عادت حكومة الرئيس العراقي صدام حسين لتمارس "لعبة القط والفأر" مع الولاياتالمتحدةوالأممالمتحدة التي حال تدخلها - من خلال امينها العام كوفي انان - قبل بضعة اشهر دون مهاجمة العراق. وبدت احتمالات الضربة العسكرية شبه اكيدة، خصوصاً بعد ارسال واشنطن مزيدا من مقاتلاتها وجنودها الى المنطقة، كما ان احتمالات التنازل من جانب بغداد واردة. ومثل كل المرات السابقة يحتدم الجدل حول جدوى ضرب العراق: هل سيكفي ذلك لمحو قدرته على انتاج اسلحة فتاكة؟ وهل سيؤدي الى ارغامه على التعاون مجدداً مع مفتشي الاسلحة الدوليين؟ والأهم: هل ستجني المنطقة شيئاً من مهاجمة العراق؟ يختلف التهديد الاميركي بضرب العراق هذه المرة عما سبقه في جوانب عدة، اهمها تمسك الولاياتالمتحدة بأنها ليست في حاجة الى تفويض جديد من مجلس الأمن لمهاجمة القوات العراقية. غير ان الأشد لفتاً في هذا الجانب ان قرار بغداد وقف التعاون مع فرق التفتيش التابعة للجنة الدولية المكلفة ازالة اسلحة الدمار الشامل العراقية اونسكوم، في وقت بدا فيه ان الأممالمتحدة مستعدة للبحث في جدول زمني لرفع العقوبات تدريجاً، اعتبر تحدياً اثار حفيظة الدول المتعاطفة تقليدياً مع عدم اللجوء الى القوة العسكرية ضد العراق، خصوصاً روسياوفرنسا. ويرى المحللون انه، لأسباب داخلية أميركية اكثر منها سياسية خارجية، بدأت بعض الأصوات داخل قيادة الحزب الديموقراطي في الكونغرس تطالب الرئيس بيل كلينتون باستخدام القوات الاميركية الموجودة في منطقة الخليج لپ"معاقبة" الرئيس العراقي على "تحدّيه" قرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بالتفتيش عن اسلحة الدمار الشامل. والمعروف ان الولاياتالمتحدة التي ارسلت الى المنطقة حاملة الطائرات انتربرايز لا تزال تحتفظ هناك بحاملة الطائرات ايزنهاور وباحدى وعشرين سفينة حربية في الخليج، بينها سبع مسلّحة بصواريخ توماهوك، اضافة الى 174 طائرة مقاتلة. ويقول المنادون بتوجيه ضربة عسكرية الى العراق ان روسيا لن تعترض لأنها غاضبة من رفض صدام حسين الخطة التي اقترحتها لرفع العقوبات بصورة تدريجية تتناسب مع تعاون العراق مع لجنة مجلس الأمن المكلفة نزع الاسلحة العراقية. وأكدت مصادر في وزارة الخارجية الاميركية لپ"الوسط" ان الديبلوماسيين الروس لمّحوا الى انهم لن يتجاوزوا في ردود فعلهم "الانتقاد اللفظي" لأي اجراء عسكري اميركي ضد العراق. وتدعي تلك المصادر ايضاً ان فرنسا والصين اللتين تعارضان استخدام القوة العسكرية اخذتا تميلان الآن الى اطلاق يد اميركا في التعامل مع الرئيس العراقي. لكن هناك اصواتاً قوية أيضاً تعارض توجيه اي ضربة عسكرية الى العراق، وفي مقدمها مستشار الأمن القومي صموئيل بيرغر ووزيرة الخارجية مادلين اولبرايت. ويسوق المعارضون الحجج التالية ضد اتخاذ اجراء عسكري. ان الضربة العسكرية لن تنجح في اطاحة الرئيس العراقي. مثل هذا الاجراء سيزيد معاناة الشعب العراقي، كما انه سيلحق ضرراً شديداً