أمير تبوك يدشن مشروعات تنموية واستثماريه بالمنطقة    إي اف جي هيرميس تكشف عن صندوق التعليم السعودي (SEF) بقيمة 300 مليون دولار وتستحوذ على محفظة استثمار برايتس للتعليم    وزارة التعليم تلغي ارتباط الرخصة المهنية بالعلاوة السنوية    " طويق " تدعم شموع الأمل ببرامج تدريبية لمقدمي الخدمات لذوي الإعاقة    محافظ محايل يرأس اجتماع لجنة السلامة المرورية    وزير الموارد البشرية: المملكة تقوم بدور ريادي في دعم توجهات مجموعة العشرين حول قضايا العمل والتوظيف    أمير حائل يطلع على مشروع التحول في منظومة حوكمة إدارات ومكاتب التعليم    علوان رئيساً تنفيذيّاً ل«المسرح والفنون الأدائية».. والواصل رئيساً تنفيذيّاً ل«الأدب والنشر والترجمة»    وزير الاتصالات: ولي العهد رفع الطموح والتفاؤل والطاقات الإيجابية وصنع أعظم قصة نجاح في القرن ال21    وزارة الثقافة تحتفي بالأوركسترا اليمنية في مركز الملك فهد الثقافي بالرياض    مؤتمر ومعرض دولي للتمور    أمين عام التحالف الإسلامي يستقبل وزير الدولة لشؤون الدفاع النيجيري    وزير الدفاع يلتقي حاكم ولاية إنديانا الأمريكية    السعودية وعُمان.. أنموذج للتكامل والترابط وعلاقات تاريخية وطيدة    أصول الصناديق الاستثمارية الوقفية ترتفع إلى مليار ريال    مستشفى الحرجة يُفعّل التطعيم ضد الحصبة و الأسبوع الخليجي للسكري    سعود بن طلال يطلق عددا من الكائنات الفطرية في متنزه الأحساء الوطني    أمانة الشرقية تستثمر في الائتمان الكربوني دعما لسلامة المناخ    «الإحصاء»: السمنة بين سكان المملكة 15 سنة فأكثر 23.1%    أمير الشرقية يطلق هوية مشروع برج المياه بالخبر    رينارد يتحدث عن مانشيني ونقاط ضعف المنتخب السعودي    قسطرة قلبية نادرة تنقذ طفلًا يمنيًا بمركز الأمير سلطان بالقصيم    مستشفيات دله تحصد جائزة تقديم خدمات الرعاية الصحية المتكاملة في السعودية 2024    9300 مستفيد من صندوق النفقة خلال 2024    الكتابة على الجدران.. ظاهرة سلبية يدعو المختصون للبحث عن أسبابها وعلاجها    مهرجان وادي السلف يختتم فعالياته بأكثر من 150 ألف زائر    الملتقى البحري السعودي الدولي الثالث ينطلق غدًا    النسخة الصينية من موسوعة "سعوديبيديا" في بكين    سماء غائمة جزئيا تتخللها سحب رعدية بعدد من المناطق    "سلمان للإغاثة" يوزع 1.600 سلة غذائية في إقليم شاري باقرمي بجمهورية تشاد    إحباط 3 محاولات لتهريب 645 ألف حبة محظورة وكميات من «الشبو»    قتل 4 من أسرته وهرب.. الأسباب مجهولة !    