ترفض الولاياتالمتحدة أن يكون لها أعداء. وهي تشدد على ذلك، منذ ان خرجت منتصرة في "الحرب الباردة". لقد هزمت الامبراطورية التي كانت تنافسها على زعامة العالم ولم تعد ترتضي، بعد ذلك، ان ترفع الى مستوى "العدو" أي طرف يخاصمها. وعندما خاضت واشنطن حربها الأولى بعد انهيار المعسكر الاشتراكي أبت على نفسها القول بأنها تقاتل العراق. اعتبرت انها تقوم بمجرد تلقين الرئيس صدام حسين درساً. "عاصفة الصحراء"، من وجهة نظر أميركية، هي عملية تأديب فحسب. لقد كانت مجرد ذراع مسلحة للقانون والشرعية الدولية. وكان سبق لها ان أقدمت على تجربة أولى في هذا المجال حين غزت بنما لاعتقال رئيسها نورييغا. لقد خالف هذا الأخير القوانين الأميركية، وتمرد على رؤسائه السابقين في الاستخبارات المركزية الأميركية فكان لا بد من استحضاره وجلبه امام المحاكم، ولو كلف ذلك مئات القتلى. ان الانفراد في الوقوف على قمة العالم عزز شعورا موجوداً بقوة لدى الأميركيين شعباً وحكومة ونخبة. ومؤداه ان الأمة الأميركية، الطيبة جوهرياً، هي صاحبة رسالة انسانية عالمية وان قيمها عالمية، الأمر الذي يعني ان مصالح البشرية تتماهى مع مصالحها. وتأسيساً على هذا الوعي فإن من يخالف الولاياتالمتحدة ويخرج عن الصراط المستقيم، ينحرف، ويصبح عقابه واجباً. تقول احصاءات دقيقة ان أكثر من ثلث البشرية تعيش، اليوم، وبشكل أو بآخر، في ظل عقوبات أميركية. وإذا كان العراق يقدم نموذجاً عن الحالة القصوى فإن مروحة أشكال التأديب واسعة: من التضييق التجاري والاقتصادي، حتى الحرب الشاملة مروراً بالمقاطعة على أنواعها. والولاياتالمتحدة هي البلد الوحيد في العالم الذي يعلن جهاراً نهاراً ان القوانين الداخلية التي يسنها، أو بعضها على الأقل، قابلة للتطبيق على دول أخرى ذات سيادة وعلى مواطني هذه الدول وشركاتها. ولا تكتفي واشنطن بأن تقاطع ليبيا، مثلاً، بل تنتقل لمنع تجارة الآخرين معها، وكذا الأمر مع ايران أو كوبا. وبما ان قوانينها هي القوانين فهي ترفض محاكمة المتهمين الليبيين إلا أمام محاكمها وتزجر كل من يحاول خرق الحصار المفروض على طرابلس. يعني ذلك ان الولاياتالمتحدة تمارس حيال بعض الدول "الدرجة الثانية" من المقاطعة في حين انها تضغط على الدول الغربية لرفع المقاطعة عن اسرائيل حتى في درجتها الأولى. لقد طرحت واشنطن في التداول مفهوم "الدول المارقة". وهي تخص بهذه الصفة الدول التي تتحدى القوانين والمصالح الأميركية وذلك بغض النظر عن منطوق القوانين الدولية ومصالح الآخرين. فعندما قضت محكمة العدل الدولية بقبول النظر في الشكوى الليبية حول مرجع المحاكمة في قضية لوكربي كان متوقعاً ان تجمد الولاياتالمتحدة العقوبات الى حين البت في الأمر. غير انها أبت ذلك ولم تأبه لقرار مؤسسة تضع القانون الدولي، وحده، نصب عينيها. تريد أميركا لنفسها أن تكون هي الحكم الوحيد ولو انها، في أحيان كثيرة، الخصم! ليس غريباً، والحال هذه، ان تورد الولاياتالمتحدة اسماء دول الى جانب اسماء منظمات تعتبرها ارهابية، الى جانب مهربي المخدرات الى جانب تجار السلاح، الى جانب جماعات تبييض العملة، الى جانب اقطاب الجريمة المنظمة، والقصد الواضح من ذلك، التركيز على أن القاسم المشترك هو شق عصا الطاعة والخروج على القانون. ولا مجال، والحال هذه، للاعتراف بوجود خلاف سياسي أو تضارب في المصالح. ان "خصوم روما" هم البرابرة لقد كان هذا هو المفهوم الامبراطوري عندما انفردت روما بالسيطرة على العالم المعروف آنذاك، وها هو يتكرر بمجرد ان أصبح العالم في وضع مشابه: اما اعداء الولاياتالمتحدة هم... برابرة