يتوقع الخبراء مع إطلالة القرن الحادي والعشرين ان يشهد العالم تحوّلاً جذرياً في محاربة الجريمة عندما يبدأ استخدام المجاهر الالكترونية وأجهزة الكومبيوتر وأشعة الليزر بطريقة ستحدث ثورة في أساليب التحقيق التقليدية وطرقه المألوفة هذه الايام. إذ ان جيشاً مكوناً من اكثر من خمسمائة عالم وفني ومتخصص وعامل في المختبرات بدأ يتولّى المهمة التي كان يقوم بها استاذ التحقيقات الجنائية الذائع الصيت شيرلوك هولمز. ويحتاج هذا الاسلوب الجديد من التحقيق والمثابرة العلمية والصبر ما يكفي لضمان العثور على المجرمين. لكن الفارق الوحيد هو ان العِلْم يستطيع إثبات الحقائق، إلا انه لا يستطيع تسمية الطرف المذنب. في خريف 1995 كانت الشرطة الفرنسية تطارد عدو الشعب رقم واحد الذي كان هارباً من وجه العدالة. وبعد فترة من المطاردة ألقت الشرطة القبض عليه للاشتباه في كونه قائد المجموعة التابعة للجماعة الاسلامية الجزائرية التي نفذت عدداً من الانفجارات التي هزّت فرنسا بداية بتفجير محطة قطارات سانت ميشيل في شهر تموز يوليو من العام نفسه. وكانت تحقيقات قوات الامن تتركز على بصمات الاصابع. وعندما عثرت الشرطة على قنبلة اخرى في محطة قطارات ليون وأبطلت مفعولها توصلت الى اكتشاف "أثر" قادها فيما بعد الى الاعلان عن هوية المسؤول الذي كان شاباً لا يكاد يبلغ العشرين من عمره اسمه خالد خلخال. وفي شهر كانون الاول ديسمبر من العام 1996 وقع انفجار آخر في محطة قطارات بور رويال في العاصمة باريس. وخلال أقل من 48 ساعة تمكنت الشرطة من الحصول على فكرة واضحة عن قادة تلك المجموعة. اذ ان المسؤولين عن تلك الانفجارات استخدموا مواد معروفة مثل مسحوق البارود الاسود الذي يسهل الحصول عليه وصودا الكلور مع السكر العادي وصنعوا قنبلتهم باستخدام اسطوانة غاز وزنها 13 كيلوغراماً يمكن شراؤها من أي متجر متخصص. لكن التعرف على مشتري تلك الاسطوانة من خلال رقمها المتسلسل امر صعب لأن اكثر من أحد عشر مليون اسطوانة تباع كل عام. ومع ذلك فان استخدام الاسلوب نفسه في تصنيع تلك المتفجرات يمكن ان يقود الى الفاعلين. فمن خلال تحليل الشظايا في مكان الانفجار، ومن خلال تحليل قطع الانقاض الناجمة عن الدمار مثل القطع البلاستيكية واطارات السيارات والقماش المحروق وما الى ذلك، تمكن المحققون من اكتشاف حقيقة مهمة وهي ان الجناة نقلوا القنبلة في حقيبة كانوا يجرّونها على عجلات. وهكذا اكتشف المحققون ما يكفي من المعلومات خلال يومين فقط. لكن السؤال الجوهري وهو من هم الجناة ظل لغزاً دون اجابة. وفي تموز يوليو من العام 1996 انفجرت طائرة للركاب من طراز بوينغ 747 تابعة لشركة ترانس ورلد أيرلاينز تي. دبليو. أيه بعيد اقلاعها بفترة وجيزة من مطار نيويورك. ولم ينجُ أحداً من ركاب الطائرة او افراد طاقمها. ولكن سرعان ما ظهرت ثلاث نظريات لتفسير الانفجار: إما ان يكون السبب قنبلة او صاروخاً او عطباً اي خللاً فنياً في الطائرة نفسها. وإثر ذلك ركز المحققون ولمدة ستة اشهر كاملة على جميع هذه الاحتمالات وبدأوا في فحص قطع حطام الطائرة والامتعة التي كانت على متنها بعدما انتشلوا كل ما يستطيعون من مياه المحيط. لكن السؤال الاساسي حول سبّب الانفجار ظل دون اجابة. إذاً هل يعني هذا أنه لم يعد في مقدور الشرطة ان تستغني عن تعاون العلماء وخدماتهم؟ في عام 1985 قرر وزير الداخلية الفرنسي آنذاك بيار جوا تأسيس وحدة "علماء الشرطة". وحتى ذلك التاريخ كانت الشرطة تعتمد في تحقيقاتها على الاساليب التقليدية المألوفة. لكن تأسيس هذه الوحدة ادى الى ادخال خدمة الكومبيوتر واعادة تنظيم اجهزة التحقيقات وهيكلها. ولعل أهم ما شهدته تلك الاجهزة من تغيير هو الشروع في استخدام نظام "مورفو" الكومبيوتري للتعرف على بصمات الاصابع بسرعة. ويكفي للدلالة على مدى فعالية هذا النظام ومدى نجاحه ان نشير الى ان التعرف على بصمات الجاني قبل استخدام نظام "مورفو" كان يستغرق اسابيع عدة. اما الآن فقد اصبح في وسع قوات الامن ان تتعرف على تلك البصمات خلال دقيقتين فقط. ومنذ الشروع في استخدامه حتى الآن سجل النظام نسبة نجاح كاملة. في العام 1882 توصل العالم الفونس بيرتيلون الى انه ليس هناك شخصان في العالم لهما بصمات الاصابع نفسها. ومنذ ذلك الوقت رسخت هذه النظرية مع ان أساليب الحصول على بصمات الاصابع واكتشاف اصحابها تنوعت. ولهذا فان المجرم يعرف جيداً انه يجب عليه ارتداء اي نوع من أنواع القفازات لكي يجعل من الصعب على المحققين التعرف على بصمات اصابعه. لكن العلماء يلتفّون على ذلك بأساليب ناجعة اخرى. اذ ان أي أثر مهما كان ضئيلاً أو صغيراً أو دقيقاً مثل شعرة من رأس المجرم أو جزء من أحد خيوط بدلته وما الى ذلك من الآثار يمكن اخضاعه للتحليلات العلمية التي تؤدي الى الربط بين الجاني والجريمة بل وصارت في حالات كثيرة هي التي تساعد على انتزاع الاعتراف من الجاني. وكانت هذه الثورة بدأت في الواقع في بريطانيا بلاد شيرلوك هولمز وأغاثا كريستي حين قرر عالم الاحياء البريطاني أليك جيفريز الذي كان يعمل في جامعة ليستر استخدام الجينات اي المورّثات في دراساته للكشف عن فاعل الجريمة لأن كل انسان له جيناته المختلفة عن غيره. وأثبت هذا الاسلوب نجاحه الكامل الى درجة ان نسبة الخطأ كانت صفراً. وأسلوب الجينات ببساطة هو اخضاع الدم مثلاً او الاظافر او الشعر وما الى ذلك من الخصائص للفحص المجهري الدقيق وتحليلها. وكانت بداية هذا الاسلوب العلمي هي فحص الحيوانات المنوية لكشف هوية الجاني في حالات الاغتصاب. لكن سرعان ما شاع منذ ان لجأ اليه البروفسور جيفريز في عام 1985. وخلال سنوات قليلة اصبح تحليل خصائص الشعر او الدم او الاظافر وما الى ذلك كافياً لكشف ادلة وإثباتات مذهلة في ما صار يطلق عليه العلماء اليوم اسم "دي إن أيه". وهذا التحليل ببساطة يقوم على مقارنة الآثار التي يعثر عليها المحققون في مسرح الجريمة مع خصائص المشتبه به من دم وحيوانات منوية وأظافر وشعر للربط بين الآثار والدلائل وبين الخصائص الوراثية للمشتبه به. لكن هذا الاسلوب العلمي التحليلي ليس بديلاً من التحقيقات التي تقوم بها الشرطة. اذ ان لكل دوره الخاص وأدواته الخاصة، كما انهما يكمّلان بعضهما بعضاً. ومن الامثلة الاخرى على التحديث الذي شهدته التحقيقات في مسرح الجريمة نفسه معدات خاصة يزن بعضها مئة كيلوغرام. ففي وسع هذه المعدات "تمشيط" مكان الجريمة بدقة متناهية وجمع كل دليل أو اثر ممكن - حتى الغبار ووضعه في حقائب بلاستيكية صغيرة تمهيداً لفحصه وتحليله بالمجهر والكومبيوتر في المختبرات المتخصصة. وقد اصبح في فرنسا الآن خمسة مختبرات متخصصة من هذا النوع في كل من باريس وليل وليون ومارسيليا وطولوز وهي مزودة بالمجاهر الالكترونية وأشعة الليزر واجهزة التحليل النووي او الذري. وفي مقدور هذه المختبرات تحليل جميع الآثار والأدلة التي تتراوح ما بين شظايا القنابل الصاروخية والسموم ومواد الطلاء والخصائص البشرية والوثائق. ومن البديهي ان يستخدم العاملون في هذه المختبرات احدث انواع التكنولوجيا للتحليل ودراسة الخصائص الفريدة بل ولتكبير الذرات الى غاية ثلاثمائة ألف مرة! وقد أثبتت هذه الاساليب العلمية الحديثة تطوراً هائلاً وأحرزت تقدماً مذهلاً. وخير دليل على هذا النجاح ان المختبرات الخمسة في فرنسا نجحت في العام 1996 وحده في احالة 14 ألف قضية الى المحاكم بفضل الادلة التي جمعتها وحلّلتها.