إطلاق النسخة التجريبية من "سارة" المرشدة الذكية للسياحة السعودية    الأهلي يهزم الرائد بثنائية    خيسوس: الهلال يثبت دائمًا أنه قوي جدًا.. ولاعب الاتفاق كان يستحق الطرد    ممثل رئيس إندونيسيا يصل الرياض    ضبط إثيوبيين في ظهران الجنوب لتهريبهما (51) كجم حشيش    انطلاق أعمال ملتقى الترجمة الدولي 2024 في الرياض    زلزال بقوة 6.2 درجات يضرب جنوبي تشيلي    الأخضر يغادر إلى أستراليا السبت استعدادا لتصفيات مونديال 2026    ترقية بدر آل سالم إلى المرتبة الثامنة بأمانة جازان    أربع ملايين زائر ل «موسم الرياض» في أقل من شهر    جمعية الدعوة في العالية تنفذ برنامج العمرة    «سدايا» تفتح باب التسجيل في معسكر هندسة البيانات    الأسهم الاسيوية تتراجع مع تحول التركيز إلى التحفيز الصيني    انطلاق «ملتقى القلب» في الرياض.. والصحة: جودة خدمات المرضى عالية    تقرير أممي يفضح إسرائيل: ما يحدث في غزة حرب إبادة    خطيب المسجد النبوي: الغيبة ذكُر أخاك بما يَشِينه وتَعِيبه بما فيه    فرع هيئة الهلال الأحمر بعسير في زيارة ل"بر أبها"    نيمار: 3 أخبار كاذبة شاهدتها عني    أمانة الطائف تجهز أكثر من 200 حديقة عامة لاستقبال الزوار في الإجازة    رفع الإيقاف عن 50 مليون متر مربع من أراضي شمال الرياض ومشروع تطوير المربع الجديد    بطلة عام 2023 تودّع نهائيات رابطة محترفات التنس.. وقمة مرتقبة تجمع سابالينكا بكوكو جوف    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    خطيب المسجد الحرام: من صفات أولي الألباب الحميدة صلة الأرحام والإحسان إليهم    في أول قرار لترمب.. المرأة الحديدية تقود موظفي البيت الأبيض    دراسة صينية: علاقة بين الارتجاع المريئي وضغط الدم    5 طرق للتخلص من النعاس    حسم «الصراعات» وعقد «الصفقات»    «مهاجمون حُراس»    محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    ما سطر في صفحات الكتمان    لصوص الثواني !    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    «التعليم»: تسليم إشعارات إكمال الطلاب الراسبين بالمواد الدراسية قبل إجازة الخريف    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    لحظات ماتعة    حديقة ثلجية    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    جودة خدمات ورفاهية    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    الأزرق في حضن نيمار    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    التعاطي مع الواقع    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صدمة حضارية وخلفيات سياسية ودعوة الى التصالح مع التاريخ . مثقفون مصريون يناقشون بونابرت بعد مئتي عام على مجيئه الى الشرق الحملة الفرنسية على مصر : بداية استعمار أم فاتحة نهضة جديدة ؟
نشر في الحياة يوم 29 - 06 - 1998

لم يتوقف الجدل حول التظاهرات الثقافيّة التي شهدتها مصر وفرنسا في الذكرى المئويّة الثانية لحملة نابليون على مصر. فقد اعتبر بعض المنتقدين أن توقيت الاحتفال خاطئ، لأنه يقترن بالغزو الفرنسي لمصر. فيما دافع عدد من المثقّفين عن الوجه الحضاري ل "الحملة الفرنسية"، معتبرين أن الجانب الاستعماري انقلب على نابليون، وصار جزءاً من التاريخ. كما حور المسؤولون المصريون مجرى هذه الاحتفالات التي سرق النقاش شيئاً من بريقها، لتتركّز حول مرور قرنين على العلاقات المصرية - الفرنسية.