بمكانة الولاياتالمتحدة في العالم العربي. ستتعرض اميركا للانتقادات العالمية لأنها تنفق الأموال على شن حرب على العراق وتمتنع في الوقت نفسه عن تسديد ديونها للأمم المتحدة. يشير الكثيرون الى ان سكوت ريتر عضو لجنة نزع الاسلحة بدأ يخضع الآن لتحقيقات بسبب علاقاته مع اسرائيل، كما ان زوجته الروسية ناتاشا التي التقاها عندما كانت تعمل مترجمة في السفارة الاميركية في موسكو تخضع للتحقيق الآن لاحتمال كونها جاسوسة روسية. فقد بدأ مكتب التحقيقات الفيديرالي تلك التحقيقات حين قدمت ناتاشا طلباً الى المكتب للعمل مترجمة فيه. وذكرت مصادر وزارة العدل الاميركية لپ"الوسط" ان ريتر فشل في اختبار تحري الكذب الذي اجراه المكتب، حين اجاب عن ثلاثة اسئلة هي: هل سبق ان نقلت معلومات سرية الى حكومة اجنبية؟ وهل تلقيت اي اموال في مقابل ذلك؟ وهل سبق ان اجتمعت سراً ومن دون اذن الى عملاء الاستخبارات الاسرائيلية؟ وأبلغ مسؤول في وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية سي. آي. ايه "الوسط" بأن المفتش ريتر الذي اتهمه العراق بالتجسس لحساب اسرائيل كان يتعاون فعلياً مع الاستخبارات الاسرائيلية موساد ولكن بموافقة "سي. آي. ايه"، وبأنه اطلع "الموساد" على الصور التي التقطتها طائرات التجسس الاميركية "يو - 2" لمواقع عراقية مختلفة. كما انه حصل على مساعدة العملاء الاسرائيليين في قراءة تلك الصور ومحاولة التعرف على اي مواقع سرية يخفي فيها العراق اسلحة كيماوية او جرثومية. وأضاف مصدر "سي. آي. ايه" في حديثه لپ"الوسط" ان "القراءة الاسرائيلية لتلك الصور كانت مفيدة جداً، لكنها لم تكن بالضرورة افضل من قراءة الخبراء الاميركيين". وفي تعليق على امكان توجيه ضربة عسكرية الى العراق قال الدكتور كنيث بولاك من جامعة الدفاع الوطنية التي يديرها الجيش الاميركي: "لا اعتقد بأن اي ضربة عسكرية يمكنها ان تنجح في القضاء على ما بقي لدى العراق من اسلحة دمار شامل. والمشكلة الأساسية انه لا يمكن القضاء على قدرة العراق على استئناف برامج تلك الاسلحة في اي وقت يريده". ويخشى مخططون استراتيجيون اميركيون ان يؤدي ضرب العراق الى اغلاق حدوده نهائياً امام مفتشي الاممالمتحدة. ويعتقدون بأن التصلب العراقي ناجم، في جانب منه، من اعلان واشنطن رصد 97 مليون دولار لاطاحة نظام الرئيس العراقي. غير ان مراقبين لاحظوا ان الولاياتالمتحدة لم تفكر حتى الآن في بذل اي مسعى لوضع تهديداتها باقتلاع صدام حسين من السلطة موضع التنفيذ. ويشار في هذا الشأن الى ان اصواتاً بدأت تعلو منادية بتحميل "سي. آي. ايه" مسؤولية بقاء صدام حسين في الحكم، خصوصاً ستيف ريختر مدير دائرة الشرق الأوسط في مديرية العمليات التابعة للوكالة الذي يتهمه منتقدوه بأنه ساند عشرات المحاولات الفاشلة الرامية الى تشجيع عسكريين منشقين على تنفيذ انقلاب عسكري يطيح الحكومة العراقية الحالية. ويرى هؤلاء انه كان احرى بريختر ان يساند حركات حرب العصابات