من الاعتقالات في صفوف "حماس" في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية الى اعتقال المتحدث باسمها في الأردن ومن التشديد على الامن مدخلاً الى السلام وصولاً الى الحديث عن ضرب البنية التحتية ل "الارهاب" بدا واضحاً ان وزيرة الخارجية الاميركية مادلين أولبرايت فتحت بشكل او آخر ملف "حماس". واضح ان اولبرايت لم تلتزم موقف رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو بحرفيته حول مسؤولية السلطة الفلسطينية وعلاقة ذلك باحياء مفاوضات السلام لكن الواضح ايضاً ان السلطة الفلسطينية قد تجد نفسها مدفوعة الى خيار صعب هو: اما أولبرايت واما "حماس"، وهو ما كانت السلطة تسعى الى تفاديه حتى الآن. لم تكن عملية الإنزال الفاشلة التي حاولت القوات الاسرائيلية تنفيذها على ساحل الجنوباللبناني قبل حوالي اسبوعين مجرد خطأ عابر او نكسة محدودة، بقدر ما كانت تعبيراً اوسع عن عقم الاستراتيجية العسكرية التي تعتمدها اسرائيل حيال الوضع في تلك المنطقة، ومحدودية الخيارات الامنية والسياسية المتاحة لها في مواجهة ذلك الوضع وتطوراته المحتملة. فهذه العملية، التي كان واضحاً ان القيادة الاسرائيلية تعمدت توقيتها عشية وصول وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت في اول جولة تقوم بها على دول الشرق الاوسط، لم تعجز عن تحقيق اهدافها المباشرة فحسب، بل انها تحولت الى كارثة كاملة وصفها رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتانياهو ب "أسوأ المآسي" التي تحل بالجيش الاسرائيلي منذ زمن بعيد. وعوضاً عن تسجيل "إنجاز" عسكري وسياسي ومعنوي متميز أملت الحكومة الاسرائيلية من خلاله، في استعادة زمام المبادرة في الحرب الاستنزافية الطويلة والخاسرة التي يخوضها جيشها في الجنوباللبناني ضد عناصر المقاومة، أدت العملية ونتائجها الى اعادة فتح النقاش الداخلي الاسرائيلي حول جدوى استمرار الاحتلال المكلف للأراضي الحدودية اللبنانية. قد يكون من السابق لأوانه التكهن بالوجهات التي سيتخذها هذا النقاش او نتائجه على صعيد السياسة الحكومية الاسرائيلية، لكن الامر الذي لا شك فيه هو الطابع الملح الذي باتت المؤسسة السياسية والعسكرية الاسرائيلية تشعر به حيال ما تعتبره "المأزق اللبناني". يأس من الحل ويعرب سياسيون وخبراء اسرائيليون عن مشاعر سلبية عميقة في توقعاتهم لما يمكن ان تصل اليه الامور اذا ما استمر الوضع السجالي القائم حالياً في الجنوب على ما هو عليه. كما انهم يتحدثون صراحة عن "اليأس" من امكان التوصل الى صيغة مرضية تضمن لاسرائيل سحب قواتها من جهة، وتوفر الأمن لحدودها الشمالية من جهة ثانية. وفي الوقت نفسه، لا يوجد في اسرائيل حالياً من يستطيع ان يناقش صحة الفرضية القائلة ان الحرب في الجنوب يمكن كسبها بالوسائل العسكرية. وعلى العكس من ذلك، فإن هناك إجماعاً على ان الاساليب المتنوعة التي تم استخدامها واختبارها في مختلف مراحل المواجهة ضد المقاومة فشلت في تحقيق اي من أهدافها، وان الاستمرار في خوض تلك المواجهة لن يؤدي إلا الى المزيد من الخسائر في صفوف القوات الاسرائيلية، من دون إلحاق خسائر كبيرة بالمقاومة وبحرية تحركها. وبغض النظر عن التفاصيل الميدانية التي أدت الى فشل عملية الإنزال الاخيرة، فإن حجم تلك الخسائر والطريقة التي حدثت فيها وطبيعة الوحدة العسكرية التي نفذتها، عوامل ساهمت في مضاعفة الشعور الاسرائيلي بمدى "الكارثة". فما كان يفترض ان يكون إنزالاً بحرياً مخططاً بدقة، على يد وحدة من