أمير الرياض يفتتح اليوم منتدى الرياض الاقتصادي    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    الأخضر يكثف تحضيراته للقاء إندونيسيا في تصفيات المونديال    وزير الإعلام اختتم زيارته لبكين.. السعودية والصين.. شراكة راسخة وتعاون مثمر    كل الحب    البوابة السحرية لتكنولوجيا المستقبل    استقبال 127 مشاركة من 41 دولة.. إغلاق التسجيل في ملتقى" الفيديو آرت" الدولي    محافظ جدة يستقبل قنصل كازاخستان    المملكة ونصرة فلسطين ولبنان    يا ليتني لم أقل لها أفٍ أبداً    موافقة خادم الحرمين على استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    عدوان الاحتلال يواصل حصد الأرواح الفلسطينية    حسابات ال «ثريد»    صبي في ال 14 متهم بإحراق غابات نيوجيرسي    الإجازة ونهايتها بالنسبة للطلاب    قلق في بريطانيا: إرهاق.. صداع.. وإسهال.. أعراض فايروس جديد    أوربارينا يجهز «سكري القصيم» «محلياً وقارياً»    مكالمة السيتي    الخليج يتغلب على أهلي سداب العماني ويتصدّر مجموعته في "آسيوية اليد"    أعاصير تضرب المركب الألماني    الله عليه أخضر عنيد    المكتشفات الحديثة ما بين التصريح الإعلامي والبحث العلمي    «القمة غير العادية».. المسار الوضيء    وزير الدفاع والسفير الصيني لدى المملكة يستعرضان العلاقات الثنائية بين البلدين    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تداعيات وذكريات في حديث غير منشور مع الجواهري : راهقت في الستين وقصيدة "ثورة العشرين" تؤرخ لميلادي
نشر في الحياة يوم 04 - 08 - 1997

حمل محمد مهدي الجواهري سنواته التسعين ذات شتاء إلى لندن، جاعلاً منها احدى محطّات غربته عن العراق التي زادت على العشرين عاماً. فالشاعر اختار المنافي حتى تستمر اقامته في وطن الشعر. وشعر الجواهري هو حياته، فالاثنان لا يفترقان. أما حياته فأغنى من أن يختصرها الكلام، مع أنّه أسهب في كتابة المذكّرات. لذا لم تغامر "الوسط"، حين قابلت الجواهري ذلك الشتاء، في استنطاق سيرته واستعادة ما نشر وقيل في أماكن ومناسبات عديدة، بل تجوّلت مع الشاعر الذي جايل القرن في أماكن عزيزة، وزارت رجالاً عاصرهم واستعادت محطّات ومواعيد وقصائد. فكانت النتيجة حديث عفو الخاطر، على شكل تداعيات. وهنا نصّ الحديث الذي لم ينشر قبل اليوم:
في كل حياتي الأدبية، أنا مدين للعراق قبل كل شيء.
مدين اولاً للنجف التي ولدت فيها وترعرعت وعرفت وتعرفت، لا أدري أضحك أم أحزن بعد حوالي قرن من الزمان، حين أذكر مشهد شيوخ الأدب والشعر والمجالس الساهرة حتى الصباح أمام سماور الشاي وأقداح القهوة. وعندما أقول قرناً فربما زيادة، ربما أكثر من قرن، لأن الشيوخ الذين أتحدث عنهم كانوا يعيشون منذ منتصف القرن الماضي التاسع عشر. مدين للنجف، في الواقع، قبل بغداد. وبغداد أكملت كل شيء.
نقلت إلى بغداد التراث الذي حصّلته أو الذي كوّن حياتي الأدبية. إنها الفترة التي كوّنتني، فترة أحار كيف أعبر عنها: تلك الوجوه الأدبية الشاخصة البارزة في العراق. وحتى في بغداد موجود صداها: السيد جعفر الحلّي من الحلة، لكن ديوانه في يد الناس كلهم. الشيخ جواد الشبيبي الذي كان يدعى بلبل الفرات. ووالدي أيضاً كان من الشخصيات البارزة في النجف، بل في العراق أيضاً. وله ديوان شعر صغير غير مطبوع، فقد تفرغ للإجتهاد ومجالس الفقه والتشريع، إلى أن اختطفته المنون في عمر الكهولة.