وهذه الضجّة سلّطت الضوء على نقاش ثقافي لم يحسم حول "الحملة الفرنسيّة"، دعت "الوسط" عدداً من المفكّرين والمؤرخين والمبدعين إلى مواصلته فوق صفحاتها، انطلاقاً من السؤال التالي: هل كانت الحملة الفرنسية على مصر فاتحة نهضة في الشرق أم بداية استعمار؟
يونان لبيب رزق كان أحد المؤرخين الذين شاركوا قبل عقد في ندوة علميّة حول "تحقيب تاريخ مصر الحديث"، وأجمعوا حينها على اعتبار الحملة الفرنسية البداية الرسميّة لتاريخ مصر الحديث. أما طارق البشري فيركّز على "الغزو الاستعماري"، معتبراً أن الخلاف ممكن حول الحاضر أو حول تصوّر المستقبل، لكن اعادة كتابة التاريخ غير جائزة. ويتوقّف فؤاد زكريا عند "الصدمة الحضارية التي طرأت على شعوب المنطقة العربية، وكانت كفيلة بإحداث يقظة فكرية وسياسية هائلة، من جرّاء قيم التنوير السياسي والفكري التي أتى بها الفرنسيون". فيما يأسف محمد سيد أحمد للمجرى الذي أخذه النقاش: "خسارة أن نسيء اليوم إلى علاقاتنا مع فرنسا، بسبب غزو مرّ عليه قرنان!".
ويلاحظ شاهين أن حملة بونابرت "جاءت تحارب الانسان المصري، فاذا بها تقع في غرامه". فيما تدعو هدى وصفي إلى ضرورة طيّ الصفحة، باعتبار أن "الحملة الفرنسية جزء من تاريخ مصر وفرنسا معاً، وهذه الحملة فشلت وأكّدت الشعور الوطني المصري"... ويعتبر لطفي الخولي أن الاحتلال الفرنسي "فجر ظاهرة المقاومة الشعبية التي مهدت فيما بعد لحركات التحرير الشعبية في فيتنام والجزائر وغيرهما". فيما يلي نصّ المساهمات التي ننشرها عشيّة الذكرى المئويّة الثانية لحملة نابليون على مصر في تموز يوليو 1798:
يونان لبيب رزق: التاريخ لا يعترف ب "لو"
يصعب فعلاً تحديد وجه واحد للحقيقة، وحسم مسألة طبيعة حملة نابليون على الشرق. ففي قضايا التاريخ نحن نحرص على أخذ كلّ التناقضات بعين الاعتبار، وعلى تسجيل كل الجوانب والأبعاد والاحتمالات. ليس من شك في أن الحملة الفرنسية على مصر كانت فعلاً إستعمارية بكل مقاييس العصر. فهي تدخل في إطار صراع المصالح بين انكلترا وفرنسا في الشرق، هذا الصراع الذي لم يخمد بعد حرب السنوات السبع 1756، والذي جاء صلح باريس 1763 ليضع له حدّاً نهائيّاً. كما ان الحملة الفرنسية على مصر، من ناحية أخرى، صورة من صور الصراع بين أكبر برجوازيتين عرفهما غرب أوروبا في ذلك الحين: البورجوازية الانكليزية والبورجوازية الفرنسية.
والمعلوم أن الكتابات التاريخية تصف الثورة الفرنسية بأنها ثورة البورجوازية، وأن سبباً من أهم أسبابها، كان فشل النظام الملكي في توفير الأسواق لها، بعد هزيمة حرب السنوات السبع. فضلاً عن كل ذلك فإن التخطيط الفرنسي للحملة كانت له أهداف استعمارية بعيدة: فتح أسواق البحر المتوسط، الوصول إلى المضائق في البحر الاحمر والخليج. التحالف مع بعض امراء الهند الذين كانوا في ثورة وقتئذ ضد الاستعمار الانكليزي.
يمكن القول إذاً إن الحملة استعمارية مئة في المئة. أما الدور النهضوي لتلك الحملة، فمسألة يختلف حولها المؤرخون. فبعضهم يرى أنه لو لم تأتِ الحملة الفرنسية لكان الشرق اتخذ مساراً طبيعياً في التطور، يقوده في كلّ الأحوال إلى ما وصل إليه من دون أي تأثير خارجي. غير أننا لسوء الحظ في التاريخ لا نعترف ب "لو". ولا يمكن أن ننكر أنها لعبت دوراً أساسيّاً في اضعاف النظام القديم العثماني المملوكي، ممهّدةً لقيام نظام الدولة الحديثة على يد محمد علي الذي أخذ بالنسق الأوروبي وبالحضارة الغربية. وبالتالي فإن الحملة الفرنسية فتحت أبواب الاتصال بين مصر والعالم العربي وبين أوروبا والحضارة الحديثة بكل المردودات الايجابية والسلبية.