كوماندوس مشاة البحرية، تحول بسرعة الى موقعة اشبه بالمجزرة، حيث أبيدت فيها تلك الوحدة عن بكرة ابيها تقريباً. ومهما كان السبب الحقيقي الذي أدى الى فشل هذه العملية، فإن الانعكاسات السلبية التي ستترتب عنه على صعيد الاحتلال الاسرائيلي للجنوب تصل الى ما هو أبعد من ذلك بكثير لأنها تمس مجمل السياسة التي قررت حكومة نتانياهو اتباعها حيال الوضع هناك تحت شعار الاستفادة من الدروس التي واجهتها قبلها حكومتا اسحق رابين وشمعون بيريز العماليتان. نتانياهو وظاهرة الفشل ان الاتجاه لدى القيادة السياسية والعسكرية الاسرائيلية الحالية كان يدل بوضوح على رغبتها في الابتعاد عن أساليب الرد العشوائي الانتقامية القائمة على عمليات القصف المدفعي والجوي والبحري الشاملة والمدمرة، مثل عملية "مراجعة الحساب" التي تمت في عهد رابين العام 1993، وبعدها طبعاً عملية "عناقيد الغضب" التي نفذها بيريز في ربيع العام الماضي. فالكثيرون في اسرائيل، وفي مقدمهم نتانياهو نفسه، يعتبرون ان تلك الاساليب لم تحقق اي اهداف تذكر، بل ان فشل "عناقيد الغضب" و "تفاهم نيسان" الذي نتج عنها وأعطى الحرية للمقاومة اللبنانية في تنفيذ عملياتها العسكرية ضد قوات الاحتلال الاسرائيلية والميليشيات المتعاونة معها في الجنوب، كانا من بين العناصر الرئيسية التي أدت الى خسارة بيريز وحزب العمل في الانتخابات الاسرائيلية التي جاءت بنتانياهو وتكتل ليكود الى السلطة. وفي المقابل، بدا الاتجاه واضحاً لدى الحكومة الحالية نحو إعادة احياء نمط قديم ومتميز من الأساليب العسكرية يقوم على مبدأ "العمليات الخاصة". ويعتبر الاسرائيليون ان مثل هذه العمليات، التي طالما اعتمدوها في الماضي ضد الدول العربية والمقاومة الفلسطينية، كفيل بتحقيق الكثير من الأهداف العسكرية والامنية بكلفة مادية وبشرية ضئيلة نسبياً. كما انها تضمن، في حال نجاحها، تسجيل الحد الاقصى المطلوب من الآثار السياسية والنفسية والمعنوية والاعلامية، خصوصاً اذا ما تمكنت من تجنب ايقاع خسائر بين المدنيين. لكن فشل الحكومة الاسرائيلية الحالية في تحقيق اهدافها من خلال اعتماد هذا التوجه الجديد - القديم ضد المقاومة اللبنانية لم يكن اقل من فشل الحكومة العمالية السابقة وأساليبها "التقليدية". وربما كان هذا الفشل ناجماً عن مزيج من سوء الادارة والتخطيط والتنفيذ، وعن خلل في عمل اجهزة الاستخبارات والاستطلاع ونقص في معلوماتها. كما انه لا يمكن استبعاد الفرضية التي ذكرها بعض المصادر الاسرائيلية، والمتمثلة في احتمال وجود "اختراق" لتلك الاجهزة أدى الى كشف خطط القوات الاسرائيلية وتسريبها الى الجانب اللبناني، ما قد يعني ان عناصر الجيش والمقاومة كانت على علم مسبق بموعد عملية الانزال وموقعها. والى جانب كل هذه العوامل، فإنه من غير الممكن ايضاً تجاهل حقيقة تؤرق بال المخططين والقادة العسكريين الاسرائيليين، وتتعلق بقدرة قواتهم المسلحة ومستوى أدائها. كارثة النخبة فهذه ليست المرة الأولى، وفي غضون فترة زمنية قصيرة لا تتعدى اشهراً قليلة، تتعرض فيها قوات اسرائيلية يفترض فيها ان تكون من عناصر النخبة لكارثة من هذا النوع نتيجة مزيج من سوء التخطيط والتنفيذ، وخلل الأداء، وسوء الحظ ايضاً. وكان المثال البارز على ذلك ما حدث قبل اسابيع في منطقة وادي الحجير، حيث تعرضت دورية من لواء "غولاني"، وهو بدوره من ألوية الجيش الاسرائيلي الخاصة، لكمين استدعى تدخل المدفعية الاسرائيلية التي أدت قذائفها الى إشعال حريق هائل في المنطقة التي