نقلت ما حصلت من مجالس هؤلاء، وما تفتحت عليه من أحاسيسهم ومن أشعارهم الرقيقة والبليغة. وشيخهم كان السيد محمد سعيد الحبوبي الذي اتغنى ويتغنى العراق معي بشعره:
"يا غزال الكرخ واوجدي عليك
كاد سرّي فيك أن ينهتكا"
وهو أحيا الموشحات الأندلسية بأرق مما كانت عليه، وله في هذا المجال:
"هزّت الزوراء أعطاف الصفا
وسقت لي رغدة العيش الهني
فارع من عهدك ما قد سلفا
وأعدْ يا فتنة المفتتن
فلماك العذب أحلى مرشفا
من دم الكرم وماء المزن"
وللمناسبة كل الأئمة المعروفين عند الشيعة تخرجوا من النجف، فمن لم يتخرج من النجف لا يمكن أن يبلغ الاجتهاد. هذه هي القاعدة عندهم. وأكثر من ذلك، وليس من باب التبجح، كتب العلامة الدكتور عبدالرزاق السنهوري عندما جاء ليضع قانون الأحوال الشخصية في العراق قال: "لم يعنّي كتابٌ مثلما أعانني كتاب الشيخ "صاحب الجواهر"" وهو يقصد جدّي. الحديث عن النجف يطول، وقد نقلت جوّها إلى بغداد، وكنت معروفاً في العاصمة قبل وصولي إليها. كان لي اسم في بغداد وذكرٌ نابه، فحين كنت في النجف كانت صحفها تأتي إلينا حاملة مقاطع أولى من قصائدي، وقسم منها في الصفحة الأولى وداخل إطار. وحتى الآن أذكر صحيفة أو صحيفتين أوردتا قصائدي، تحت عنوان "نابغة النجف".
جئت إلى بغداد عام 1925 وكنت في الثانية والعشرين أو الثالثة والعشرين من العمر بحسب تاريخ الميلاد الذي أعرفه. أنا من الشعراء النوادر الذين يُجادل في تاريخ ميلادهم. أقول إنني ولدت عام 1903، ويقولون إنني من مواليد العام 1900 أو قبله بسنة. وأخاطب الدارسين: لماذا تأكلون من عمري سنين فأنا أحب الحياة فلا تقصروا طريقي أكثر. كثيرون يجادلونني في عمري، والجدل موجود في مقدمة الديوان، بيني وبين الدكتور علي جواد الطاهر.
"ثورة العشرين"
وسبقتني إلى بغداد أيضاً قصيدتي الشهيرة عن ثورة العشرين، ضد الاحتلال الانكليزي. هذه القصيدة تؤرخ لميلادي أيضاً. قلتها وعمري 17 عاماً، إذا اعتبرنا أنّني ولدت سنة 1903، وهناك من يعتبر أنني قلتها في العشرين. طيب: "عشرون عاماً". ولكن، إلى الآن، قصيدتي في ثورة العشرين تكاد تضيع بين أشعاري. هبة من الهبات كانت بصورة خاصة، لا يتصور الانسان أن قائلها في هذا السن، غيرها ليس في مستواها. هذا النفس الناضج تمكّنت منه لاحقاً، في الثلاثينات.
المهمّ أن القصيدة وحدها كانت أحدثت ضجة في بغداد. حتى أن الشيخ الإمام الخالصي الذي كان مرجعاً في العراق - ولا أريد أن أقول مرجع السنة والشيعة لأنني أكره الطائفية - بعدما أطّلع على قصيدتي في "ثورة العشرين"، أراد أن يهدي لي مبلغاً من المال. فقلت: لا، أنا أطلب موسوعة محمد فريد وجدي. والحقيقة أنه فتش عن الموسوعة ولم يجدها فأعطاني مبلغاً مقابلها حتى اشتريها. وكان الشيخ الخالصي مثير الثورة ضد الانكليز، ثم نفته السلطة الانكليزيّة إلى أن توفي غريباً.
وصلت إلى بغداد، وأول ما واجهت، مع الأسف، الفتنة الطائفية. لا أريد أن أتحدث كثيراً في هذا الموضوع. صرت سبباً لما يشبه فتنة طائفية في العراق كله. قلت رب ضارة نافعة، فالجدل الطائفي قفز بي إلى ما لم أكن أحلم به، إلى أن أكون من حاشية الملك، فيصل العظيم الأول، الذي كان ملكاً على سورية، وعلى لبنان أيضاً، والفرنسيون أخرجوه. هذه القفزة أدت بي إلى أن اتلبّس شخصية جديدة، أعطتني دفعة في الحياة.
