قبل ثلاثين سنة، أي في الذكرى العشرين لقيام الدولة العبرية في فلسطين أوفدتني إحدى وكالات الأنباء والتحقيقات الصحافية الى اسرائيل لاجراء عدد من المقابلات مع زعمائها. غولدا مائير أسرّت إلي، خلال حديثي معها، بأنها لا تؤمن باليهودية وقالت: "انني ملحدة". واستطردت لتقول ان معظم زملائها من كبار شخصيات حزب العمل ملحدون أيضاً. ولما كانت غولدا مائير يهودية من أصل روسي فقد وجهت اليها سؤالاً بديهياً وقلت: "إذاً لماذا تقولون ان هذه هي أرض الميعاد؟" أجابت: "يا سيد هاوي، يبدو أنك لا تفهم حقيقة الأمر. ان الصهيونية ليست حركة دينية وانما حركة سياسية. وحين تكون يهودياً فإن هذا لا يعني أنك تؤمن بأي شيء أو قوة خارقة، وانما أنت جزء من مؤسسة أو حركة تربطها أواصر قوية خاصة استثنائية". هل تقصدين أنها مثل الحركة الماسونية؟ - ليس تماماً، ولكن الماسونية أكثر الحركات شبهاً باليهودية. وبعد عشر سنوات، أي في عام 1978 وهو العام الذي شهد اتفاق كامب ديفيد، وصادف الذكرى الثلاثين لتأسيس الدولة العبرية، كنت هدفاً للاعتداء في واشنطن بسبب غولدا مائير. ففي ذلك العام أسقط الطيران الحربي الاسرائيلي طائرة ركاب ليبية بينما كانت تقترب من مطار القاهرة، وهي تحلق فوق سيناءالمحتلة، مما أدى الى مقتل قائدها الفرنسي وعدد من ركاب الطائرة التي ضلّت سبيلها وانحرفت عن مسار رحلتها فدخلت المجال الجوي لسيناء بسبب عاصفة رملية. في ذلك الوقت كانت غولدا مائير تزور الولاياتالمتحدة لجمع التبرعات وحشد التأييد لمساعيها الرامية الى اسقاط حكومة مناحيم بيغن. وخلال تلك الزيارة تحدثت مائير في نادي الصحافة الوطني في واشنطن.وسألها صحافي عن حادث اسقاط طائرة الركاب الليبية فردت مائير بقولها انه ليس هناك أي سبب يدعوها أو يدعو اسرائيل الى الاعتذار عن اسقاط الطائرة لأن قائد الطائرة هو الذي ارتكب الخطأ ولم يتصل بسلاح الجو الاسرائيلي. لكن مائير تهربت من الرد على سؤال مفاده أن قائد الطائرة لم يكن يعرف أصلاً ان طائرته خرجت عن خط رحلتها وعبرت قناة السويس الى ضفة سيناء من القناة، مما يعني أنه لم يكن هناك أي داع اطلاقاً كي يتصل بالطيران الحربي الاسرائيلي حتى ولو كان يعرف موجة الذبذبة اللاسلكية للطيران الاسرائيلي، وهو ما لم يكن يعرفه أصلاً. وفي وقت لاحق من تلك السنة توجهت برفقة زوجتي لحضور حفل رأس السنة الجديدة في منزل جاري محرر الشؤون الزراعية في صحيفة "واشنطن بوست". وعلى عادة مثل هذه الحفلات التي يحضرها عدد كبير من الصحافيين تطرقنا الى مواضيع شتى ومنها قضية الطائرة الليبية وتصريحات غولدا مائير عن الحادث. وقلت لاحدى زملائي: "ان غولدا مائير ليست سوى نازية عريقة مثل غيرها". وفجأة رأيت ضيفاً آخر يندفع نحوي وقد رفع قبضته وسددها باتجاهي وهو ويصيح: "كيف يجرؤ شخص مثلي على وصف غولدا مائير أو أي زعيم اسرائيلي آخر بأنه نازي؟" وقبل أن يوجه اللكمة الى وجهي أمسك الحضور به وأبعدوه عني. وأذكر أنني قلت له آنذاك: "انني كنت قائد طائرة حربية، لفترة طويلة، لكنني لا أذكر أبداً أننا أطلقنا النار على أي طائرة ركاب مدنية... وان من حقي أن أقرر من هو النازي في مثل هذه الحالات". وادركت يومها انني كنت مع زوجتي الوحيدين من غير اليهود بين المدعوين وأن السبب الوحيد في توجيه الدعوة إلينا هو أنني كنت اعتزم السفر