شهد سباق الجائزة الكبرى في بطولة العالم لسيارات فورمولا واحد على حلبة مونزا في ايطاليا عرين فيراري تقلبات حادة في المواقع شبيهة بتقلبات أسعار العملات في أسواق البورصة بعد انهيار الروبل الأخير أو بتقلبات الطقس في لندن عاصمة الضباب، وحفل السباق بأحداث دراماتيكية وفرّت للمشاهدين وجبة دسمة من المتعة والإثارة حتى ليمكننا القول إنه سباق الموسم حتى إشعار آخر. لم تعمِّر فرحة "التيفوزي" بانطلاق ميكايل شوماخر بطل العالم مرتين في المركز الأول للمرة الأولى في هذا الموسم، أكثر من رفة عين، فقد نجح سائقا ماكلارين - مرسيدس ميكا هاكينن وديفيد كولتهارد في انتزاع المركزين الأول والثاني تباعاً بعد انطلاقهما من المركزين الثالث والرابع، في مناورة خاطفة اجهضت فرحة "التيفوزي" وجعلت الوجوم يسيطر على المدرجات التي غصت بأعلام فيراري وأعلام ايطاليا، خصوصاً بعد تقهقر شوماخر إلى المركز الخامس وراء ادي ايرفاين وجاك فيلنوف. وقد اعترف شوماخر بعد المؤتمر الصحافي الذي عقده إثر السباق بأنه حقق أسوأ انطلاقة في حياته، إذ خيّل إلى من يشاهدونه أنه يقوم بنزهة، ولا يشارك في سباق قد يكون حاسماً في تحديد مصير البطولة في هذا الموسم. ومما لا شك فيه ان انطلاقة السباق كانت السيناريو المثالي لفريق ماكلارين - مرسيدس إلى كونها صدمة قاسية لمشجعي فيراري ولسائقها الأول ميكايل شوماخر الذي أهدر فرصة ذهبية سنحت له للمرة الأولى هذا الموسم، بعدما أهدر 10 نقاط في سباق الجائزة الكبرى على حلبة سبا في بلجيكا قبل أسبوعين. لكن شوماخر راح يتدارك "فضيحة" الانطلاق، فتجاوز فيلنوف في اللفة الأولى، وسهل له ايرفاين مهمة تخطيه لاحقاً، ليتفرغ بعدئذ لمطاردة سائقي ماكلارين - مرسيدس. وكانت المفاجأة في اللفة السابعة عندما تخطى كولتهارد زميله هاكينن ليتصدر السباق، إما نتيجة لمتاعب واجهها الفنلندي في السيارة الاحتياطية التي كان يقودها، وإما لأن فريق ماكلارين اعتمد استراتيجيتين في السباق تقضي الأولى بتوقف كولتهارد مرتين في المرأب، وتقضي الثانية بتوقف هاكينن مرة واحدة على غرار الاستراتيجيتين اللتين اعتمدهما فريق فيراري لسائقيه الأول والثاني. راح كولتهارد يعمق الفارق بينه وبين هاكينن وشوماخر حتى بلغ الفارق بينه وبين الأخير 10 ثوانٍ. وفي اللفة السابعة عشرة انفجر محرك كولتهارد من دون سابق انذار، مخلفاً وراءه سحابة من الدخان أتاحت لشوماخر ان يمسك بزمام المبادرة من جديد، فقام بمناورة بارعة جعلته يتجاوز هاكينن ويتصدر السباق بعدما حبس انفاس المشاهدين وأحدث عاصفة هستيرية من الفرح اجتاحت المدرجات التي كانت تنتظر بفارغ الصبر هذه اللحظة السعيدة. وعلى الأثر دانت السيطرة لشوماخر وكان لتشجيع التيفوزي وهتافاتهم فعل السحر، ما جعل سيارته تنطلق بقوة مليون حصان، وعندما بلغ الفارق بينه وبين هاكينن أكثر من ست ثوانٍ، دخل شوماخر المرأب في اللفة الحادية والثلاثين، متخلياً عن الصدارة لسائق ماكلاين، مطمئناً إلى أنه سيستعيدها حتماً عندما يدخل منافسه المرأب. وهذا ما حصل بالفعل عندما توقف هاكينن في اللفة الرابعة والثلاثين. لكن هاكينن، متصدر الترتيب العام للبطولة، لم يلق السلاح، بل طارد شوماخر بعناد وإصرار وراح يقضم الفارق بينه وبين سائق فيراري لفة إثر لفة إلى أن تقلص هذا الفارق من 710،5 ثوانٍ في اللفة الخامسة والثلاثين إلى 616،2 ثانية. بعد ان سجل في اللفة الخامسة والأربعين أسرع وقت في السباق، منجزاً هذه اللفة بزمن مقداره 139،25،1 دقيقة. وفي حين خيّل إلى المشاهدين ان حرارة الإثارة ستبلغ في اللفات