مارقون. وبناء عليه فإن هيئات اميركية رسمية تصدر دورياً لوائح سوداء تعين اسماء المطلوبين للعدالة. وقد أصبح هذا التقليد راسخاً الى حد أن الكثيرين ينتظرونه، كما ينتظر الطلاب نتائج الامتحانات، خصوصاً انه قد يعلن مصحوباً بعلامات من نوع القول ان هذه الدولة خطت خطوة في الاتجاه الصحيح، وهذه تراجعت، وهذه راوحت مكانها. غير ان المشكلة في ما تقدم هي ان الولاياتالمتحدة لم تستقر، حتى الآن، على اسئلة واحدة. فلقد حرمها انهيار المعسكر الاشتراكي من عدو واضح يسهل معه تحديد الخصم من الصديق، ولذلك فهي لم تنجح في تحديد أولوياتها في مجال السياسة الخارجية. قال الرئيس بيل كلينتون، مرة، ان الأولوية هي ل "توسيع الديموقراطية". وهكذا وجد نفسه يعيّن الصين على رأس الدول المارقة. ولما تبين له ان قضية حقوق الانسان قد تعرقل العلاقات التجارية، وغيرها، مع هذا المارد الآسيوي الصاعد، اضطر الى تجديد الاتفاقات الاقتصادية مع بكين. لا بل ذهب أبعد من ذلك ففصل بين التجديد السنوي لهذه الاتفاقات وقضية الحريات. ومنذ ذلك الوقت تراجع الموضوع الى الخلف وبات يشار إليه من باب رفع العتب. قال كلينتون في مرة ثانية، ان الأولوية الأميركية هي منع انتشار أسلحة الدمار الشامل وهنا اعتبر انه دخل في صدام مباشر مع كوريا والعراقوايران وليبيا، وغير مباشر مع الصين وروسيا لأنهما تصدران تكنولوجيا "محظورة". عالج الحالة الكورية على حدة بعدما كاد يصل الأمر الى مواجهة عسكرية. وأوجد الرئيس الأسبق جيمي كارتر حلاً يقضي بمساعدة كوريا على تطوير برنامجها النووي السلمي، وباغرائها عبر المساعدات الاقتصادية من أجل تطويق طموحاتها العسكرية واقناعها بعدم التعاون في هذا المجال مع دول أخرى. وعالج الحالة الليبية بأن فرض نوعاً من الحصار على بلد لا يصدق أحد انه قابل لتشكيل تهديد استراتيجي. وحتى فرنسا التي سبق لها ان دخلت في صراع غير مباشر مع ليبيا في تشاد ولا تقبل كثيراً التهديد الأميركي. وكذلك ايطاليا، الجارة الأوروبية الأقرب. فهي تفضل شراء النفط بأسعار مناسبة بدلاً من الاستماع الى أجراس الانذار. ولقد اضطر كلينتون الى الهرب الى الامام بشكل مضحك، عندما فرض غرامات على كل مواطن أميركي يبيت ليلة في فنادق في أوروبا الشرقية يمكن لليبيا ان تكون مالكة لمساهمات فيها! أما الوضع العراقي فيجري التعاطي معه بالطريقة المعروفة، وليس سراً ان التشدد الأميركي يلقى اعتراضاً متزايداً خصوصاً بعد اتضاح ان ضحايا الحصار يفوقون ضحايا أسلحة الدمار الشامل وبعدما تبين ان واشنطن لا تملك تصوراً واضحاً للمستقبل. وفي حين يشهد التحالف الدولي تفسخاً سببه العناد الأميركي فإن واشنطن قد تضطر الى القول، عاجلاً أو اجلاً، ان القضية ليست قضية أسلحة بل مجرد سعي لوضع اليد على البلد وثرواته. وفي ما يخص ايران فإن المسؤولين الأميركيين باتوا يعترفون بوجود ثقوب واسعة في السياسة المتبعة حيال هذا البلد. فالادارة تبحث عن بديل ولا تجده مع انها اضطرت أخيراً الى التراجع أمام الأوروبيين فاستثنت شركة "توتال" الفرنسية من العقوبات بعد التهديد باللجوء الى محكمة منظمة التجارة الدولية. وعلى يسار الادارة ترتفع أصوات تطالب بتطبيق "الحل الكوري" على ايران خصوصاً بعد الاشارات الايجابية التي اطلقها الرئيس الجديد محمد خاتمي. وعلى يمينها تقف أكثرية في الكونغرس تطالب بمزيد من التشدد وتسن القوانين الداعية الى ذلك. غير ان الطريف في الأمر هو أنه بينما كانت الولاياتالمتحدة منصرفة بكليتها الى معالجة حالات "المروق" هذه، في ما يخص أسلحة الدمار الشامل، أقدمت الهند على تفجير "خلية" من القنابل النووية. ما العمل والحال هذه؟ هل تستطيع واشنطن تصنيف مليار بشري بصفتهم رعايا دولة خارجة على القانون؟ إذا فعلت ذلك تكون أوصلت المفهوم الى ذروة اللامعنى، واذا لم تفعل تكون تشجع باكستان على الاقدام على تفجيرات مماثلة؟ واذا فعلت اسلام آباد ذلك هل يبقى منطقيا تفتيش الخبراء عن "فضلات" كيميائية في العراق، ومحاصرة برنامج التسلح الايراني؟ لا يبدو ان واشنطن قادرة على رتق الثقوب. ولعل من أسباب ذلك ان المبدأ الذي تحاول فرضه ليس عاماً بل تمييزياً الى أبعد حد. فهو، أولاً، يحصر النادي النووي بخمس دول ترفض ان تنص، في الاتفاقات الرسمية، على جدولة الخلاص من ترساناتها. وهو، ثانيلا، وهذا الأهم، يتعامى بشكل مطلق عن اسرائيل وعما هو معروف من امتلاكها مئات الرؤوس النووية الاستراتيجية والتكتيكية. لا بل اكثر من ذلك، ما زالت الولاياتالمتحدة تنفق من موازنتها في سبيل مساعدة تل أبيب على تطوير المنظومة الصاروخية التي تعطي، وحدها، للتهديد النووي كل معناه. لقد اعطت الولاياتالمتحدة أولوية بارزة. في سياستها الخارجية، لمكافحة الارهاب. وهي اعتبرت كوبا، بهذا المعنى "دولة مارقة" علماً ان لا دليل أبداً على رعايتها الارهاب. وكذلك رأت واشنطن ان السودان دولة تستحق ان تعاقب. وكانت الحجة في ذلك "التآمر" لاغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في اثيوبيا. غير أن أي متابع للأحداث يعرف ان القاهرة، وهي المعنية الأولى، تدعو الى علاقة من نوع آخر مع الخرطوم. ومع ذلك لم تتورع واشنطن عن المضي في نهجها وقد قادها ذلك الى حد التصريح علناً بأنها تسلح دولاً مجاورة للسودان من أجل الاعتداء عليه لا بل تكرار ما جرى في منطقة البحيرات الكبرى حيث حصلت تدخلات خارجية مسلحة من أجل تغيير أنظمة غير "صديقة"! كذلك اتهمت الولاياتالمتحدة سورية ب "رعاية الارهاب" ووضعت اسمها على اللائحة الخاصة بذلك. غير أن هذا الموقف، وان كانت له تبعات اقتصادية محدودة، فإنه بقي من دون أي أثر سياسي طالما ان واشنطن تعترف بالدور المركزي لدمشق في عملية السلام في الشرق الأوسط وتعتبر ان وجودها في لبنان يؤدي "مهمة بناءة". عندما يذهب كلينتون الى اعتبار ان الأولوية الحاسمة لبلاده هي فتح الأسواق وتطوير التجارة الخارجية وتحرير المعاملات على أنواعها، فإنه يصطدم ب "دول مارقة" من نوع آخر ليس أقلها اليابان. ولكن، هنا أيضاً، لا تخلو السياسة الأميركية من تناقضات طالما ان الكونغرس ما زال يرفض الاعتراف بمرجعية الهيئات التي أوجدتها منظمة التجارة العالمية من أجل البت في الاختلافات. واضح، إذاً، ان مصطلح "الدول المارقة" مطاطي، لكن النظرة الأميركية تعتبر، في العمق، ان هناك دولاً مارقة أكثر من غيرها. فايرانوالعراق وسورية، مثلاً، تجمع بين كونها دولاً متهمة بنقص في الديموقراطية، وبامتلاك رغبات في التسلح، وبعدم فتح الأسواق، وبالاعتراض على جوانب مهمة في السياسة الاقليمية للولايات المتحدة. ولذلك، ولو عمل تفاوت، فانها في "خط المرأى" الأميركي أو، على الأقل، موضع اعتراضات من جانب الكونغرس. وليس سراً ان النقاش مندلع في الولاياتالمتحدة نفسها وبينها وبين شركائها الأوروبيين واليابانيين على هذا الموضوع بالذات، فهؤلاء الشركاء يعتبرون ان الخفة في تعيين دول خارجة على القانون وفرض عقوبات عليها تؤدي عكس النتيجة المتوخاة وتقود في احيان كثيرة، الى معاقبة الشركات الأميركية والحاق الضرر بمبدأ حرية التجارة. وثمة مؤشرات كثيرة، في الأسابيع الماضية. الى أن الادارة نفسها باتت، تشكك بفعالية نهجها وان كانت لم تستقر، حتى الآن، على بدائل له