكن نحس بأننا نخبة، بل كنا نحس بأن هناك مسؤولية ملقاة على كاهلنا، وكنا نعيش حياة منعزلة. هناك من يعتبر أن الانكليز تعمّدوا بناء المدارس في مناطق منعزلة، كي يبعدوا الطلاب عن المشاركة في النشاطات السياسية، ولا أظن ان هذا صحيح. الانكليز أقاموا عندنا الأنماط نفسها التي عرفوها في بلدهم، وفي انكلترا كل المدارس الكبيرة خارج المدن، في الريف. ايتون وهارو ورقبي ووينشستر. ومدارسنا ما كانت تقل في مستواها عن هذه المدارس. وكان اساتذتنا الانكليز يقولون إننا لسنا أقل مستوى من طلاب المدارس البريطانية، وكنا نجلس للامتحان نفسه، امتحان كمبريدج. الذين عاشوا تلك الفترة يذكرونها على أنها أسعد أيام حياتهم، كلهم من دون استثناء. حصلت على امتياز في اللغة الانكليزية، وكنت ذاهباً إلى أوكسفورد... - صحيح. وعدت بأن أحصل على مقعد للدراسة في كمبريدج أو أوكسفورد إذا ما حصلت على امتياز في الأدب الانكليزي واللغة الانكليزية. وفعلاً حصلت على الامتياز، ولكن أهلي لم يقبلوا الفكرة. والمضحك هو أني في النهاية أتيت إلى انكلترا، وحصل ما كان يخافه أبي... عبدالخالق محجوب كان من المفترض أن يأتي إلى أوكسفورد أيضاً؟ - عبدالخالق محجوب حطّم كلّ الأرقام القياسيّة. كان هو في السنة الرابعة وكنا نحن في السنة الأولى، وكانوا مجموعة من النوابغ. عبدالخالق أحرز الامتياز في كل المواد، وكان من المفترض ان يذهب في بعثة إلى اوكسفورد ليدرس الأدب الانكليزي. لكن الأقدار شاءت ان يذهب إلى مصر ويدخل في الحركة الشيوعية. هل في جذورك العائليّة ما دفعك نحو الرواية والحكي؟ - لا. أبداً. ليس في عائلتي أي فنّان أو مغن، بل بالعكس لعلّهم كانوا يميلون إلى نوع من المحافظة من دون تزمت. لكن لي عم، وهو أصغر أعمامي، شقيق والدي، اسمه حمزة، كان في كلامه شاعرية وفي أوصافه أيضاً. وأمي كانت تقول الشعر وتحفظ كثيراً منه، وتنشد في حلقة المديح. لكن ليس هناك تقليد فني في العائلة. الملاحظ أن لك علاقة قوية بالأدب الشعبي، وقدمت لبعض أعمالك بنماذج منه. فهل يمثل الأدب الشعبي أحد مصادر الهامك؟ - أردد دائماً أنني كنت محظوظاً بالبيئة التي عشت فيها. لأننا من منطقة البديرية والركابية والشايقية على النيل التي تعرف اختلاطاً حضارياً واضحاً، وبعدنا الدناقلة شمالاً، وغربنا الكبابيش في كردفان. فالنيل يمثل الحدود الشرقية لكردفان، وهؤلاء موجودون معنا وبعضهم استقر على وادي النيل. منذ صغري كانت تجذبني أعراس البدو، وأحفظ بعض غنائهم، وأحب الطمبور، وأحب "الحَلَبْ" الذين كانوا يأتون إلى منطقتنا، وكانوا يثيرون جواً عجيباً للاطفال بالذات. كنا نجد نساء متبرجات، و"عينهم قوية"، وكلامهم على مصري شوية، جذاب. لا أدري إن كانت عندي اتجاهات لم أكن مدركاً لها، لأني كنت بطريقة واعية أقاوم. إذا كان فيّ اتجاه داخلي للفن، فقد كنت مبتعداً عنه ولا أرغب في تنميته في نفسي. والحكي الذي عاينته طفلاً؟ - في الصغر كنا نجلس إلى أمهاتنا وهن يغزلن القطن ويعملن، خصوصاً في ليالي الشتاء. وكانت هناك واحدة، ليست من الأسرة، وحكايتها هي أنه لنا عم اسمه إمام، زوجوه بنت عمه ولم يكن يريدها فطلقها، وتزوج بهذه المرأة من منطقة أرْقي. وكنت أحبها، كلامها جميل جداً وفيها شوية من "قوة العين". ولما كانت امهاتنا كلهن أقارب لأزواجهن، والدتي مثلاً بنت عمة أبي، فلجدي، أب والدي، سلطة عليها. وكان أعمامي متزوجين من بنات أعمامهم، مثلما يحدث في السودان. أما هذه المرأة فكانت هي الغريبة، وكانت تعامل جدنا بجرأة تعجبني . كنت أيضاً أجلس مع الناس الكبار، وتجد بوضوح في كتاباتي العلاقة بين الرواية والجد. المنطقة طبعاً فيها تراث قديم ويبدو أنني كنت "أغرف" منه من دون أن أدرك اني سأوظّفه لاحقاً. كنت موجوداً وسط الناس، اختلطت بهم وأنا صغير. وكان عندي، من صغري، احساس عجيب بأني أرغب في الانتماء إلى الناس. وبعد اقامتي في لندن، كنت عندما أعود إلى السودان لا أبقى في الخرطوم، بل أذهب إلى أهلي هناك خلال أربعة وعشرين ساعة. وهناك كانت تأتيني النساء لأكتب خطابات لأزواجهن وأولادهن المسافرين. وكن يعتقدن أن الخطاب الذي أكتبه أنا لا بد أن يأتي رده. المهم أني كنت منغمساً تماماً في حياة الناس. هل انتبهت للقدرة الابداعية في الأعمال الفنية الشعبية في ذلك الوقت الباكر؟ وتلك القدرة المدهشة على التعبير لدى العامة هل أثارت انتباهك في ذلك الوقت؟ - طبعاً لم أكن أفهم مسائل مثل "إبداع" و"قدرة على التعبير" في ذلك الوقت، ولكنني كنت عندما أسمع شيئاً أحس بجماله. الغناء العادي الذي يغنى في المنطقة مثلاً: "تمير المشرق العلولو دربو بلقط واحد واتنين ما بخربو" تشعر ان هذا كلام جميل رغم عاديته، وتلك الأغنية التي تقول: "الظريف مسواك الأراك وين لقيتك لا من آباك وراقدك فوق سدرك ومشتهاك". هناك منحى عند النقاد لرد الجديد في عملك وفي أسلوبك السردي إلى فن المقامات والأدب العربي عموماً. أليس لهذا التجديد علاقة بالأدب الشعبي السوداني كذلك؟ - لا شكّ في وجود علاقة بين أدبي والتراث الشعبي السوداني، في القراءة الداخلية. والأدب الشعبي السوداني مصادره عربية، وكذلك القصص التي يحكيها الناس في هذه المنطقة. طبعاً حدث تفاعل مع البيئة، لكن الجذور عربية. نحن السودانيين عموماً حين نقرأ الشعر الجاهلي لا نجد فيه أي غرابة، هذه بيئتنا. أي شخص من كردفان أو البطانة أو الشمالية حينما يقرأ قصيدة لأمرئ القيس أو زهير أو النابغة لا يجد فيها شيئاً غريباً عليه، نفس البيئة، الصحارى والجمال. وأنا أحفظ أبياتاً لأكثر من خمسين سنة، مرة كنت مستلقياً في فناء بيتنا، والدنيا مقمرة، سمعت عربياً، بدوياً، يدوبي، قمت خرجت