الأخيرة من السباق درجة الغليان وان هاكينن بدأ يشكل تهديداً جدياً لتصدر شوماخر السباق، خرج الفنلندي من الحلبة في اللفة السادسة والأربعين، ودارت سيارته على نفسها دورات عدة. وبذل هاكينن مجهوداً خارقاً للسيطرة عليها وإعادتها إلى الحلبة بعد خسارته ما يزيد على 20 ثانية شعر خلالها بأن أحلامه في المنافسة على المركز الأول قد تطايرت شظايا وصار همه كل همه انقاذ ما يمكن انقاذه بعدما أصيبت سيارته بعطل في مكابحها. وعلى الأثر انتقل الصراع من المنافسة على المركز الأول إلى المنافسة على المركز الثاني، ولم يطل الوقت حتى حسم ايرفاين سائق فيراري الصراع لمصلحته، فتخطى هاكينن في اللفة التاسعة والأربعين. ولم تقف خسارة هاكينن عند هذا الحد، إذ تجاوزه أيضاً رالف شوماخر في اللفة الحادية والخمسين، منتزعاً منه نقطة ثمينة أتاحت له أن يعتلي منصة التتويج للمرة الأولى مع شقيقه ميكايل، وأتاحت لهذا الأخير أن يتساوى نقاطاً مع هاكينن في صدارة الترتيب العام للبطولة برصيد 80 نقطة لكل منهما. وبمقدار ما كانت بداية السباق مثيرة، كانت نهايته مثيرة أيضاً. مع هذا الفارق: شهدت بداية السباق السيناريو الأحسن لماكلارين - مرسيدس، وشهدت نهايته السيناريو الأحسن لفيراري على حلبتها وأمام جمهورها، إذ حققت الثنائية الثانية لهذا الموسم بعد سباق الجائزة الكبرى على حلبة مايني كور والثنائية الثانية على حلبة مونزا منذ العام 1988 وهو ما فاق جميع التوقعات وفجّر براكين الفرح الكامنة في قلوب "التيفوزي" الذين اجتاحوا الحلبة للاحتفال بهذا الانتصار الفريد الذي خلط أوراق البطولة قبل نهاية الموسم بسباقين سواء على صعيد السائقين أو على صعيد الصانعين، واكتملت فرحة ميكايل شوماخر عندما أعتلى منصة التتويج وكأنه يعتلي قمة الدنيا متوسطاً شقيقه في فريق فيراري ادي ايرفاين وشقيقه بالدم رالف شوماخر. ولكنني اعتقد ان فرحة شوماخر الغامرة كانت مشوبة ببعض المرارة، فهو في قرارة نفسه كان غاضباً على نفسه، لأنه لولا تهوره في القيادة على حلبة سبا في بلجيكا في أحوال جوية بالغة السوء، لكان اليوم يتصدر الترتيب العام لبطولة السائقين بفارق 10 نقاط عن ميكا هاكينن ولكانت فيراري تساوت نقاطاً مع ماكلارين - مرسيدس برصيد 128 نقطة لكل منهما. ولا بد من الاشارة هنا إلى أن الجهود المضنية التي بذلها فريق فيراري، إداريين ومهندسين وميكانيكيين وسائقين، كانت وراء الانجاز الرائع الذي تحقق على حلبة مونزا، وقد ساعدت تلك الجهود في ردم الهوة التي كانت تفصل بين سيارة فيراري وسيارة ماكلارين - مرسيدس في بداية الموسم. أما هاكينن فقد خاض سباقاً قاسياً أظهر فيه مهارات عالية إلى جانب بعض الهنات في المواقف الحرجة، فهو اذهل المشاهدين بالمناورة التي قام بها لحظة انطلاق السباق وأتاحت له أن يتصدر، لكنه أبدى تردداً إثر انفجار محرك زميله كولتهارد استغله شوماخر أفضل استغلال واستعاد الصدارة التي فقدها عند خط الانطلاق. ولا يمكن تحميل هاكينن مسؤولية خروجه عن الحلبة في اللفة السادسة والأربعين، بل يجب التنويه بقدرته على التحكم بسيارته في موقف بالغ الدقة بعدما تعطلت المكابح. وفي الختام، يستحق فريق جوردان موغن هوندا 31 نقطة لفتة خاصة، إذ اتبعت نتائجه في السباقات الأخيرة خطاً بيانياً تصاعدياً جعله يدخل جدياً على خط المنافسة على المركز الثالث في بطولة الصانعين مع فريق وليامس - ميكا كروم برصيد 33 نقطة وبينيتون بلاي لايف برصيد 32 نقطة. وإذا ثابر الفريق في تحسين أداء السيارة، سيدخل في الموسم المقبل دائرة المنافسة على المركز الأول