تشهد منطقة الخليج اهتماماً ملحوظاً بالتاريخ وبالتنقيب عن الآثار. عُمان تحاول منذ سنوات كشف غموض مدينة ارم ذات العماد، بعد ما حددت الاقمار الصناعية موقعها على أطراف الربع الخالي الجنوبية. والإمارات مهتمة بالكشف عن "جلفار" المدينة العربية الحاضرة في قلب الاحداث الخليجية منذ آلاف السنين. قبل ان تستقر الأوضاع السياسية في المنطقة كان من غير المقبول "حفر القبور"، أما الآن فإن إمارة رأس الخيمة تولي أهمية قصوى لإعادة كتابة تاريخ المنطقة، والبحث عن الحلقات المفقودة في حكاية المكان. اليونسكو تقول إن إمارة رأس الخيمة حيث تقع مدينة جلفار المدفونة تحت الأرض والتي تحتاج إلى قرن كامل من التنقيب. والتخمينات كثيرة حول أسباب اندثار المدينة، أو المملكة المستقلة في حقب متقدمة. عرفت جلفار كمركز تجمع للقوافل البرية والبحرية بين آسيا وافريقيا، صهرت النحاس المستخرج من جبالها وبادلته بالخزف الصيني والفضة ومنتجات غذائية مع بلاد الرافدين. وصفها البابليون، وتعامل معها السومريون واعطاها الفرس اسم "جلنار"، أي زهر الرمان. ما حكاية تلك المدينة التي أجاد أهلها لغات العالم القديم والحديث من الشول التاميلية الى لغة جاوة المعقدة، الى السنسكريتية والبرتغالية والسواحيلية، وأقاموا العلاقات التجارية المميزة مع ملوك الصين القدامى؟ كيف اختفوا وما الذي حل بحاضرتهم المزدهرة؟ دائرة الآثار والسياحة في رأس الخيمة، وعلى رأسها نائب حاكم الإمارة، تعمل بجدية لاستكمال البحث عن جلفار. ولكن لا أحد يعرف حتى الآن، وعلى وجه الدقة، ما الذي حل بالمدينة، وكيف اختفت تماماً عن سطح الأرض؟ قصدنا خبير الآثار الالماني كريستيان فيلدي، رئيس بعثة التنقيب التي تعمل في رأس الخيمة منذ ستة أعوام، الذي روى كيف أن الحفريات "كشفت عن جزء من سور ضخم بعرض مترين ونصف المتر، يقال إنه أحاط بالمدينة في حقب متقدمة من التاريخ. كما كشفنا عن موقع آخر في قرية شمل هو عبارة عن مدفن جماعي، وجدت فيه رفات 300 شخص، وهو مقسم الى حجرات صغيرة. هناك تم اكتشاف تحف مهمّة، منها مقتنيات شخصية للمدفونين من حلى ذهبية وبعض الأحجار الكريمة". ويضيف فيلدي: "لا تستغربوا اهتمام بعثات الآثار العالمية بالبحث عن هذه المدينة. فنحن نواجه صعوبة في استكمال قصة حضارات العالم القديمة. ومرحلة اكتشاف الممرات البحرية نحو الشرق مهمة جداً بالنسبة الى أوروبا والعالم. لكننا نواجه مشكلة مناخية. فنحن لا نستطيع العمل هنا لأكثر من أربعة أشهر في كل عام، بسبب ارتفاع درجة الحرارة والرطوبة في سائر أشهر السنة. وهذا يجعل عملنا بطيئاً. تحتاج رأس الخيمة لعقود من التنقيب والبحث وسنوات عدة للدراسة ولفك طلاسم بعض ما نجده. إننا نبحث عن كل شيء. فهناك فترات غامضة جداً لنا وللمهتمين بالتاريخ. والاهتمام بقطاع الآثار بدأ حديثاً في هذه المنطقة للظروف السياسية والتاريخية التي عاشتها". ويوضح كريستيان فيلدي أن بعثته تواجه صعوبات اخرى. فالمسح الشامل للمنطقة التي يُعتقد بأنها جلفار تأخر قليلاً، في الوقت الذي انتشر فيه العمران. والتنقيب يتم في مواقع لم تطلها ماكينة التنمية. لقد تنبهت حكومة رأس الخيمة