بعد خمسين عاماً على إنهماك السياسة الخارجية الباكستانية في التركيز على منطقة جنوب آسيا، وبعدها على جمهوريات آسيا الوسطى إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، تعيد اسلام آباد صياغة سياستها واستراتيجيتها على اساس المعطيات الجديدة التي ظهرت في اعقاب التفجيرات النووية الهنديةوالباكستانية في أيار مايو الماضي، ويجزم المسؤولون الباكستانيون بعد الجولة الخليجية التي قادت رئيس الوزراء نواز شرف الى الدول الخليجية بأن السياسة الخارجية الباكستانية تصاع الآن على اساس ان الأولوية للدول الاسلامية والخليجية بشكل خاص. ويرى محلّلو العلاقات الباكستانية مع دول الجوار ان اسلام آباد بدأت تعاني من عزلة حقيقية على رغم الحضور الاعلامي والسياسي الذي حظيت به في الثمانينات بسبب سياستها الافغانية ودعم المجاهدين الأفغان في إلحاق الهزيمة بالقوات السوفياتية، لكن لم تمض سوى أشهر قليلة على الانسحاب السوفياتي من افغانستان خريف 1990 حتى فرض الكونغرس الاميركي عقوبات عسكرية على باكستان تمثّلت في التوقف عن بيعها معدات عسكرية او تسليمها طائرات "اف - 16" التي دفعت اسلام آباد ثمنها، حتى ان ذلك دفع وزير الخارجية الباكستاني السابق سردار آصف علي خان للقول: "لو كان في العالم عدالة لأُعيدت الينا إما الطائرات وإما الاموال التي دفعناها ثمناً لها". وتعمّقت العزلة الباكستانية بعجز اسلام آباد عن حل القضية الافغانية ما جعلها لاعباً من اللاعبين الكثر في الساحة الافغانية بعدما كانت تستأثر بمجمل اللعبة، اذ دخلت دول آسيا الوسطى، وحتى عدوتها التقليدية الهند، الى الحلبة عبر دعم المعارضة التي تألفت من التحالف الشمالي المناهض لحركة "طالبان" التي اعترفت بها باكستان كحكومة شرعية، وهو ما جلب لها مزيداً من العداء من دول آسيا الوسطى التي يحكمها قادة لا يزالون هم انفسهم منذ الغزو السوفياتي لأفغانستان. رفع حصة العمالة وتعترف مصادر باكستانية بأن اسلام آباد بدأت تدرك انها ستدفع الثمن في حال اصرارها على حل القضية الافغانية على طريقتها الخاصة من دون النظر الى مصالح الدول المجاورة، ولعل ذلك ما حثّها على تشكيل لجنة ايرانية - أفغانية مشتركة للمرة الاولى تقوم بزيارة مناطق "طالبان" والمعارضة في محاولة لايجاد حلّ، وقوبل ذلك بتحرك روسيا وطاجيكستان واوزبكستان التي جمعت الخصمين الاوزبكيين الجنرال عبدالرشيد دوستم وعبدالمالك بهلوان. وتقول اوساط باكستانية ان وصول اسرائيل الى هذه الجمهوريات والزيارة التي قام بها رئيسها عازر وايزمان اخيراً الى دوشنبه تندرج في اطار محاصرة باكستان، خصوصاً بعد بروزها كقوة نووية سابعة، وتساعد في ذلك الدعاية الهندية النشطة في تلك الجمهوريات. وتدرك باكستان جيداً انه من دون حل القضية الافغانية لا يمكنها ان تلعب دوراً مميزاً في المنطقة. وعلى ضوء المخاوف الباكستانية من احتمال اقدام اسرائيل، عشية التفجيرات النووية الباكستانية، على ضرب منشآتها النووية، والحديث المتصاعد عن اجراء الهند لتفجيرين نوويين لمصلحة الدولة العبرية، يتجه صنّاع القرار الباكستاني الى تطوير علاقات بلادهم مع الدول العربية والاسلامية، خصوصاً الخليجية، آخذين في الاعتبار العمالة الباكستانية المكثّفة هناك والتي توفّر تحويلات ضخمة بالعملة الصعبة لباكستان. ويقول ديبلوماسي باكستاني ل "الوسط" ان زيارة نواز شريف لدول الخليج هدفت الى رفع الحصة الباكستانية للعمالة لمواجهة التبعات المتزايدة بعد التفجيرات النووية، وجاء القرار القطري ليؤكد ذلك حين نقلت المصادر الباكستانية موافقة قطر على رفع الحصة الباكستانية من العمالة، فيما وافقت اربع دول عربية شملتها زيارة رئيس الوزراء الباكستاني وهي المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدةوالكويتوقطر، على تزويد باكستان بحاجتها من الوقود ومشتقاته، وذلك بقروض مؤجلة الدفع. ووافقت الكويت على تقديم مساعدة من اجل سدّ العجز في ميزان المدفوعات الباكستاني، وتبلغ قيمة النفط الذي ستقدمه هذه الدول الى باكستان حوالي 2.4 بليون دولار، وفور الاعلان عن هذه المعونات سجلت الروبية الباكستانية تحسناً ملحوظاً في مقابل الدولار الاميركي. ويسود الاعتقاد بأن منطقة غرب آسيا اصبحت مكشوفة امام الطموحات الهندية لا سيما ان القدرات النووية والعسكرية الهندية لم يعد لها اي تفسير سوى استهداف باكستان وربما في مرحلة لاحقة منطقة الشرق الاوسط، فالمناطق الهندية التي احتلتها الصين في حربها مع الهند في العام 1962، لم تعد تسميها الهند مناطق محتلة او خط الهدنة، وذلك منذ العام 1992، اذ بدأت وسائل الاعلام الهندية تسميها خط السيطرة الفعلية. ويتساءل كثيرون اذا كانت باكستان هدف الترسانة العسكرية الهندية فلماذا صواريخ "أغني" النار التي يبلغ مداها 2500 كلم؟ ويرى العسكريون الباكستانيون الذين تحدثت اليهم "الوسط" ان الطموحات الهندية تتجاوز باكستان لتصل الى منطقة الشرق الاوسط، خصوصاً بعدما استطاعت الهند الهيمنة على كل دول جنوب آسيا، من بنغلاديش والمالديف وحتى البوتان ونيبال. وتترك تصريحات رئيس الوزراء الهندي أتال بيهاري فاجباي المحللين في حيرة، ففي الوقت الذي يدعو الى الحوار مع باكستان يتبعها بتأكيدات ان كشمير جزء لا يتجزأ من الاراضي الهندية، في الوقت الذي تطلق القيادة الهندية التهديدات متزامنة مع المناوشات شبه اليومية بين حرسي الحدود الباكستانيوالهندي في كشمير، ورفض الهند اي وساطة اميركية وحتى رفض تطبيق قرار الاممالمتحدة 47 الصادر في العام 1948 الذي ينص على اجراء استفتاء عام يحدد رغبة الكشميريين في الانضمام الى باكستان او الهند. وكانت الهند رفضت اخيراً استقبال مساعد الامين العام للامم المتحدة ألفارو دي سوتو على خلفية رفض اي وساطة دولية بينها وبين باكستان، مفضّلة الحوار الثنائي الذي فشل طوال العقود الخمسة الماضية في احراز اي تقدم على مسار الحلّ الكشميري