تعرفت من غير الوجوه الأدبية والصحافية وهي كثيرة إلى ملك عظيم، "ملك عربي". ففي السعودية اتى بعد ذلك التاريخ الملك عبدالعزيز آل سعود، وفي المغرب كان الفرنسيون، وفي القاهرة كانت هناك عائلة ملكية من غير العرب، عائلة محترمة طبعاً، لكنهم خديويون من ألبانيا. البلد العربي الوحيد آنذاك الذي كان محسوداً هو العراق، حتى الاستقلال ودخول عصبة الأمم كان العراق سبق العرب في تحقيقهما.
وفي بغداد كان المعهد والملعب، وهما متشابكان في حياتي حتى في التسعين. فحب الحياة عندي لا ينفصل عن حبّ الاطلاع والافادة من كل لذّات الدنيا. والملعب، كان أوله في الواقع عندي في بغداد. كنت خارجاً من النجف المتزمتة، من المعهد الديني الخالص والحصار المضروب فيه على الكلمة، نسبياً، فهناك حصار على الكلمة في بغداد ايضاً. وعندما تحضر من النجف إلى بغداد في تلك الايام، فكأنك تحضر من بغداد إلى باريس في أيامنا الحاضرة.
الملعب والمعهد عندي واحد. ومن جهة الملعب كملعب، هناك لقطات حلوة.
أبعد من "عريانة" الرصّافي
أول ثورة أثرت فيها العراق كملعب، كانت ثورة لا يصدق الانسان كيف يسلم صاحبها. تخيل العراق قبل سبعين عاماً: كان أكثر الناس في المقاهي يحملون الخناجر، لأن التشاجر شيء محتم، فالخناجر حاضرة والمسدسات أيضاً. وأنا في هذا الجو أنشر قصيدة "جربيني". تقدر أن تتصور الهوة الواسعة، وأنا في القصر الملكي، مقرباً من الملك فيصل رحمه الله، مع أنّه غضب عليَّ بعد ذلك وأنا غضبت عليه، بصريح العبارة، إنها ظروف الحياة.
غضب الملك فيصل عليَّ وأنا انتقمت منه شعراً. لقد آذاني عن طريق الحب: "صحيح تماماً أنك غضبت، لكن لا تسدَّ عليَّ أبواب الحياة". لقد منعني من الوظائف، وأدخلني القائمة السوداء، حباً، لكنه حب تجاوز الحدود. يعني لأنني عصيت أمره، خرجت من القصر من غير إرادته، قدمت استقالتي وهو لا يريد ان أخرج. إنّها قصة طويلة.
نشرت قصيدة "جربيني" وأنا لم أدخل أي ملعب في الحياة عملياً ومباشرة. لم أكن شربت حتى سيجارة، وما أدري إذا كنت جربت المرأة أم لا. أظنني جربتها لأول مرة في النجف، أقول "ذقت المرأة" يعني كأنني لم أذقها. ولكن، الذي يقرأ "جربيني" مستحيل أن يتصور إلا أنني صنو الليالي، مثلما يقولون، ورفيق السمر والغزل واللهو واللعب. فالقصيدة عنوانها يكفي. وهي أثارت ضجة كبرى واستدعاني الملك فيصل الأول، فحاولت أن أوفر عليه فاستقيل ولا أكلفه فقال لي: "لا، لا، ترجع إلى مكانك إنما أخي الملك علي زعلان".
وبعد ضجة "جربيني" رأيت أنني لا أقدر: إما الوظيفة، هذه الوظيفة بالذات ذات المراسيم والبروتوكولات والمسؤوليات، وإما الشعر. قلت: والله، أختار الشعر. فبعد تلك القصيدة مُنعت من النشر تقريباً. قال لي الملك فيصل الأول: "طيب يا ابني، بس يا محمد". قلت له في نفسي "لا والله... مو بسّ". لا أعرف الپ"بس" في الشعر. فحزمت حقيبتي وقدمت استقالتي، ونشرت ما هو أفظع منها "ليلة من ليالي الشباب". هذا الملعب الفعلي كان.