منذ ان تسلم الشيخ صقر بن محمد القاسمي الأمر. وتم تحييد مواقع اعتاد الاهالي نبش أرضها والحصول على بعض اللقى منها. ان منطقة سكنية مهمة من جلفار القديمة في موقع يسمى الندود وجدت فيه بيوت طمرها الطمي كما هي. وحسب خبير الآثار الالماني "لم يتوصّل أحد حتى الآن إلى تحديد ما إذا كان السبب طمي الجبال الذي جلبته فيضانات السدود، أم الطمي البحري الناتج من ارتفاع المد أو من أي سبب آخر. نحتاج للمزيد من العمل، وقد يستغرق الأمر اجيالاً من المنقبين. لقد عمل البريطانيون من قبلنا والهولنديون والدانماركيون وسنحاول جمع هذه الجهود لاستخلاص حقيقة ما حدث لجلفار". لماذا اختفى ذكرها 500 سنة؟ أمضى الدكتور فالح حنظل، المؤرخ والمتخصص بالدراسات الاسلامية، معظم الفترة التي عاشها في الامارات حتى الآن، وهي تزيد على الثلاثين سنة محاولاً جمع شتات الاحداث التاريخية التي عاشتها الإمارات. وقد تصدى للعديد من المغالطات التاريخية التي وردت في كتب الرحالة والبرتغاليين والمقيم السياسي البريطاني. يقول حنظل حول ما توصل اليه عن جلفار المدينة: "ذكرها ياقوت الحموي في مخطوطه "معجم البلدان" قائلاً انه مرّ بِحُرّفار، وهي مدينة خصبة الأرض يعمل معظم أهلها في الزراعة وتربية الماشية. ولعل لفظة جلفار مرتبطة بتضاريس المكان، فهي اشبه بالجرف أي حاشية الماء، وان كان بعضهم يقول بأنها "جلنار" أي زهر الرمان بالفارسية. المشكلة ليست في التسمية، بل في تحديد موقعها تماماً. فعلى امتداد مدينة رأس الخيمة وما يحيط بها من ضواحٍ وقرى يقول الناس إنهم كلما حفروا للبناء أو الزراعة وجدوا أكواماً من الفحم والرماد الأسود. ويعتقد بأنها بقايا المدينة التي أحرقها البرتغاليون وارتكبوا فيها أبشع المجازر في تاريخهم الاستعماري". ويضيف حنظل: "ان موقع المدينة الاستراتيجي هو الذي اعطاها في الماضي أهمية اقتصادية وعسكرية. فكانت الأساطيل المستعمرة تختارها ميناء آمناً لسفنها، ونزلت فيها الجيوش الاستعمارية جنوب الجزيرة العربية. فهي نهاية الساحل الرملي الضحل وبداية الشواطئ الصخرية، وكناية عن خليج طبيعي ومرسى. وكلنا يعرف نوعية المخاطر التي تواجهها السفن عند عبور المحيط الهندي حيث تنشط التيارات المائية الهائلة. لذا يبدو لي انها كانت محطة مهمة في الطريق الى البصرة أعالي الخليج. وإذا نظرنا الى خارطة المنطقة، سنجد انها على بعد مئات الأمتار من هرمز. ان موقع المدينة كان سبباً لنزول البرتغاليين فيها. وكذلك استمر النشاط الاستعماري في الخليج يطالب بتسهيلات فيها، حتى ان البريطانيين أرادوا الممر المائي المقابل لها في مياه الخليج مهبطاً لطائراتهم لبعده عن الأعاصير والتقلبات البحرية". أما كثرة الشواهد والحصون والابراج العسكرية التي تنتشر على أرض إمارة رأس الخيمة حالياً، فتؤكّد ما قيل في هذه المدينة التي يبدو ان معارك طاحنة وقعت فيها. كما يبدو انها تمتعت باستقلال سياسي تام، ومنها انطلقت الثورات أيام الخلافة العباسية. لكن ما يثير الحيرة هو اختفاء اثر هذه المدينة منذ مطلع القرن العاشر وحتّى الغزو البرتغالي العام 1507م. واستمرت المرحلة الغامضة في تاريخ جلفار