الى الشرق الأوسط لانتاج فيلم وثائقي مدته تسعون دقيقة عن الصراع العربي - الاسرائيلي. وفي العام 1980 حصل ذلك الفيلم الوثائقي الذي تناول الصراع من خلال أعين الأطفال العرب والاسرائيليين على جائزة مهرجان هيوستون الدولي لأفضل فيلم وثائقي لعام 1979. شمعون بيريز عندما التقيته العام 1968، أي في السنة التالية لحرب حزيران يونيو 1967 قال لي: "ان كل ما على اسرائيل أن تفعله الآن هو أن تتمسك بمواقفها وأن ترفض الحديث الى الفلسطينيين... وأقول لك أننا لن نتفاوض معهم أبداً!". أب الارهاب مناحيم بيغن. حين زرت القدس العام 1968 دعاني سفير اسرائيلي سابق في احدى الدول الافريقية كنت قد تعرفت عليه في افريقيا، الى العشاء. وحين قلت له انني أعتزم السفر الى تل أبيب في اليوم التالي لاجراء مقابلة مع مناحيم بيغن الذي كان آنذاك زعيم المعارضة في الكنيست، غضب وقال: "يا راسل إياك أن تذهب. اياك أن تتيح له الفرصة للتحدث الى العالم الخارجي لأنه ليس سوى متزلف بولندي". لكنني اكتشفت أن بيغن كان حريصاً جداً على تبديد سمعته كمتطرف يمينيّ، كما أنه تعمّد التزام الحيطة والحذر والديبلوماسية في اجاباته. وبعد حوالي عشرين دقيقة من الاجابات الحذرة، تعمدت استفزازه فقلت: كيف تشعر حين يصفك الآخرون بأنك أب الارهاب في الشرق الأوسط؟ ومن دون أي تردد أجابني: "في الشرق الأوسط؟ في العالم كله في الواقع!". وكان في تلك الاجابة ما يكفي لفتح الباب أمامي كي أوجه اليه ما شئت من الأسئلة عن مذبحة دير ياسين وعصابة "الارغون". وفي الدقائق الأخيرة من المقابلة فقد هدوءه وراح يهاجم الأممالمتحدةوالولاياتالمتحدة بل والحكومة الاسرائيلية وكثيرين آخرين. ديفيد بن غوريون،وهو اول رئيس وزراء في اسرائيل اجريت معه أفضل المقابلات في العام 1968 وكان قد تقاعد آنذاك في مزرعة قريبة من مدينة بئر السبع في صحراء النقب. ومع أنني كنت قد طلبت منه تخصيص نصف ساعة للقائنا فانني فوجئت حين دام اللقاء ثلاث ساعات كاملة. تحدث بن غوريون عن "وطني" قاصداً بذلك روسيا التي قال لي انه يشعر بالحنين إليها. كذلك أبدى مشاعر الارتياح والفخر لأن "اللغة التي كانت تسود اجتماعات مجلس الوزراء الاسرائيلي في عهدي كانت اللغة الروسية". وعندما تطرق بن غوريون الى الحديث عن النظام السوفياتي قال: "ان الشيء الوحيد الذي أبدعت بلادي أي الاتحاد السوفياتي في تحقيقه هو الانجاز العسكري. وأنا اؤكد لك أنه سيأتي اليوم الذي يطيح فيه العسكريون اولئك الأغبياء، ويتولون السلطة بدلاً منهم". وحين تطرقنا الى موضوع اليهود في أميركا قال بن غوريون: "انني أكره اليهود الأميركيين وأمقتهم". وسألته: "لماذا؟ انهم لا يتوقفون عن مساعدة اسرائيل بكل الطرق والوسائل؟". وأجاب: "هذا صحيح. لكنهم يفعلون ذلك لأنهم يشعرون بالذنب، وهو ما يجب عليهم أن يشعروا به. المشكلة هي أنهم على استعداد لفعل كل شيء وأي شيء لاسرائيل باستثناء القدوم إليها والعيش فيها". لكن أليس من الأفضل أن يقدموا لك كل تلك الملايين من التبرعات وأن يستخدموا نفوذهم في الكونغرس أيضاً لتأمين البلايين لكم؟ "قد يكون كلامك صحيحاً، لكنني سأظل أكره اليهود الأميركيين. فهم على درجة فاحشة من الثراء، لكنهم يعيشون في أميركا ومع ذلك يريدون أن يقولوا لنا كيف ينبغي أن ندير شؤون اسرائيل وكيف يجب أن نحكمها!" 0