العلاقة القديمة بين بريطانيا والعالم العربي وتشعباتها المعقدة بين أقاليم الليل والنهار، هي عماد أساطير الاستشراق والاستشراق المعكوس. والبريطانيون - والفرنسيون خصومهم التاريخيون - كانوا مصدر خيبات كثيرة لاتزال تؤرق الجفن العربي، وقد دفعوا الثمن مضاعفاً أحياناً، وإن ظل هذا"القصاص" لفظياً لا يبرح اللغة. ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين كان لابد من الوقوف عند هذه الفسحة المزروعة بالصور والشخوص والتخيلات... المشحونة ببغض الآخر، والخوف العصابي من المختلف المغاير. واذا كان هذا هو واقع الحال في الماضي القريب أو البعيد، كيف تبدو حالياً هذه الصلات المسكونة بالتوتر؟ للاجابة عن هذا التساؤل، دعا المجلس الثقافي البريطاني 60 كاتباً وناقداً وأكاديمياً عربياً وبريطانياً، إلى مؤتمر في القاهرة أقامه بالتعاون مع جامعتي القاهرة وعين شمس تحت عنوان "العرب وبريطانيا: التبدل والتبادل". وعلى رغم الشمولية التي يوحي بها العنوان، فإن المناسبة بدت مكرسة لمصر التي كانت صاحبة حصة الأسد من البحوث المقدمة. وفيما بدا الحيز الذي أُفرد لمصر سخياً للغاية، حتى أن اسمها ظهر في حوالي نصف البحوث، أوشكت دول عربية أخرى أن تغيب غياباً تاماً عن برنامج المؤتمر، أو تم تناول عينة من أدبها في استحياء واضح. واذا لم يتسع البرنامج لبحوث تعنى بعدد من الدول العربية على حدة، فالمؤتمر كان منبراً للنظر من جديد في مسائل يمثل بعضها صلب العلاقات الثقافية بين بريطانيا والعالم العربي ككل. والعلاقة الجوهرية بامتياز بين الطرفين تتمثل في الكتابة بلغة الآخر. فهل هناك ما هو أكثر التصاقاً بالآخر من استعارة صوته؟ لم يخض البريطانيون بعد تجربة التوحد بالعربي من خلال الكتابة بلغته، لكن بيتر كلارك الذي اشتغل منذ سنوات على نقل الأدب العربي إلى لغة شكسبير لاحظ ولادة "أدب عربي مكتوب بالانكليزية"، وتساءل إذا كانت القصص والروايات الانكليزية التي وقعها أدباء وأديبات عرب تمثل نمطاً مستقلاً له معالم مميزة تؤهله "للمقارنة مع الادب الافريقي أو الهندي بالانكليزية". بدا المترجم المعروف متفائلاً بامكان وضع باقة من الكتابات التي صاغها مبدعون عرب بمصاف أدبين لهما جذور ضاربة في الثقافة البريطانية ورموز مكرسة، فقد قدم بعض العرب، في السنوات القليلة الماضية خصوصاً، مساهمات لافتة للمكتبة البريطانية. أهداف سويد، الأديبة المصرية الأصل، التي حضرت المؤتمر وقرأت مقاطع من روايتها الجديدة، استقطبت قدراً جيداً من الاهتمام قبل سنوات حين أصدرت باكورتها الروائية "في عين الشمس" التي باركها قارئون انكليز من قماشة الشاعر المعروف أندرو موشن. وقد ذهب الى أن سويف تكاد تكون "جين اوستن المصرية" التي رسمت ببراعة تذكر بصاحبة "العقل والعاطفة" الشهيرة، حياة شخوصها العرب والبريطانيين. أما طوني حنانية، الفلسطيني- اللبناني، فقد لفتت روايته الاولى "مشوق للعودة الى الوطن"النظر بقوة عندما خرجت الى النور العام الماضي، وهي في طور التحول إلى فيلم سينمائي. والأديب الشاب الذي يعكف على كتابة روايته الثانية بالانكليزية، فيما يقوم باعداد مذكرات والده للطبع، قرأ على الحضور شذرات من هذه المذكرات التي تلقي الضوء على تجربة مختلفة لعلاقة العربي ببريطانيا، اذ جاء أبوه إلى هذه البلاد في الثلاثينات. لكن هل يستطيع الاديب أن يخرج من جلده، وكيف يوزع نفسه بين عالمين لكل منهما لغته وخصوصياته الثقافية؟ يُستشف من تجربة أهداف سويف أن العالمين ليسا بالضرورة على طرفي نقيض، وأن الفضاء الثالث حيث يلتقيان على غير مستوى هو واقع ممكن. وهذا التوليف حاصل عبر أدوات شتى، في طليعتها اللغة التي تُعشّقها بمفردات عربية. ونص أهداف سويف الانكليزي المطعم بكلمات عربية في "عين الشمس" و"عائشة" و"زينة الحياة"، كان موضع استفسار وتعليق في المؤتمر. فقد أشارت الباحثة اللبنانية جين مقدسي إلى أنها وقعت في لغة أهداف على اشارات و"لعب متعمد بالكلمات والمعاني"، أحست كقارئة عربية أنه موجه لها. وتساءل أحد الحضور اذا كانت اللغة "الهجينة" تقف عائقاً دون تواصل القارىء الانكليزي مع النصوص. أما الاديبة، فأكدت أن "ولاءها أولاً لشخوصها"، ولابد من تركهم ينطقون باللغة التي تليق بهم والا أصبحوا كائنات هشة مفتعلة لا تنتمي