حوصرت الدورية فيها، ما اسفر عن مقتل خمسة من عناصرها وجرح الآخرين الذين نقلوا الى اسرائيل بواسطة طائرات الهليكوبتر. وقبل هذه الحادثة، وقع الاصطدام في وقت سابق من هذا العام بين طائرتي هليكوبتر كانتا تقلان نحو 70 جندياً من وحدة خاصة اثناء اقلاعهما من منطقة شمالي اسرائيل في طريقهما الى جنوبلبنان لتنفيذ عملية شبيهة بعملية الإنزال الفاشلة الاخيرة، فكانت النتيجة مقتل هؤلاء في أسوأ حادث من نوعه في تاريخ سلاح الجو الاسرائيلي. وأمام هذه النكسات العسكرية المتتالية، لم يعد مستغرباً ان تعلو في اسرائيل اصوات تطالب بالانسحاب من الجنوباللبناني. والمعضلة التي يواجهها نتانياهو حيال هذا الوضع تكمن في صعوبة الاختيار بين ما يمكن عمله من جهة، وما يجدر عمله من جهة ثانية. فاسرائيل، من حيث المبدأ، تفضل التوصل الى اتفاق مع الحكومة اللبنانية، وبضمانة سورية، يكفل لها الانسحاب من الشريط الحدودي في مقابل توفير "الضمانات الأمنية" التي تريدها، والتي تقتضي حكماً وقف عمليات المقاومة ونزع سلاحها وتعهد الجانبين اللبناني والسوري طبعاً بتثبيت الهدوء والأمن في المنطقة. لكن تحقيق ذلك سيعني عملياً فصل المسار اللبناني عن المسار السوري في عملية السلام، والمضي قدماً في توقيع اتفاق لبناني - اسرائيلي بمعزل عن اتفاق سوري - اسرائيلي حول مصير مرتفعات الجولان المحتلة. وهذا الطرح، الذي حمل اسم "لبنان أولاً"، ترفضه طبعاً وبشكل كامل وقطعي، كل من الحكومتين اللبنانية والسورية اللتين تصران في المقابل على ضرورة تنفيذ اسرائيل القرار الدولي الرقم 425 الذي ينص على انسحابها من الجنوب من دون قيد او شرط. وفي الوقت الذي باتت الحكومة الاسرائيلية شبه مقتنعة، ولو ضمنياً، باستحالة تحقيق الفصل الذي تتمناه بين المسارين التفاوضيين اللبناني والسوري، وعدم إمكان التوصل الى صيغة سياسية وامنية مقبولة مع لبنان في شأن الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب قبل التوصل الى اتفاق مع سورية على الانسحاب من الجولان، اصبحت الخيارات المتاحة امامها محصورة إما بالبقاء في المنطقة، مع ما يعنيه ذلك من تعرض مستمر لقوات الاحتلال لعمليات المقاومة والخسائر الناجمة عنها، او باللجوء الى تنفيذ انسحابات شاملة او جزئية من جانب واحد ومن دون اي ترتيبات سياسية او امنية مع الجانب اللبناني. مساواة في الرداءة ولا شك في ان الاسرائيليين يعتبرون ان هذين الخيارين "متساويان في درجة الرداءة"، على حد تعبير احد كبار المعلقين الاسرائيليين. وفي الوقت نفسه، فإنهما يشكلان تعبيراً واضحاً عن الفشل الكامل الذي وصلت اليه سياسة الحكومة الراهنة حيال الوضع في الجنوب. فهي لا تحبذ الاستمرار في التزام بنود "تفاهم نيسان" وتعتبره ارثاً ثقيلاً من مخلفات الحكومة السابقة، لكنها لا تريد التسبب في انهياره لاعتبارات سياسية وأمنية عدة. كما انها لا تجد بداً من الاقرار بعدم جدوى بقاء وجودها العسكري الاحتلالي في الجنوب، لكنها لا تستطيع الموافقة، في المقابل، على الدعوات المنادية بالانسحاب من المنطقة من جانب واحد ومن دون قيد او شرط نظراً الى ما سيشكله ذلك من اعتراف كامل بالهزيمة. وتدرك ايضاً ان لا مجال للتوصل الى اتفاق مع لبنان عن طريق المفاوضات إلا إذا تلازمت هذه الخطوة مع مفاوضات مماثلة مع دمشق. وهكذا بدأت الوزيرة أولبرايت جولتها تحت شعار "الاستكشاف والتعرف على الواقع"، الا انه لم يعد في وسع احد اخفاء عمق الازمة التي تواجهها الوزيرة الاميركية في محاولاتها