طارق البشري: النهضة غصباً عنهم
إذا نظرنا إلى العالم الإسلامي بشكل كامل، نجد أن عملية تطويق عسكري له جرت على مدى القرنين السابع عشر والثامن عشر ميلاديّاً. حدث ذلك بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح وسيطرة الانكليز والهولنديين على الجزء الشرقي من العالم الاسلامي، وهو الهند وامتدادها في أندونيسيا سيطر الانكليز على الهند وتوسعوا شرقاً. ونشأت الامبراطورية الروسية التي امتدت شمالاً إلى سيبيريا وهبطت جنوباً نحو العالم الاسلامي. وكانت معاركها مع الاجزاء الاسلامية من وسط آسيا، حتى سيطرت عليها بالفعل، في مواجهة الامبراطورية المغولية والفارسية والدولة العثمانية. كما استولت على جزيرة القرم والجزء الشمالي من البحر الأسود.
وبعد التسوير والتطويق حتى مطلع القرن التاسع عشر، جاءت الحملة الفرنسية لتخترق قلب العالم الاسلامي كالسهم. وأقصد بقلب العالم الاسلامي المنطقة الممتدة من تركيا إلى بلاد الشام إلى مصر إلى الخليج. وبعدها بثلاثين سنة استولى الفرنسيون على الجزائر. هكذا نجد أن المشروع الاستعماري سابق وقديم للسيطرة على العالم الاسلامي، بدأ من القرن السابع عشر والثامن عشر، وانتصر في القرن التاسع عشر. والحملة الفرنسية، بما لا يرقى إليه الشك، جزء من هذا المخطط.
لم يأتِ الفرنسيون إلى مصر ليحدثوها أو لينهضوا بها، ولم يكونوا رُسل العناية الإلهية. جاؤوا للسيطرة على مصر والشام، وكان نابليون بونابرت يحلم بتأسيس امبراطورية في الشرق، قاعدتها مصر والشام. يتضح هذا من خطته العسكرية، فالحملة بدأت بمصر ثم اتجهت إلى الشام. دخل بونابرت مصر، إذاً، في إطار تنافس استعماري مع الاطماع الانكليزية، وتصدى له الاسطول الانكليزي في معركة أبو قير البحرية بقيادة وولسن. ولم يكن هذا التزاحم للنهوض بمصر وتحديثها، لتمدين أهل الشرق وتحضيرهم!
أستغرب الطرح المتداول اليوم في مصر، في ذكرى مرور قرنين على الحملة الفرنسية، من ان هذه الأخيرة كانت فاتحة نهضة. لقد كانت جزءاً من خطة استعمارية تستهدف الشرق، بل كانت احدى أهمّ حلقاتها. وإذا قلنا إن الحملة الفرنسية على مصر كانت للنهوض بها، فماذا نقول عن الاستعمار الفرنسي للجزائر؟ لكن يبدو أن الملف الاستعماري لا ينبغي فتحه الآن. فالموضوع له استطرادات سياسية حاضرة، وقد تكون إثارته الآن لدق اسفين بين مصر وفرنسا، لا أدري.
الحملة الفرنسية على مصر غزو استعماري بهدف السيطرة على هذه البلاد، والتاريخ لا نستطيع تغييره. قد نختلف حول الحاضر أو حول رؤيتنا للمستقبل، لكننا لا نستطيع اعادة كتابة التاريخ. فما تم فيه بالوصف الذي جرى به تم وانتهى.
أما النهضة والتطور فليس لهما علاقة بالحملة الفرنسية مباشرةً، بل ربّما كان الدافع إليهما هو الاحتكاك بالغرب عموماً. فالصلح الذي تم سنة 1774م في عهد كاترين الثانية روسيا وعبد الحميد الأول الدولة العثمانية، كان صلح هزيمة للعثمانيين. ودق على أثره جرس الخطر، دافعاً الدولة إلى البحث في سبل النهوض بعد احساسها بالخطر القادم من الشمال. فالخطر يوقظ ويدفع إلى الوعي بضرورة الحفاظ على النفس. وقد تكون هنا بداية النهضة: الاستعداد للمواجهة على كل المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، كان حافزاً على النهوض على الرغم من الفرنسيين، وليس بمساعدتهم! فقد قامت النهضة غصباً عنهم.