إلى مكان أو ثقافة. ومع ذلك فهي لا تستعمل المفردات العربية عندما تتوافر المرادفات الانكليزية، لكنها لا تتردد مثلاً "في استخدام "الطرحة" التي لامثيل لها في الثقافة البريطانية، وبالتالي تفتقر الانكليزية إلى كلمة تسمي هذا الشيء المصري بامتياز". وفي ذلك اغناء للانكليزية التي شرعت أبوابها دائماً أمام كلمات أجنبية صارت مع الزمن جزءاً من قاموسها الغني. كتابات العرب بالانكليزية هي، في أحد وجوهها، ترجمة تجربة لها سماتها العربية البارزة. والنشاط الأقرب إلىها هو ترجمة الشعر التي تعاني الصعوبات ذاتها التي تواجه الكتابة بلغة أجنبية، اذ تتربص بها اللغة وتحاصرها الثقافة الاصلية. وهي عمل ابداعي يتطلب قدراً كبيراً من الموهبة لصياغة نص شعري قادر على النفاذ إلى القارىء على الطرف الآخر من الهوة الثقافية، كما جاء في شهادة الشاعرة الاوسترالية آن فيربيرن التي أنفقت نحو عشرين عاماً في محاولة ايصال قصائد عربية إلى القارىء الانكليزي. وقد خلصت من تجربتها الطويلة الى أن ترجمة الشعر تبقى ممكنة، على رغم صعوبتها الناجمة أساساً كونها فناً ابداعياً لا نقلاً ميكانيكياً. ولذا اشتقت الشاعرة اصطلاحاً جديداً لهذا الفن هو "النقل الخلاق" Transcreation . وسلط باحثون الضوء على كتابات الرحلات التي رصدت التماس بين البريطانيين ومناطق عربية. وأدب الرحلات هو أشبه ببوابة تؤدي إلى فضاء النقد الثقافي الذي اختط ادوارد سعيد معالمه البارزة في "الاستشراق" ثمّ في "الثقافة والامبريالية". ومع أن الطريقة التي قارب بها الباحث الفلسطيني الأصل اشكاليات علاقة الرحالة والكاتب والسياسي الغربي مع "موضوعاتهم" العربية، كانت حاضرة في قلب النقاش الدائر عن التواصل والقطيعة بين الشرق والغرب، فالاصطلاحات تعددت وأثرت الخطاب النقدي الثقافي واغنت أساليب البحث بتفاصيل تلك العلاقة. هكذا أُعيد النظر في نصوص قديمة على هدى نظريات جديدة استلهمت "الاستشراق" أو قامت على بعض طروحاته. ولعل في ذلك دليلاً إلى ثراء مضاعف: فالنقد الثقافي يُطوّر الأدوات التي يشرح بها العلاقات العربية البريطانية، فيما تتطور هذه العلاقات وتأخذ اتجاهات جديدة. وهل أدل على هذه الحيوية من الفترة الزمنية الفاصلة بين البدايات، واللحظة المعاصرة التي تشهد ولادة أشكال وأساليب مبتكرة لرصد هذه العلاقات عبر أنماط أدبية ونقدية مختلفة؟ ففيما حظيت الصورة التي رسمها الانكليز في القرن التاسع عشر لتونس، أو مصر، بالاهتمام، لم يفُت المؤتمر أن ينظر في نتاج كتّاب معاصرين استقوا من مصر المادة الرئيسية لأعمالهم الابداعية. إلى جانب مؤلفات ادوارد لين وبلنت وتيثيغرا... التي تناولها عدد من المشاركين، أضاءت نازك فهمي صورة مصر في روايات بينلوب لايفلي التي نالت جائزة "بوكرز" قبل سنوات. وعالجت ليلى جلال رزق قصص مايكل بيرس البوليسية التي يلعب بطولتها محقق مصري. وأثارت ورقة منى سامي عن صور العالم العربي في فيلم "المريض الانكليزي" ومسلسل "خرافي تماماً" قدراً من الاهتمام. والطريقة التي نظر بها العرب إلى بريطانيا، كان لها أيضاً حظها من البحث والتمحيص، اذ قدم طريف الخالدي مداخلة بعنوان "ازالة النقاب: عنبره سلام في انكلترا بين 1925 و1927". ووقف بعض المشاركين عند مقاربة الشدياق لبريطانيا، وقناع الموضوعية الذي نسجته تقنيات استعملها مع ريتشارد بورتون في كتابات الرحلات التي جاءت ثمرة تواصل كل منهما مع عالم الثاني. وكان التنميط الذي مارسه البريطانيون ببراعة، وسيلة اتكأ عليها العرب أيضاً لتصوير الآخر البريطاني، أو لجأ إليها الكاتب في تعاطيه مع عالم المرأة أياً كانت. من هنا استحق موضوع تمثيل المرأة الاوروبية في خطاب النهضة المصري على يدي الكتاب والكاتبات حيزاً مستقلاً، كما نالت "صور المرأة في الروايات العربية والانكليزية" شيئاً من الاهتمام. وتحرر بعض المساهمين من اسار النص الادبي والابداعي، مركّزين على سيرة شخص أو ذاكرة مكان. سحر حمودة اختارت الموضوع الأخير، إذ تناولت الدور الذي لعبته كلية فيكتوريا في الاسكندرية، فيما روت فاطمة موسى قصة تنقيبها عن بيت ليدي آن وويلفريد سكاون بلنت في القاهرة. ثم مضى الجميع وهم يتأملون الفروق بين الأمس واليوم... وينتظرون الغد المسكون بأصوات تضج بالحياة والرغبة في التواصل مع الآخر.