الرامية الى تحريك المفاوضات على اي من مساراتها. فالمسار اللبناني متلازم مع السوري، وأي محاولة لاخراج حكومة نتانياهو من مأزقها هناك لا بد ان يسبقها اولاً توصل اولبرايت الى صيغة تكفل استئناف المفاوضات مع دمشق. اما المسار الفلسطيني فيواجه بدوره كارثة حقيقية يصر نتانياهو على مفاقمتها من خلال إمعانه في محاولة التملص من اتفاقات اوسلو وملاحقها عشية الذكرى السنوية الرابعة لتوقيعهأ. لقد كان لافتاً ان الجانب الاميركي حرص، في معرض التمهيد لزيارة وزيرة الخارجية، على ادخال نوع من التعديل على لهجته الديبلوماسية التي ميزت مواقفه خلال الاشهر الماضية وتركزت اساساً في التأكيد على التبني الكامل من جانب واشنطن للطروحات الاسرائيلية الحكومية ومواقفها على كل المسارات. فقد تعمد مصدر مسؤول في الخارجية الاميركية اعادة التذكير بأن موقف الادارة لا يزال ينطلق من ضرورة استمرار العملية السياسية على اساس مبدأ "الارض في مقابل السلام" في كلام بدا أكيداً انه يستهدف توجيه "رسالة طمأنة" الى سورية. كما تضمن التذكير بضرورة "التلازم بين الأمن والسياسة" في ما بدا انه كلام مطمئن موجه الى الفلسطينيين. ويزداد الاعتقاد حالياً بأن أولبرايت قد تتمكن في جولتها من إحراز "شيء ما" على المسار السوري يتمثل في احتمال موافقه دمشق على استئناف المفاوضات في مقابل اعلان رئيس الحكومة الاسرائيلية استعداده للتفاوض على الانسحاب الكامل من الجولان، لكن "من دون شروط او ضمانات مسبقة" على حد تعبير مصدر ديبلوماسي اميركي. وقد يؤدي مثل هذا التحرك على المسار السوري الى تخفيف حدة الاحتقان على الحدود مع لبنان، وربما الى صيغة لتوسيع اطار عمل لجنة المراقبة المكلفة الاشراف على "تفاهم نيسان". شروط غير متوافرة لكن ذلك كله سيبقى في اطار "الجزئيات"، حسب وصف ديبلوماسي عربي يتابع جولة اولبرايت، مضيفاً انه "لن يكون ممكناً تحقيق اي شيء ملموس الا اذا تمكنت وزيرة الخارجية الاميركية من انتزاع التزام رسمي وعملي من نتانياهو بأسس عملية السلام والمرجعيات التي قامت عليها. وهذا يعني العودة الى المفاوضات على المسارين السوري واللبناني على أساس مبادلة الارض بالسلام، اي الانسحاب الاسرائيلي الكامل من الجولان والجنوب في مقابل توقيع سلام شامل مع اسرائيل. ويعني ايضاً عودة المفاوضات على المسار الفلسطيني على اساس تنفيذ بنود "اتفاق اوسلو" والانتهاء من تطبيق المراحل الانتقالية، ومن ثم التفاوض على الوضع النهائي للأراضي الفلسطينية بما يضمن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة ووقف الاستيطان والتهويد والاتفاق على مستقبل القدس. اما خارج هذا الاطار، فستظل كل المحاولات والمساعي الجارية حالياً من باب كسب الوقت لا أكثر". ويصل الديبلوماسي العربي الى استنتاج لا ينم عن قدر كبير من الامل او الثقة بامكانات النجاح، اذ يقول: "انا شخصياً لا اعتقد بأن نتانياهو سيكون في وارد الالتزام بأي من هذه المبادئ. كما استبعد ان تكون أولبرايت في وارد بذل اي ضغوط جدية عليه لتحقيق هذا الهدف". ولعل اللافت خصوصاً ان الغالبية العظمى من الديبلوماسيين والمحللين المعنيين بجولة وزيرة الخارجية، وبما في ذلك المحيطون بها، يوافقون على هذا الاستنتاج ويتفقون مع الديبلوماسي العربي على ان نتائجها لن تكون اكثر من كسب الوقت ونزع فتيل الانفجار وتأجيل انهيار العملية السلمية، ومن ثم انتظار ما قد يطرأ لاحقاً على امل توافر الظروف الملائمة لإعادة إحياء هذه العملية جدياً في المستقبل.