فؤاد زكريا : الوجه الحضاري فقط
الحملة الفرنسية هي في الواقع فاتحة نهضة وبداية استعمار في الآن نفسه. وأتصور أن هذه المسألة ليست تقديرية، فقد أصبحت الآن جزءاً من التاريخ بدليل أن كل دراسة للنهضة العربية تبدأ من أوائل القرن التاسع عشر، ويكاد يتّفق الجميع على ذلك. ما يسمى بالنهضة العربية الحديثة بدأت زمنياً على الأقل مع الحملة الفرنسية، وهذا أمر له ما يبرره. الصدمة الحضارية التي طرأت على شعوب المنطقة العربية من خلال هذه الحملة، كانت كفيلة بإحداث يقظة فكرية وسياسية هائلة. فالفرق واضح، على المستوى الحضاري، بين ما كانت الشعوب العربية تحياه في ظل الحكم العثماني المظلم أو عصر المماليك المستبد، وبين ما أتى به الفرنسيون من قيم تمثل قمة التنوير السياسي والفكري في أوروبا. هذا فضلاً عن المبادئ الجديدة التي نادت بها الثورة الفرنسية، وهي أكبر ثورة شعبية عرفها العالم حتى ذلك الحين.
أما الكلام على "بداية استعمار"، فأعتقد أنه غير دقيق، فالاستعمار كان موجوداً ومستقراً في الشرق قبل الحملة الفرنسية، ولم تكن تلك الحملة سوى حلقة في سلسلة التنافس الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا. أرادت بريطانيا أن تجني ثمار الثورة الصناعية التي حققتها في أواسط القرن الثامن عشر. أما فرنسا فكانت تسعى، بعد ثورتها الناجحة، إلى الدخول في حلبة المنافسة مع بريطانيا، باعتبارها قوة أوروبية ناهضة وناشئة.
أما الحوار الذي دار في مصر، فانطوى للأسف على عدد من المغالطات المتعمّدة. لا يوجد مثقف مصري واحد يدعو إلى الاحتفال بالحملة الفرنسية، من حيث هي غزو استعماري، هذا ما أؤكّده بشكل قاطع، هناك من يدعو إلى الاحتفال بوجهها الحضاري فقط. ولكن الذين شاركوا في النقاش حاولوا تشويه الحقيقة وتحريفها، فبدا الأمر وكأن مصر تحتفل بذكرى دخول جيوش نابليون إلى مصر. وبعد أن عبّرت عن رأيي من خلال رسالة موجّهة إلى أحمد عبد المعطي حجازي نشرت في "الاهرام"، ظهرت مقالات عدّة، تفترض ضمناً أنني أدعو إلى الاحتفال بالحملة العسكرية على مصر. ويؤسفني أن بعضاًِ من المثقفين والأكاديميين المرموقين عادوا إلى هذه المغالطة، بعد أن أعلنت رأيي بصراحة ووضوح كاملين.
هدى وصفي : معارك مر عليها الزمن
لم يخطر على بال أي من المشتركين في اللجنة المصرية للاحتفال بالعلاقات الثقافية مع فرنسا، أن هذه الاحتفالات ستمجّد الغزو الفرنسي. وإمعاناً في تفادي هذا المطب، تغيّر العنوان العام للتظاهرة من "200 سنة من العلاقات" الطرح الفرنسي، إلى: "مصر - فرنسا آفاق مشتركة". كما ارتأت اللجنة المصرية التي يرأسها كامل زهيري، رفعاً لكلّ التباس، أن تنتهي الاحتفالات في حزيران يونيو 1998، أي قبل ذكرى الحملة تموز/ يوليو 1798. تم الاحتفال بما يجمع البلدين من قواسم ثقافيّة وحضاريّة. وفي هذا الاطار سافر فنانون مصريون إلى فرنسا، وتم افتتاح الجناح المصري في متحف اللوفر، وجاء بيتر بروك إلى مصر...
وإذا أخذنا المسرح الذي هو مجال تخصّصي، نلاحظ أن "مسرح العلبة الايطالي" فن وافد عرفناه عن طريق الحملة الفرنسية. يذكر الجبرتي في "عجائب الآثار" أن الفرنسيين كانوا يجتمعون للفرجة على ألاعيب مسرحيات لا يسمح بالدخول إليها الا لمن يحمل تذكرة مدفوعة. وقال إن سكان القاهرة شاهدوا هذه الألاعيب. المسرح إذاً من الآثار الايجابية للحملة على مصر، وهذه الآثار الايجابية شيئ متعارف عليه تاريخياً، فالعرب اوصلوا إلى الغرب علوم اليونان التي لولاها ما تقدم في الحضارة.