وأحدثت القصيدة ما أحدثت من الضجة. وأتعجب من جرأتي في ذلك الوقت، لأنني، إلى الآن أتذكر أن المرحوم معروف الرصافي وهو من الجيل السابق عليّ في الواقع - وأنا من المعجبين بشعره اذ كنت وأنا مراهق أفتش في الجرائد العربية القادمة من الآستانة في العهد العثماني عن قطعة للرصافي - كان عنده قصيدة عنوانها "عريانة" يتداولها الناس خطياً، ولا يجرؤ على نشرها. ترجمت أنا تلك الجرأة على أرض الواقع. إن نشر "جربيني" و"ليلة من ليالي الشباب" كان أمراً فظيعاً في ذلك الزمان. وهو ما أثار حفيظة المعمّمين ضدي. ثم تابعت نهجي فكتبت قصيدة "أفروديت".
"أفروديت" استلهمتها عن رواية "أفروديت" لبيار لويس المترجمة إلى العربية. والقصيدة أثارت ضجة أكثر من القصيدتين السابقتين. تصور: كيف نشرت مثل هذه القصيدة وسلمت. أنا الوحيد الذي فتح هذا الباب الجريء في الشعر. المفروض أن يقتل مثلي حينئذ، أن يهجموا عليه بالخناجر. ولكنني كنت اشعّ على الناس، يشعّ ضميري على الناس: مخلوق جديد بريء. لم تكن عندي ملاهٍ فعلية، وأقول في ذكرياتي وفي غيرها: "راهقت وأنا في الستين". راهقت اثناء إقامتي في براغ في الواقع، هناك عرفت ما هي الحياة بكل معانيها.
وكشاب لامع في ذلك الوقت كنتُ أدعى لحضور غناء المقامات العراقية. وكثير منها كان خلال المناسبات الاجتماعيّة، من ختان الأولاد أو احتفالات الزواج... كلّ حفلة في بيتي كانت أكثر من ليلة ساهرة، وفي منطقة الكرخ المحافظة المتزمتة، كان يأتي حضيري أبو عزيز وزهور حسين المغنية الجميلة جدّاً، وبعد ذلك ناظم الغزالي... كان ناظم صاحبي وهو مراهق. أنا أكبر منه، وقبل أن يظهر اسمه كان يأخذني إلى بيته، أو يأتي إلى بيتنا يغني. وهناك أيضاً سليمة باشا التي قلت فيها قصيدة.
قدّمنا يهود العراق هديّة!
الحق يقال وللتاريخ، أن شيوخ المقامات في العراق كانوا من اليهود العراقيين، والآن هم هناك!! وإلى الآن إذاعة اسرائيل تذيع مقامات شيوخ المقامات العراقيين. قصة طويلة. كيف اعطيناهم إلى اسرائيل؟ فضيحة كبرى، كيف قدّمناهم؟ الآن يتكلمون عن الاستيطان؟ قبل 40 أو 45 سنة، أتوا من العراق، وبمؤامرة كبرى سُتر عليها بملايين الدولارات. فاشتُريت الصحف واشتُريت الرؤوس وجرى تسفير 30 أو 40 ألف شاب ورجل أعمال ومثقف من يهود العراق إلى اسرائيل. قدموهم هدية. أثناء "المعمعة" عرض علي يهودي عراقي أن يسجل لي ملكية بيته على دجلة، لكنني رفضت. كما رفضت أيضاً أن أشتري من منهوبات منازلهم التي استبيحت.
ومن هؤلاء كان شيوخ المقامات، ويكذب من يقول لك، فلان وفلان. حتى محمد القبنجي أو غيره أخذوا عنهم. ومجال المقامات كنت اهتم به بطبيعة الحال، فالشعر والموسيقى لا يتجزآن، هذه المسألة مفروغ منها.
بغداد كانت ملعبي، ومعهدي أيضاً. هناك الوجوه التي أثرت عليّ وفي مقدمها الملك فيصل الأول. فترة في حياتي أليمة وفي عين الوقت حافزة. قلت قصائد ذاعت وانتشرت، وبعد ثلاث سنوات وضع اسمي في القائمة السوداء. عند الملك فيصل، كنت في شبه مدرسة، فكل وجه عراقي بارز كنت أنا الذي أُدخله على الملك. عندي شريكان في مراسيم التشريفات، لكن الملك فيصل لم يكن يستدعي أياً منهما. ناصرالدين الكيلاني شقيق رشيد عالي الكيلاني وشخص آخر من الكاظمية، عملا معي في التشريفات لكنني كنت، من دونهما، أدخل على الملك.