استمع اليه، حتى اختفى، كان يقول: "الزول إن أباك لا تقربو وتدنيه والحوت في البحر رب العباد غانيه ولا بد العزب بيت الحلال يبنيه" وواضح من الأبيات أنها عن شخص طلب الزواج من واحدة ولم يوافق على طلبه فرتب القصيدة هذا الترتيب العجيب. وآخر قال: "الزول ان أباك خليه وأقنع منه وكم لله من دفن الجنى وفات منه" فإذا كان الوالد يمكن أن يدفن ابنه ويذهب، فالحب ليس أقوى من رابطة الأبوة. كنا باستمرار نستوعب هذه الأشياء من حولنا. ماركيز يقول ان الرواية تبدأ عنده بصورة، وتوفيق الحكيم قال إنها تبدأ بفكرة. فكيف تبدأ الرواية عندك؟ - أنا أبدأ بهيكل القصة، أكون قد فكرت في بعض الشخصيات وفي البيئة، وأتركها عادة لمدة طويلة. لكن يمكن أن أبدأها من أي نقطة، ليس بالضرورة من الألف إلى الياء، يمكن أن أبدأها من منتصفها مثلاً، ثم أعود للبداية قبل أن أكمل بالخاتمة. لكن دائماً يكون عندي تصور كامل تقريبي للموضوع. هل تستخدم أسلوب التقطيع؟ - نعم وأحياناً بشكل قاسٍ. تعلمنا من أساتذتنا الانكليز أن نكون بلا رحمة. حينما ترى أن هناك جزءاً لا ينسجم مع السياق لا بد أن تقطعه، فلا تأخذنك به شفقة. في "موسم الهجرة إلى الشمال" قطعت أجزاء كثيرة من النصّ الأساسي. كتبت مثلاً قضية المحاكمة وصورتها تصويراً واقعياً، وكنت قرأت قصصاً عن أشخاص قتلوا زوجاتهم. وبعد ذلك قطعت هذا الجزء لأني وجدته يخل بتوتر العمل. الكتابة في كل الظروف متى بدأت كتابة "موسم الهجرة"؟ - أذكر أني قضيت إجازة جميلة جداً في جنوبفرنسا، في بلدة صغيرة تقع غرب كان. كان ذلك سنة 1962، وخلال الإجازة في تلك القرية الصغيرة على البحر أكملت "عرس الزين"، ومباشرة بعدها بدأت "موسم الهجرة إلى الشمال"، وكانت في ذهني منذ زمن. كتبت ثلث الرواية، بسرعة مدهشة، ثم توقفت، توقفت لأربع سنين. لم أكن أدري ماذا أفعل، وكيف أطور الرواية. وعندما عدت إليها مرة أخرى، أكملتها أيضاً بسرعة، خلال أسابيع، في حين أن فترة الانقطاع بين الجزءين استمرّت أربع سنين. هل تكتب في أوقات محددة؟ وهل تتبع طقوساً معينة؟ - عموماً أحب الكتابة في الليل. لكن عندما أدخل في عمق الموضوع أكتب في أي وقت من اليوم، وليس لي نظام معين كما عند بعض الكتاب مثل أستاذنا نجيب محفوظ. هل شكلت الوظيفة عائقاً أمام عملك الإبداعي؟ - بصراحة الذي يرغب في الكتابة يمكن أن يكتب تحت أي ظرف. أحياناً أنا نفسي أتذرع بمشاغل الوظيفة. ولكنها محض ذريعة، فالوظيفة لا تمنع من الكتابة. صحيح أن العمل يأخذ جهداً وطاقة، وأحياناً بالقدر نفسه الذي تأخذه الكتابة. والوظائف التي شغلتها أيضاً كانت تستدعي نوعاً من الكتابة سواء في الاذاعة الپ"بي بي سي" أو في قطر أو في اليونيسكو. وهي كتابة تأخذ الطاقة الابداعية نفسها في جوانب غير ابداعية. لكن الحقيقة هي ان الكاتب يستطيع الكتابة