يرى عدد من المؤرّخين أن حملة نابليون هي البداية العمليّة لتاريخ مصر الحديث. ونحن نحتفل بهذا التاريخ. الاستعمار كان سمة العصر في القرن التاسع عشر. وبونابرت لم تحرّكه مشاغل حضاريّة طبعاً، إنّما مصالح استعمارية وسعي إلى الهيمنة. كانت أوروبا مشغولة بتأسيس مستعمرات، والشعوب الأخرى مستكينة أو تقاوم كما تستطيع. وقد أخضعت قوى الاستعمار المقاومة المصرية ضد الاحتلال الانكليزي سنة 1882. وقد استوحى محمد علي باشا نفسه عقليّة العصر الاستعماريّة، فقام بالسيطرة على شرق افريقيا وسواحل البحر الاحمر، ووصل إلى البلقان وهدد اوروبا. وعندما أنشأ مطبعة بولاق كانت لطبع الاوامر العسكرية.
لكن الحملة العسكرية، حملت معها أفراداً قدّموا خدمات جليلة لمصر، استمرت بعد ذلك مثلاًفي علاقات جومار برفاعة الطهطاوي. وبالتالي فإن للحملة وجهاها: الحضاري والاستعماري. كما انّها أحدثت ولعاً وانبهاراً بمصر في الغرب، ونبهت إلى موقعنا من الحضارة الانسانيّة. كما أدخلت من دون قصد عوامل تقدّم مهمة، إذ قدم لنا الفرنسيون انتاجاً معرفياً حداثياً. والاحتفال بهذه المكتسبات، هو نوع من جردة الحساب التي تمهّد لطي الصفحة. فالمعرفة يتم انتاجها حالياً خارجنا، ولا نفعل سوى استيرادها واستهلاكها من دون مشاركة. وعلينا أن نبدأ بانتاج المعرفة الخاصة بنا. ندخل القرن الحادي والعشرين من دون استعداد، ونحن منقسمون إلى فريقين واحدهما يخوِّن الآخر ويكفره.
لا بد من مواجهة صادقة مع النفس. أنا لا أطالب بجلد الذات، ولكن لا بد من طي الصفحة، واعادة صياغة التعليم في مدارسنا بشكل يتمشى مع الابعاد المعرفية للحظة الراهنة. الحملة الفرنسية جزء من تاريخ مصر وفرنسا معاً، وهذه الحملة فشلت في مصر وخرجت تجرجر أذيال الهزيمة، وقتل فيها ثلاثة جنرالات كبار، وأفادت في تأكيد الشعور الوطني المصري، وأثبتت أن بوسعنا الاختيار. اختار الشعب المصري محمد علي والياً، ثم اخترنا التعرف على الحضارة الحديثة من خلال البعثات إلى فرنسا.
واليوم فإن فرنسا تعتز بتاريخها المشترك مع مصر، وهي البلد الوحيد التي تعد باباً لإحداث قليل من التوازن في علاقاتنا مع الولايات المتحدة الاميركية. أما حملة بونابرت فينظر إليها في فرنسا كأسطورة يجب هدمها. فحملته لم تكن سوى خطوة في اطار حلمه الامبراطوري الذي تحول إلى كارثة. لماذا إذاً نكون أسرى المعارك التي انتهت، ومرّ عليها الزمن؟
يوسف شاهين:
دور تنويري بالمصادفة
نوايا بونابرت استعمارية، وحسب خطته كان ينبغي للحملة على مصر أن تكون بداية استعمار للشرق. ولم يكن يضع في حسابه تمدين مصر، أو نشر الحضارة الحديثة فيها. صحيح أنّه اصطحب معه علماء ومؤرخين وكتاباً، ولكن هذه "فتاكة سياسية" من نابليون لإضفاء طابع ما على غزوه للشرق، أو رسالة إلى الرأي العام في بلاده، يبرر فيها غزوه الطارئ للشرق. ومع ذلك كيف ننكر أن الحملة الفرنسية على مصر كانت فاتحة حضارة؟ وتكفي الدراسات التي قام بها علماء الحملة واكتشافاتهم، وإن كان هذا الدور الحضاري والتنويري قد جاء من باب المصادفة وحدها. وأنا أعتبر الانسان المصري نفسه، من بين اكتشافات الحملة...