والمنطقة الى ان ظهر ناصر بن مرشد اليعربي زعيم الدولة اليعربية العام 1624م ليحرر جلفار من أيدي البرتغاليين والفرس. وقد ذكر روي فيريرا، الحاكم البرتغالي على عُمان يومذاك، ان البرتغاليين تقاسموا المنطقة مع مملكة هرمز الفارسية. ثم حاول الهولنديون الحلول محل البرتغاليين اثر هزيمتهم، وقد ذكر الكوماندور يان كارستنز في رسالة الى حكومته كتبها العام 1633، انه كان على مقربة من جلفار عندما شاهد الهجوم العربي عليها، لتخليصها من البرتغاليين. وفي العام 1654 حاول الهولنديون ابرام اتفاق مع تجار اللؤلؤ الكبار في جلفار، وفي محضر الاتفاق ورد ذكر رجل قاسمي قيل إنه زعيم القواسم وحاكم جلفار يومذاك. ولكن كيف يمكن ان تختفي حاضرة شهدت كل هذه الاحداث ولها كل هذا التاريخ؟ يجيب الدكتور فالح حنظل: "الروايات كثيرة والتكهنات اكثر. ولكن ما من أحجية تاريخية تبقى غامضة الى الأبد. ثمة جهود طيبة تبذل الآن لمعرفة الحلقات المفقودة. لقد استمر عملنا كمؤرخين وباحثين في خط مواز لجهود المنقبين والأثريين، وقد يحتاج البحث عن جلفار واستكمال حلقات تاريخها إلى زمن طويل جداً. لقد وجدنا في بعض المصادر العمانية والاجنبية ما يدل على ان اسم جلفار تحول الى "الصير" في تقرير هولندي كتب العام 1647. كذلك ذكرها المؤرخ العماني حميد بن محمد زريق في مخطوط له العام 1723. وانتهى ذكرها تماماً تحت اسم جلفار العام 1815، عندما هاجمتها البارجة ليفربول ذات الخمسين مدفعاً ودكت حصونها بالقنابل من البحر، بعد حصار بحري استمر شهراً. وأعود فأقول إنه ما من أحد يعرف سبب اختفاء المدينة عن وجه الأرض بدقة، والأقاويل كثيرة والنتيجة الحقيقية تحتاج إلى كثير من البحث والتحليل والدراسة". وقصدنا الباحث والكاتب عبدالله الطابور من امارة رأس الخيمة، للاطلاع على وجهة نظره، هو الذي بذل جهوداً لافتة للاحاطة بذاكرة هذه البقعة من العالم، ودرس جوانب عدّة من تلك الحضارة، بدءاً بالتوثيق لمسيرة التعليم، ووصولاً إلى الطب الشعبي. فقال صاحب كتاب "جلفار" الصادر حديثاً: "عندما اقتفينا أثر المدينة في المصادر التاريخية اكتشفنا انها ذكرت تحت اسماء عدة منها "رجمة" و"رحمة بوليس" و"أكيلا". وفي التوراة قيل انها "رغمة" وتوصلنا الى ان كلمة "رغمة" تطلق على نوع صغير من اللؤلؤ. وقد عرفت من قبل الحضارات القديمة المجاورة والبعيدة بحدود 500 عام على الأقل". وأوضح الطابور أن التكهنات حول اسم المدينة كثيرة، ولم تتفق المصادر على تسمية موحدة لها أو حتى على اسباب هذه التسميات. حتى ان بعضهم ربط بين مسمى "جلفار" واسم قائد برتغالي يدعى "جلفر"، وهذا خطأ كبير لأنها كانت معروفة باسم جلفار قبل وصول البرتغاليين. ويربط البعض الآخر بين اسم المدينة واسم قائد من قبائل الأزد، وصلت من اليمن بعد انهيار سد مأرب، وهو جيفر الجلندي. وهذا أقرب الى الحقيقة لأن نزوح قبائل اليمن في جميع الاتجاهات بعد انهيار مأرب حقيقة مؤكدة، وكل الشواهد المحيطة بالمدينة تدل على ذلك، ومنها على سبيل المثال حصن الزباء الشهير في مرتفعات منطقة شمل. وينسب بعضهم هذا الحصن الى زنوبيا ملكة تدمر التي وصلت الى جنوب الجزيرة