في كل الظروف. أخونا الدكتور محمد ابراهيم الشوش يكتب في كل مكان، وله قدرة على التركيز لم أرها في انسان آخر. رسالة الدكتوراة كتبها في الباصات والقطارات! وأنا عندي قدرة على التركيز أيضاً لكن بطريقة مختلفة، من الممكن أن استغرق في الكتابة فلا أشعر بالناس من حولي. لكنّني لسبب ما لا أحب الكتابة. أحب ان أعمل شيئاً آخر دائماً، وحتى المقالة الأسبوعية التي أكتبها هم بالنسبة إلي. هل تستمع إلى الموسيقى أثناء الكتابة؟ - أستغرق في العمل وأنقطع إليه، وأفضل نوعاً من الخلوة، لأن المرء يغوص في أعماق نفسه. لكنني أستمع إلى الموسيقى عندما أتعب من الكتابة، وليس أثناءها. آخذ فترة راحة، اتحدث مع زوجتي وبناتي، أشرب قهوة أو شاياً، أو أتمشى، أنا أحب المشي. ولو الواحد ربنا فتح عليه، وحصل على منزل في جبل، يمكن أن تصبح الكتابة أمتع وأسهل. يقال إن ابراهيم الكوني، وهو موهبة روائية صاعدة، أكرمته الحكومة الليبية - وحكوماتنا نادراً ما تكرم المبدع - وأعطته وظيفة ملحق ثقافي في سفاراتها في بيرن في سويسرا، لكنه يسكن في الجبل ومنقطع للكتابة تماماً. فلو كانت حكومة السودان أكرمتنا لربما كنا تفرغنا للكتابة. أنت تحب سويسرا وكثيراً ما تزورها...؟ - أحب سويسرا لطبيعتها، لكنها بلد غير موحٍ بالنسبة إلي. أنا كتبت عن أهلي في السودان، وفي جنوبفرنسا حيث الطقس يناسبني تماماً، البحر والهواء الذي يأتي مشبعاً بروائح النباتات. وكتبت أيضاً في لندن. هل تعرض أعمالك قبل اكتمالها على بعض الأصدقاء ؟ - أبداً. لا أناقش أي شخص إطلاقاً حول العمل، قبل أن يكتمل. حينما بدأت نشر "مريود" في مجلة الدوحة، هل كانت كاملة أم كنت لا تزال تعمل عليها؟ - كانت كاملة. وقد أكملتها في اليونان، حيث قضيت إجازة جميلة في منطقة فولوس، وهي غير معروفة من قبل السياح، استأجرنا بيتاً على البحر، بيتاً بسيطاً، فكانت إجازة جميلة ومنتجة. هل جربت أي كتابة أخرى غير الرواية والقصة؟ هل كتبت الشعر مثلاً؟ - لم أكتب الشعر. أحياناً أكتب ما يشبه النقد، أو قل "التذوق"، أقدم انطباعات شخصية عن شعراء أو كتاب أو أماكن، أعمل ما يسميه الانكليز Evocation. النقد أيضاً شيء أساسي ومهمّ، إذا كان جيداً. لكن أحب ان أقرأ شاعراً يكتب عن كاتب روائي، أو كاتباً روائياً يكتب عن شاعر. خذ مثلاً مقالات الكاتب الفرنسي مارسيل بروست عن شعر بودلير. هناك في تلك النصوص شيء آخر لا تجده في النقد، لأن كتّابها أصحاب مهنة، يدركون "الحُرقة" الموجودة في العمل الأدبي. أنا أحب جداً أن أنفذ إلى الوجدان، وجدان الشاعر، أو الكاتب، وأقدم هذا إلى القارئ. عملت أشياء من هذا النوع، وبعضها وجد في ما يبدو بعض الاستحسان. ألم تجرب كتابة الشعر أبداً، حتى في العمر المبكر ؟ - أبداً. لم أكتب الشعر على الاطلاق، اذا استثنينا بيتين أو ثلاثة، على سبيل المزاح. هل جربت أنواعاً أخرى من الإبداع؟ رسم أو موسيقى مثلاً؟ - إطلاقاً. أذكر أن معلّم الفنون في السنة الأولى من المرحلة الثانوية كان مدرساً مصرياً اسمه راغب، يعرفه أخونا ابراهيم الصلحي، وكان قادماً من باريس. يعطينا أشياء لنرسمها، ناس الصلحي كانوا رسامين، فنانين، ولا بدّ أيضاً من ذكر أخينا عبدالوهاب موسى. وكان أستاذنا راغب ينظر إلى "الشخبطة" التي أعملها، فيقول لي: "يا سلام دي موسيقى، دي موسىقى!!". لكن لم أحاول أبداً أن أرسم. الغناء أيضاً لم أجربه، ولم أعزف آلة موسيقية. هل كنت تستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية؟ - حتى مجيئي إلى انكلترا لم استمع إلى موسيقى كلاسيكية، ولا حتى موسيقى لبنانية أو مصرية. كنت سودانياً قحاً. لكنّني استفدت لاحقاً من العمل في الاذاعة إلى حدّ بعيد، إذ جعلني استمع إلى كل أنواع الموسيقى، وبوفرة. هكذا أحببت باخ، وأحب الاستماع إلى الأناشيد الغريغورية، والجاز، وأشياء من هذا القبيل. يوسف وهبي و"الملك لير" ما علاقتك بالفنّ التشكيلي؟ - عندما جئنا إلى هذه البلاد اكتشفنا أن الناس حولنا يتمتّعون بثقافة عامة مدهشة. حتى السكرتيرات كنّ قارئات وعارفات بالرسم والموسيقى. فكان علينا ان نسعى للحاق، وأذكر أنني تعرفت إلى فتاة من اوكسفورد، ذكية جداً، وكنت أشعر انني ألهث لكي ألحق بمستوى ثقافتها، وكانت طالبة أدب فرنسي. وصرت أذهب كل شهر تقريباً إلى ال "تيت غاليري"، كما رحت أرتاد المسارح بكثرة. وأنا أحب المسرح إلى الآن. كنتَ في الاذاعة تخرج أعمالاً ليوسف وهبي وأمينة رزق. هل استفدت كثيراً من تجربة الإخراج هذه؟ - صحيح أنني أحببت الدراما، لكن ليس بطريقة من يرغب في دخول هذا الوسط كي يصير مخرجاً. كنت أقرأ النص وأحاول فهمه، خصوصاً اذا كان النص لأبسن أو شكسبير. وبعد ذلك يأتي هؤلاء الممثلون الكبار، وأصير مثل المايسترو، وكنت وقتها صغيراً في السن. أذكر مثلاً أننا أخرجنا مجموعة من المسرحيات في مناسبة ذكرى ميلاد شكسبير، منها "الملك لير" وهي برأيي أصعب مسرحياته. يوسف وهبي كان يمثل دور الملك لير، وهو حينما أتى إلى لندن، كان أخواننا في مصر بدأوا يعتبرونه حكاية قديمة، لا فائدة ترجى منه. لكن الرجل عبر عن طاقة جبارة. حينما بدأنا نتدارس النص، قال لي، وكنت أخجل منه: "إسمع يا بني، انت فاهم النص أكثر مني فما تخافش مني، وقولي انت عاوز ايه؟". هذا الرجل وأمثاله، أمينة رزق وعباس فارس وحسين رياض والبارودي، وكل الممثلين الكبار، هم آلات جاهزة للعزف، آلات رائعة لأيّ مايسترو جيد. لحظة موت كورديليا يحملها الملك لير قائلاً: "أبداً أبداً…"، وأعتقد أن يوسف وهبي وصل في هذه اللحظة إلى قمة لا تقلّ عظمة عن أي ممثل انكليزي، حتى ان مهندسي الصوت الانكليز صمتوا تماماً! في حلقة البحث التي نظّمتها