جاءت الحملة لمحاربة هذا الانسان فاكتشفته، وهذه هي الرؤية التي بنيت عليها فيلم "وداعاً بونابرت". جاءت الحملة لتحارب الانسان المصري، فاذا بها تقع في غرامه. ومنذ ذلك الوقت - كما كان يردّد الدكتور مراد غالب، سفير مصر الاسبق في موسكو - نشأت بين مصر وفرنسا شراكة ثقافية. في الماضي كانت العلاقة قائمة على عطاء من الجانب الفرنسي فقط. أما اليوم فأصبحنا شركاء بالمعنى الكامل، وهذه النقطة فهمها الفرنسيون. فالحضارة ليست لها حدود أو ملة أو دين أو جنسية، بل انتقلت من قدماء المصريين إلى الفرس إلى الاغريق إلى الرومان إلى العرب الذين أوصلوها إلى أوروبا. وليس بوسع أمّة واحدة أن تدّعي أنّها صنعت الحضارة الانسانية. فالحضارة تبادل، والمهمّ اليوم أن تكون بين مصر وفرنسا علاقة الند بالند. نحن شركاء بالمعنى الكامل للكلمة، وهذا لمسته من خلال تجربتي في الانتاج السينمائي المشترك. لم يفرض عليّ أي طرف أو مؤسسة أبسط شرط مقابل التعاون. ربطتني بالآخرين علاقة ثقة، وكان المطلوب أن أحقّق أعمالاً جيّدة. هذه الثقة مهمة جداً، لأنني لا أقبل أي مشاركة الا من منطلق علاقة الند بالند. وأنا أقرر تبعاً لموقفي السياسي والاقتصادي. ومن سوء حظ الفرنسيين أن لساني طويل، وأقول رأيي بصراحة!
الحملة الفرنسية إذاً قامت على نيّة استعماريّة، واشتملت في الوقت نفسه على نوايا وتطلّعات وأهداف مغايرة حملها أفراد. فبونابرت جاء محتلاً، وعندما شعر بضرورة العودة إلى باريس لأسباب تتعلق بمجده الشخصي ترك جيشه وعاد. أما العلماء والمفكرون، فمكثوا في مصر وحققوا انجازات هائلة. لا يحق لنا أن نكون تبسيطيين، وننظر إلى الحملة الفرنسيّة على مصر من خلال بعد واحد. العاملان السلبي والايجابي يتعايشان في حالات معقّدة كهذه.
محمد سيد أحمد: قضيّة ملتبسة
المسألة ملتبسة. من المؤكّد أن نابليون بونابرت جاء إلى مصر بغرض استعماري، وتحديداً ليناهض سيطرة بريطانيا على البحار وصولاً إلى الهند. أما سلوك بونابرت في مصر فلم يكن متماشياً مع مبادئ الثورة الفرنسية التي كانت حديثة زمنياً، فدخوله بالخيل إلى الأزهر، ومجمل تصرفاته مع الوطنيين المصريين، كانت ذات طابع استعلائي واستعماري. وهناك، في المقابل، حقيقة لا بدّ من الاعتراف بها، هي أن بونابرت ومن جاء معه من العلماء، ساهموا في احياء ذاكرة مصر. أفكّر هنا في الدور الذي لعبه شامبليون في اكتشاف الأبجدية الفرعونية، والذي كان له أكبر الأثر في إعادة الاهتمام بالتاريخ الفرعوني. كما ساهم نابليون بونابرت في ارساء أسس الحركة النهضوية التي مهّدت لولادة مصر الحديثة.
هكذا نجد أن القضيّة ملتبسة. فنوايا نابليون الاستعمارية لا شك فيها، ولكن للحملة جوانب أخرى لا يمكن ردها فقط إلى المطامع الاستعمارية البحتة. وفي تقديري أن الفرنسيين أخطأوا في اختيار التاريخ، لأنه يتوافق مع ذكرى الاحتلال. الاحتفالات بمرور قرنين على بدء العلاقات مع مصر، كان لا بدّ من تأجيل عام واحد، ولا أقول بتأجيلها إلى العام 2021 قرنان على اكتشاف شامبليون لرموز اللغة الفرعونية على حجر رشيد! هكذا كنّا أسقطنا الالتباس المحيط الآن بهذه الاحتفالات.