الملك فيصل اكتشفني قبل الآخرين، وفتح أمامي الطريق. تلك الفترة أثرت في حياتي وتؤثر حتى يومي هذا، إذ رأيت كل وجوه العراق، ممن بقي ذكره وأثر في حياتي العملية ومعارفي. كان هناك نوري السعيد ربيب العائلة المالكة والرجل الرهيب أيضاً، وياسين باشا الهاشمي، وكان السيد محمد الصدر الذي أدخلني على الملك فيصل. لأول مرة دخلت على الملك فيصل الأول وراء السيد محمد الصدر، وأصله البعيد من لبنان.
علاقتي مع نوري السعيد مزيج من محبة وخصومة… إلى ان انتحر نوري السعيد كما ينتحر البطل. كان يحمل مسدسين، وهذا كلام مهم لأن هناك مزورين للتاريخ، ويوم أتوا بجثته كنت موجوداً عند عبدالكريم قاسم كان يحمل مسدسين، فربما يخيب واحد فيضرب بالثاني. نجح الأول فلم يحتج إلى الثاني، ووجد المسدس الثاني في جيبه. قيل يومها إنه قبض عليه متنكراً في ثياب امرأة أو ما شابه. لكن التخفي غير معيب. ولو سلم نوري السعيد لما عاش عبدالكريم قاسم ليلة واحدة. وهذا التخفي لا ينقص من قيمة الشخص. كان نوري السعيد هو الشخص الأول والرهيب.
اثنان كانا رهيبين في العراق وليس منهما فيصل الأول الذي كان عظيماً وهو في الواقع أرقى مما كان يحدث في العراق. وكانت أعباء المتنافسين على المناصب في العراق تلقى على كتفه حتى مات، والملك فيصل مات بالسكتة القلبية في سويسرا كما هو معروف. والمنافسات عجلت في موته. الاثنان الرهيبان بقيا من بعده، وهم الأمير عبدالاله ونوري السعيد. كلّ منهما كان يخاف الآخر. ما وجدتُ نوري السعيد يخاف أحداً إلا الأمير عبدالاله. غضب نوري السعيد مرة ورحل إلى لندن، فذهب الأمير عبدالاله إليه بنفسه وأحضره ليؤلف الوزارة ويحلّ البرلمان.
لست هنا في معرض مدح العهد الملكي في العراق، إذ كنت من أشد خصومه. يشهد على ذلك ديواني والاعتقالات الكثيرة التي تعرضت لها، وقد دخلت السجن لأول مرة في العهد الملكي. ولكن، للتاريخ، كان الأمير عبدالاله ونوري السعيد يتنافسان على اخراج عراق جديد للعالم العربي، حضاري بكل معنى الكلمة. نوري السعيد قتل نفسه، والأمير عبدالاله سحل سحلاً. صحيح انهما كانا يعتقدان بالغرب، والآن، الشرق كله يريد أن يلتحق بالغرب.
وهناك أيضاً بين الوجوه البارزة ياسين باشا الهاشمي، أحبني فرشحني للنيابة وأنا في الثلاثينات. ورستم حيدر أيضاً من الشخصيات المهمة في العراق، وهو لبناني من مدينة بعلبك. ولا بدّ أيضاً من ذكر جعفر باشا العسكري الذي قتله بكر صدقي غدراً، ورستم حيدر العظيم قتل أيضاً برصاص الغدر والخيانة والطائفية القذرة.