وتشجيع قيام انتفاضات شعبية قد تسفر احداها عن تحقيق الهدف المنشود. ويرى منتقدو دور اجهزة الاستخبارات الاميركية في المنطقة ان الوضع الحالي يختلف كثيراً عما كان اثناء الخمسينات، اذ ان متطلبات الابقاء على اي نظام انقلابي تدعمه "سي. آي ايه" حالياً اكبر كثيراً مما كان يحصل قبل بضعة عقود. ولوحظ ان مساعي "سي. آي. ايه" منذ انتهاء حرب الخليج العام 1991 لاطاحة صدام بواسطة انقلاب عسكري باءت بالفشل. وحذر نواب جمهوريون من "ان صدام حسين قادر على مقاومة الانقلاب اكثر من قدرتنا على تدبير تلك المؤامرة ضده". وقال ريتشارد بيرل مساعد وزير الدفاع الاميركي السابق ان تشجيع "المؤتمر الوطني العراقي" على تكوين جيش "لتحرير العراق" سيغرق هذه الدولة في فوضى اشبه بما يحصل في افغانستان او بما كان يحصل في لبنان ابان الثمانينات. غير ان احمد الجلبي رئيس "المؤتمر الوطني العراقي" المعارض علّق على ذلك قائلاً: "وماذا حصل في لبنان؟ الحياة هناك الآن افضل بكثير مما هي عليه في العراق". ومضى عدد من الجمهوريين المتشددين في انتقاداتهم للادارة الاميركية الى حد مطالبتها بتكوين لجنة منبثقة من الكونغرس للتحقيق في نشاطات وكالة الاستخبارات الاميركية والوكالات الاخرى التابعة لواشنطن في الشرق الأوسط. التوقيت والجدوى والأهداف وسط هذه الاجواء ليس ثمة موعد سحري لضرب العراق، لأن المسألة كلها "لعبة قط وفأر" حقيقية. وعلى ذلك يمكن ضرب العراق اليوم أو بعد اسبوع او عشرة أيام. ويتوقع ان يستهدف الهجوم منشآت الحرس الجمهوري العراقي، وقواعد جوية، ومراكز تابعة للقيادة العسكرية، وبعض المواقع التي يشتبه في ان العراق يستخدمها في انتاج اسلحة فتاكة. لكن واشنطن اقرت بأنه يستحيل تدمير قدرة العراق على انتاج اسلحة كيماوية وجرثومية بشن غارات جوية. وفي حال رفض بغداد نهائياً عودة مفتشي الأممالمتحدة - يرى الخبراء - قد يكون بمستطاع العراق انتاج اسلحة كيماوية وبيولوجية في غضون أسابيع، كما انه قد يكون قادراً على انتاج صاروخ بعيد المدى في غضون عام، وقد يسترد قدرته على انتاج رؤوس نووية في خمس سنوات. وأكد ديبلوماسيون عرب انه مهما كانت نتيجة المواجهة الحالية فهي ستجعل عودة المفتشين لاستئناف مهمتهم في العراق صعبة، ان لم تكن مستحيلة، "الا اذا حصل غزو شامل للعراق" على حد تعبير ديبلوماسي عربي في نيويورك. وينادي معارضو استخدام القوة بتجنبها خشية ان تتيح للرئيس العراقي تصوير نفسه باعتباره بطلاً وطنياً وقومياً. غير ان خصومهم يرون ان استراتيجية الضربة العسكرية ستحظى بتأييد الغرب والعالم العربي اذا كانت ستسفر حقاً عن تحجيم التهديد الذي يمثله النظام العراقي ضد جيرانه. ومهما يكن فان بغداد لم تبد اي بادرة تنازل، مؤكدة ان "لعبة الفأر والقط" هي اللعبة التي يجيدها صدام حسين.. لكن المشفقين يرون ان الفخ سيطبق على الفأر هذه المرة، وهو امر تقول الولاياتالمتحدة انها ستعمل على ضمان نجاحه في تحقيق الهدف المنشود