خسارة أن نسيء اليوم إلى علاقاتنا مع فرنسا، بسبب غزو مرّ عليه قرنان! فعلاقتنا بفرنسا وثيقة للغاية حالياً، وهي تلعب في عالم القطب الواحد دوراً مهماً ومحورياً ومفيداً لنا. وكان يمكن تحاشي هذا بسهولة. فهل تكون حملة نابليون سبباً في ابتعادنا عن الغرب في الظرف الصعب الذي نعيش، وفرنسا أقل دولة غربية أساءت إلى مصالحنا؟
لطفي الخولي: حرب التحرير الشعبيّة
لا توجد ظاهرة في التاريخ لها وجه واحد. ومختلف المدارس الفكرية في العالم لم تعد تستخدم "أو" بل "و"، بعد تراكم المعارف والتجارب... الحملة الفرنسية على مصر كانت مشروعاً استعمارياً، وفي الوقت نفسه كانت نوعاً من التفجير الحضاري. وبتعبير أكثر دقة، كانت نوعاً من الصدمة الحضارية التي تكرّرت في تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب. حدثت هنا بين أهم ثورة برجوازية في تاريخ العالم الثورة الفرنسية، وبين أهم بلد في الشرق في ذلك الوقت، أي مصر، بحكم ميراثها الحضاري وموقعها الجغرافي، ودورها كشريان لحركة التجارة العالمية.
كان نابليون بونابرت العسكري يمثّل واقعاً استعمارياً واضحاً. لكنّ نابليون كان أيضاً ابن الثورة الفرنسية، ولذلك أتى معه بذلك الحشد من العلماء والمفكرين الذي لم يحدث أن جاءت به حملة استعمارية قبله أو بعده. ومن خلال هذه الصدمة الحضاريّة أمكن فك مغاليق اللغة الهيروغليفية، والتعرف إلى حركة الأفكار التي جاءت بها الثورة الفرنسية، والاستفادة من المعارف التي لا تزال آثارها موجودة حتى الآن.
كل هذه الانجازات الحضارية والانسانية والعلمية لا تنسينا واقع الاحتلال. فقد فجّر هذا الاحتلال، للمرة الاولى، ما يمكن تسميته ب "حرب التحرير الشعبية" في العالم. فبعد أن تهاوت المقاومة التي قام بها المماليك مراد وابراهيم المستبدين حفاظاً على سلطانهم، أكمل الشعب المصري مقاومته. نشير مثلاً إلى معركة أبنود في الصعيد، حيث واصل الأهالي القتال من بيت إلى بيت، ومن حارة إلى حارة. ونتيجة لتفوق الأسلحة الفرنسية، هدمت المنازل ولم يبقَ الا جامع صغير تركزت فيه المعركة الشرسة إلى ان هدم في النهاية على رؤوس المقاومين. هذا النوع من المقاومة الشعبية أقرب إلى ما شهدته ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية. الاحتلال الفرنسي فجر ظاهرة المقاومة الشعبية التي مهدت فيما بعد لحركات التحرير الشعبية في فيتنام والجزائر وغيرهما.
واجتذبت الحركة الوطنية وقتها، ما عرف بفرسان المغرب والسودان وسوريا... وغيرهم ممن شاركوا الشعب المصري في مقاومة الفرنسيين. ولعلّها كانت المرة الأولى التي يظهر فيها البعد العربي سواء على المستوى السياسي أو النضالي، في تاريخنا الحديث لذا أعتبر أنه من قصر النظر أن نتعامل مع الحدث من زاوية واحدة، وأن نكتفي بوجهه السلبي من دون الوجوه الأخرى.
لا بدّ أن نتعامل مع الحدث بمختلف وجوهه وأبعاده، آخذين في الاعتبار أنه لا يمكن أن نغير الماضي. كل ما يمكننا القيام به، هو القبول به والتصالح معه، وعيننا على المستقبل: كيف نحوّل التاريخ إلى مصدر غنى، وكيف نطوّر علاقاتنا وننمّيها مع فرنسا وأوروبا على أبواب قرن جديد؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.