للاستعانة بالفرس في حربها ضد الرومان. لكن رواية اخرى تقول بأنها بلقيس ملكة سبأ التي غادرت أرضها للاحتماء من الفيضان. وتعزز هذه المقولة بشواهد الحصن نفسها فقد بني فوق أعلى مرتفع صخري يشرف على حاضرة كبيرة. ويعتبر الطابور أن عمل بعثات التنقيب الأثري الآن في غاية الاهمية: "نحن ننتظر نتائجه، وفي كتابي عن المدينة حاولت جمع ما ذكر عن هذه الحاضرة في مصادر مختلفة. ولقد تبين لي ان جلفار اهم حاضرة على الخليج العربي لقرون، بل لآلاف السنين. سكنها تجار اللؤلؤ الذين تبادلوا المنافع مع ملوك الصين القدامى ووصلوا بسفنهم حتى فيتنام. حملوا فخارياتهم المصنوعة على أرضها وبادلوها بالأرز والبورسلين الصيني الفاخر. وصدروا النحاس الى ممالك ما بين النهرين في العراق، حتى أنهم عرفوا النفط وانتاج المواد القابلة للاشتعال. ان المستكشفين الأوروبيين الأوائل الذين زاروا المحيط الهندي كتبوا الكثير في وصفها، وبعضهم رسم خرائط تظهرها بحجم مملكة مترامية الأطراف تبدأ من مرتفعات مسندم الصخرية بوابة الخليج العربية، حتى مشارف أبو ظبي بحراً وتتصل بمسقط العمانية براً. وكلنا يعرف ان مملكة "ماجان" على ساحل عمان الكبير سابقاً، تشمل الامارات وسلطنة عمان ومناطق داخلية تتصل بصحراء الربع الخالي. بلاد ماجان أي البلاد التي تصنع السفن النجرية تاجرت بالنحاس والبرونز والاخشاب والماشية مع ممالك سومر وبابل والكلدانيين وغيرها، قبل 4 آلاف عام. هذا ما دلتنا عليه الآثار المكتشفة حتى الآن". لكن أبرز المحطات المؤكدة في حياة المدينة تلك المتعلقة بالعصر الاسلامي الأول، زمن الفتوحات وأيام الخليفة عمر بن الخطاب، عندما انطلقت أولى كتائب الفتح الاسلامي باتجاه آسيا. فركب الفاتحون اسطولاً بحرياً وانتقلوا الى البر الفارسي لفتح "الاصطخر" عاصمة المملكة الساسانية المجوسية يومذاك. ومن ميناء جلفار الطبيعي كانت الانطلاقة، حتى ان قادة بارزين أبلوا البلاء الحسن من أبناء الامارات القدامى كانوا مع "لواء الاصطخر"، مثل المهلب بن أبي صفرة، ووالده من مدينة دبا الاماراتية على المحيط الهندي. وفي القرن الخامس عشر ظهر بين أبنائها الملاح العربي الكبير أحمد بن ماجد أسد البحار الذي تعلم في كتاتيبها. وبطبيعة الحال فإن مدينة يخرج من بين أبنائها اسماء كبيرة لا بد من انها كانت حاضرة مهمة. ويشير عبدالله الطابور إلى الأحافير والمتحجرات البحرية التي وجدت فيها. أما المتجول فوق تلال المنطقة، فلا بد ان تستوقفه تلك الكميات الهائلة من الأصداف البحرية فوق رؤوس الجبال. وهذا يدفع إلى الاعتقاد بأن البحر ربما غمر المدينة وطواها تحت أمواجه. هل كان مداً بحرياً هائلاً نتيجة إعصار؟ أم أنها الفيضانات والسيول المدمرة التي ربما تكون هدمت السدود الجبلية على أبواب المدينة الزراعية وجرفت المدينة ودفنتها تحت الطمي؟ ان الشاعر المخضرم الفيلسوف الماجدي ابن ظاهر وهو اشعر شعراء جنوب الجزيرة العربية قديماً، وصف كارثة طبيعية في جلفار وضاحية منها تسمى المعيريض. وفي احدى قصائده قال إن أكثر من 80 ألف شخص قضوا في المنطقة معاً. في اشارة إلى وقوع كارثة لكنه لم يوضح نوعية هذه الكارثة!