هذا تاريخ العراق مع الأسف وليس تاريخ الرجال. هؤلاء الرجال كانوا هم العراق الحضاري المطلوب، المعتقد بسياسة الغرب بقدر ما يستطيع. نوري السعيد كانت السفارة البريطانية تتملقه، وليس هو من يتملقها. يتملق السفارة من يريد الحكم، والحكم في العراق لم يكن ليستقيم من دون نوري السعيد. حتى وهو في بيته لا تستقيم وزارة اذا لم تحظ برضاه واذا ضمّت وزراء لا يرغب في توزيرهم. فلماذا يتملق السفارة؟
يتملق السفارة من يريد المال، ونوري السعيد مدين وهل تعلم؟ زوجة نوري السعيد السيدة أم صباح، ويا لسعادة الذي يصل إلى باب بيتها لكي تقضي حاجته، في لندن، هنا، ماتت أم صباح عمياء وكان يصرف عليها عبدالهادي الشلبي، يعطيها راتباً شهرياً لتعيش. زوجة نوري السعيد الرهيب الذي كان مديناً وزوجته لا تملك شيئاً.
نوري السعيد، في الواقع، أرادني أن أكون أكثر من وزير. وهناك من يقول إنني كنت من الشباب المرشح لرئاسة الوزارة. عبدالوهاب مرجان ألف الوزارة وهو في المقهى معي، والدكتور فاضل الجمالي الذي أدخلته على الملك فيصل ألّف خمس وزارات، فليس غريباً أن أقول ما أقوله، والشخص الذي كنت آنف أن أجلس معه صار وزيراً.
رشحني نوري السعيد للنيابة ولم أبلغ الثلاثين. فطلب أن يصحح تاريخ ميلادي بواسطة المحكمة. وقد خرّبت هذا الأمر في جريدة "الفرات" في مقال واحد. فصدر أمر باقفال الجريدة، ووضع اسمي في القائمة السوداء غضباً عليَّ من الملك فيصل. وفي سنة 1936، رشحني ياسين الهاشمي للبرلمان، فحدث انقلاب بكر صدقي يوم الانتخابات لسوء الحظ.
المعتقل المدلل
ياسين باشا الهاشمي، رحمه الله، كنت من أشد خصومه، وفي ديواني قصيدة ضده لا تطاق، أغلقت الجريدة التي نشرتها لمدة سنة، وأُحلنا صاحبها وأنا إلى المحاكمة… مع هذا إلتقيت الهاشمي مرّة، فسلّمت احتراماً، فقال: أريد أن تزورني. وحين زرته قال لي: لو تعلم كم كانت ستكلّفك قصيدتك، قلت: يريدون نفيي… تصورت أن ياسين الهاشمي يريد أن يشتمني. لكنه قال لي: ماذا تريد الآن؟ قلت: أريد أن أرسل في بعثة، أي ملحق في احدى السفارات العراقية في الخارج. قال: لا، نريدك في المجلس النيابي. لم أصدق. رجل قلت فيه قصيدتي القاسية ويريدني نائباً! ويوم الانتخابات حدث انقلاب بكر صدقي "في راسي" وطارت النيابة.
وحين ألقيت قصيدتي المعروفة في هشام الوتري، كان الوضع فظيعاً: محاكم عسكرية رهيبة، مشانق أربع في أطراف بغداد. الأب لا يتكلم مع ابنه في الشارع بسبب الخوف. وأنا "روحي طاقّة"، أريد أن أنتحر. صارت حفلة الدكتور هشام الوتري، القيت قصيدة، يكفي انني قلت فيها :
"أنا حتفكم ألج البيوت عليكم
أغري الوليد بشتمكم والحاجبا"
كلهم كانوا حاضرين، بمن فيهم مندوب البلاط رئيس الديوان احمد مختار بابان. القصة طويلة. أوقفت شهراً وكان رئيس الوزراء آنذاك نوري السعيد. كنت موقوفاً مدللاً، حتى انهم احضروا لي مروحة وسمحوا لي بالزيارات.
حاكم التحقيق كان شخصاً جيداً يحفظ شعري واسمه وليد الأعظمي. وكنت موقوفاً عجيباً. قال الناس إنني سأحكم بالسجن سبع سنوات في تلك الأحكام العرفية، فغيري حكم بمثل هذه المدة لذنب أخف من ذنبي. وإذا أنا أحكم بشهر واحد وليلة العيد قالوا: يغادر غرفة التوقيف ولا يجوز أن يبقى… حدث ذلك في حكم نوري السعيد.