جامعة اكسفورد عن أعمالك، إعتبر الدكتور أحمد البدوي أن "موسم الهجرة إلى الشمال" أهم عمل روائي عربي على الاطلاق... - طبعاً، حين أسمع هذه الشهادة من أكاديمي بارز، لا يمكنني ككاتب سوى أن أشعر بفرح غامر. يجب أن أعترف بذلك. لكن في الوقت نفسه، أنا لا أميل إلى مثل هذه الاحكام. الرواية العربية مجموعة من الاصوات، كتاب مجيدون، اصوات جميلة، تشكّل مع بعضها بعضاً جوقة، وهذا هو المهم. في مصر والعراق ولبنان وليبيا والمغرب وتونس، تجدهم متجهين إلى مزيد من الابتكار والاكتشاف والابداع. وفي نهاية الامر، هذا أهم من اختيار أعظم عمل، أو أعظم كاتب. هناك اتجاه نقدي يعتبر أنّك كتبت نصاً واحداً... - هناك من يقول إن المبدع يعيد على الدوام انتاج النصّ نفسه. اظن ان هناك وحدة، هي وحدة المكان، في ما كتبته حتّى الآن: القرية هي العنصر الثابت وتحدث فيه اشياء، يمكن أن نعمّم هذا الاطار على كلّ ما كتبت. على أطراف العالم العربي ما رأيك في اسباب اكتفاء العالم من الابداع السوداني بمساهمة واحدة، هي مساهمة الطيب صالح؟ لماذا لم يبرز المبدعون الآخرون، مثل المجذوب مثلاً في مجال الشعر؟ - هذه قضية طويلة. نحن أصلاً، بطبيعة وجودنا، على أطراف العالم العربي، ودولتنا اسمها السودان، يعني بلاد السود. فإخواننا العرب قد يجدون صعوبة، عرب الشمال تحديداً، في اعتبارنا عرباً. لا بدّ من تذكيرهم أن هذه اللغة لم نتعلّمها من أحد، مثل الانكليزية، إنّها لغتنا، ولنا علماء كبار فيها مثل الدكتور عبدالله الطيب. وعندنا شعراء مثلما ذكرت المجذوب والتجاني يوسف بشير، وحقه، على فكرة، مغموط في حركة التجديد الرومانسي، وحتى الآن ديوانه مطبوع طباعة لا تليق بمقامه. وهذا عيب على البلد. التجاني هذا كان من المفترض أن تكتب عنه كتب كثيرة ويُحَقّق ديوانه. وهناك كثيرون غير هؤلاء ذكرهم الشوش في كتابه "أدب وأدباء". والآن الساحة مليئة بالمبدعين في مجال القصة والرواية. أنا معجب جداً بابراهيم اسحق الذي يقدم مناخاً جديداً حتى علينا نحن السودانيين. سؤالك يجعلني أنتبه أن عدم اقبالي على الكتابة هو نوع من العدوى لعدم الاكتراث السوداني نفسه، هناك لامبالاة سودانية قاتلة. إننا لا ننظر إلى الكتابة كشيء فيه فائدة، وهذه قضية أظن أن للدولة دوراً مؤثراً فيها، فالمفاتيح بيدها إلى حدّ كبير: لو ان دولتنا اهتمت بالأدباء، وطبعت انتاجهم، وعملت على ذيوعه، لكان الوضع الآن يختلف إلى حدّ بعيد. من أحببت من كتّاب الرواية الكبار وبمن تأثرت؟ - أحب جوزيف كونراد وهو من المعلّمين الكبار بلا شك. وأحب أيضاً تشارلز ديكنز الذي يغلب اعتباره كاتباً شعبياً، لكنه كاتب عبقري. وأحب أيضاً بلزاك وستاندال، وفولكنر بشاعريته وهو يكتب عن الجنوب. وأنا أقرأ الآن رواية جميلة، شاعرية للغاية، هي "إله الاشياء الصغيرة" لأرونداتي روي الحاصلة على جائزة بوكر العام الماضي، وأظنها متأثرة بفولكنر إلى حد ما. تولستوي طبعاً قمة، هو وتوماس مان، هؤلاء جبال. قد يتعب المرء من قراءتهم أحياناً، عندهم أشياء مملة، والأعمال الكبيرة عموماً فيها اجزاء مملة، ولعل دوستويفسكي أقرب إليّ من تولستوي. حقيقةً، أنا تأثرت بالمسرح اكثر، وعلى وجه التحديد بشكسبير، هو صاحب الأثر الغربي الأكبر عليّ، كما أحب مشاهدة مسرح بريخت وتشيخوف. المؤثرات طبعاً صعب تحديدها، لأن الامور تختلط بعضها ببعض، لكنّ البيئة السودانية والمؤثرات الأولى هي الأبقى. لكن، كما اقول دائماً، حينما بدأنا نقرأ للانكليز والفرنسيين والامريكان كانت هذه القراءات تكشف لنا اشياء موجودة عندنا ولم ننتبه لها، لم تكن تعطينا شيئاً جديداً. أحياناً تقف عند شكسبير وتقول إن هذا الكلام موجود عندنا، في مناحات النساء او في الشعر الجاهلي. أعتقد أن هذا هو التأثير الاهم. لا أدري إن كنت في الاسلوب قد اخذت من كاتب آخر، وحتى الفن الروائي ليس غربياً تماماً كما تعلم. فن القص عندنا غني جداً، سواء في تراثنا الشعبي أو في أدبنا العربي، وأحياناً لا تكون الأشكال المستوحاة من الغرب إلا "بضاعتنا رُدّت الينا". ألم تُحدِث "ألف ليلة وليلة" ثورة في فن القصّ عند الغربيين الذين ما زالوا يأخذون عنها حتى الآن؟ الشاعر والكاتب السوداني محمد عبدالخالق زعم، في مقال منشور في جريدة الخرطوم، انك سعيت في أعمالك إلى هدم النقاء العرقي، وقدّم شواهد من نصوصك، فما قولك في ذلك؟ - الحقيقة لم أقرأ هذا المقال، لكن هذا الكلام يعجبني جداً، لأني متهم من اخواننا الجنوبيين بأني متعالٍ عرقياً، نحن في السودان أصلنا هجين. نحن شعب هجين من وقت مبكر، والآن صارت الهجنة هي الفكرة الرئيسية الجديدة. نحن أصلاً هجناء، عرب على نوبة على زنج، والغريب ان اخواننا الجنوبيين يغضبون من كلمة زنج، مع ان الكلمة ليس فيها اي اساءة، الاساءة هي حينما يقال "أسود" لأن أسود لون، نحن خليط من كل هذا. السودان من ناحية السلالات عبارة عن حوض تقاطرت عليه الناس من الشرق والشمال والغرب والجنوب. وهذا كله هضمناه بطريقة متحضّرة. عملنا هذه الخلطة مثلاً عندنا السواد جميل، "الزول الأخدر" يغنّون له. وفي العائلة الواحدة تجد مَن لونه فاتح ومَن لونه غامق. ليس عندنا اطلاقاً هذا الاحساس بأن اللون يدل على قيمة الانسان. اخواننا الجنوبيين في محاولة تأكيد حقوقهم السياسية، ولديهم حقوق سياسية لا تُنكر، يبالغون أحياناً في تصوير الشمال على انه متسلط ومهيمن. أنا لا أرى ذلك أبداً. السودان من المجتمعات التي فيها خليط سلمي بين الاعراق. كلنا "مخلوطين"، بل الحكاية اعمق من ذلك بكثير، وحتى العرب من أين أتوا؟ والأفارقة من أين أتوا؟ كل هؤلاء في النهاية يعودون إلى اصل واحد. مسألة الاعراق فكرة أوروبية