حاكم التحقيق المذكور، وربما بايعاز من نوري السعيد كان يتصل بي وأنا في غرفة التوقيف، وقال لي: هيا بنا معاً نزر نوري السعيد. كيف يدعوني، أنا الموقوف إلى الزيارة إن لم يكن ذلك بايعاز من نوري السعيد؟ قال حاكم التحقيق: نروح ساعة نزور نوري السعيد وينتهي كل شيء. قلت: والله ما نروح، أنا ضيفك فهل تعبت مني؟
العدد المقبل : حلقة ثانية
جرّبيني
مقاطع
جرّبيني منْ قبلِ أن تزدريني
وإذا ما ذممتِني فاهجرِيني
ويقيناً ستندمينَ على أنكِ
من قبلُ كنتِ لمْ تعرفيني
لا تقيسي على ملامحِ وجهي
وتقاطعيهِ جميعَ شؤوني
أنا لي في الحياةِ طبعٌ رقيقٌ
يتنافى ولون وجهي الحزين.
...
إبسمي لي تَبْسمْ حياتي، وإنْ
كانتْ حياةً مليئة بالشُّجون
أنصِفيني تُكفِّري عن ذُنوبِ
الناسِ طُرّاً فإنهمْ ظلموني
إعطِفي ساعةً على شاعرٍ حُر
رقيقٍ يعيشُ عيشَ السجين
اخذتني الهموم إلاّ قليلاً
أدركيني ومن يديها خذيني
ساعةً ثم أنطوي عنكِ
محمولاً بكُرهٍ لظُلمةٍ وسكون
حيث لا رونقُ الصباح يُحيِّيني
ولا الفجرُ باسماً يُغريني
حيثُ لا "دجلةٌ" تلاعبُ جنبيها
ظِلالُ النخيلِ والزّيتون
حيثُ صَحبي لا يملِكونَ
مُواساتي بشيءٍ إلاّ بأنْ يبكوني
نشرت في جريدة "العراق"، سنة 1929
الثورة العراقية مقاطع
لعلَّ الذي ولَّى من الدَّهرِ راجعُ
فلا عَيشَ إنْ لم تَبقَ إلاّ المطامعُ
غرورٌ يُمنينا الحياةَ: وصَفْوُها
سرابٌ وجناتُ الأماني بلاقعُ
نُسَرّ بزهوٍ من حياةٍ كذوبةٍ
كما افترّ عن ثغرِ المحبِّ مخادعُ
هو الدهرُ قارِعْهُ يصاحبكَ صَفْوُهُ
فما صاحَبَ الأيامَ إلاّ المُقارعُ
إلامَ التَّواني في الحياةِ وقد قضى
على المتواني الموت هذا التنازُعُ
ألم ترَ أن الدهر صنفانِ أهلُهُ
أخو بِطنةٍ ممَّا يُعَدُّ وجائعُ
إذا أنتَ لم تأكلْ أُكلتَ، وذلّةُ
عليكَ بأنْ تُنسى وغيرُك شائعُ
تُحدِّثُ أوضاع العراقِ بنهضةٍ
تُردّدُها أسواقُه والشوارعُ
وصرخةُ أغيارٍ لإنهاضِ شعبِهمْ
وإنعاشهِ تستكُّ منها المسامعُ
...
وقد خبَّروني أنَّ في الشّرقِ وحدةً
كنائُسهُ تدعو فتبكي الجوامعُ
وقد خبَّروني أنَّ للعُرْبِ نهضةً
بشائرُ قد لاحتْ لها وطلائعُ
وقد خبَّروني أنّ مصرَ بعزمِها
تُناضلُ عن حقّ لها وتدافعُ
وقد خبروني أنّ في الهند جذوةً
تُهاب إذا لم يمنع الشرّ مانعُ
هبوا أنَّ هذا الشرقَ كانَ وديعةً
"فلا بدَّ يوماً أن تُردَّ الودائع"
نظمت سنة 1921، في أعقاب ثورة العشرين العراقية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.