يواظب حسين القهواجي، منذ عقد تقريباً، على اصدار كتاب كل عام على نفقته الخاصة، متحدياً بذلك المصاعب المادية التي يعاني منها بشكل ساحق. وقد استطاع هذا الشاعر العصامي، من خلال ما نشره، أن يحتلّ مكانة أساسية في المشهد الشعري التونسي. وهو يثبت عقب كل كتاب أنه يمتلك اطلاعاً واسعاً على التراث الشعري العربي والعالمي. وقبل عامين، طرق القهواجي باب الرواية مع "باب الجلادين"، محاولاً رسم صورة لماضي مدينة القيروان وحاضرها عبر نصوص قديمة، وذكريات وخواطر واحداث تاريخية وشخصية. ولعلّ الأديب الذي ينتمي إلى القيروان جسداً وروحاً بالغ شيئاً ما في اعتبار "باب الجلادين" على اسم أحد أشهر أبواب المدينة العريقة "سيرة ذاتية". وها هو القهواجي يعاود الكرّة في "حومة الباي" المطبعة العربية، تونس، مقدماً لنا مزيداً من الذكريات والخواطر والاحداث التي عاشتها القيروان ماضياً وحاضراً، أو عاشها هو شخصياً. و"حومة الباي" من أحياء القيروان القديمة، فيها ولد الكاتب وسط عائلة فقيرة. ونحن نفتن بالفصل الأول وعنوانه "أفران الحطب"، حيث وسرعان ما ينتقل بنا الكاتب، من دون تبرير منطقي، إلى حوادث عاشتها القيروان في مراحل مختلفة. فها هو يحدثنا عن سنة 1937 التي عرفت خلالها المدينة قحطاً مريعاً جعل الناس أشبه ب "قطيع سائم على وجهه، اشتبهت عليه الفصول، واستوت عنده الاوقات، واختلطت الاشهر الهجرية بالتقويم الميلادي، لا يعلم في أي البروج نزلت الشمس، ولا يدري متى ينتهي طول النهار، أو متى يأخذ الليل بالزيادة". ثم يروي لنا بعد ذلك قصة مسعود وهو سمسار دهري من سماسرة الحرب المكلفين بقسم الأكفان في جمعية الاوقاف. بعدها يرسم لنا صورة عن القيروان خلال الحرب العالمية الثانية، وعن القصف البشع الذي أنزلته بها قوات الحلفاء انتقاماً من أهلها الذين تناهى إليها أنّهم سايروا قوات المحور، وناصروا جيش الفوهرر. ثم يأخذنا في رحلة قصيرة إلى الحي الاوروبي في مدينة القيروان تحت الاحتلال الفرنسي، قبل أن يتناول بالتفصيل قصة مقتل قسيس فرانسيسكاني. ولا يعود إلى سيرته الذاتية إلا في الفصل الأخير من الكتاب، حيث يحدثنا عن أمه التي توفيت قبل ما يزيد على العامين بالشاعرية الفياضة نفسها التي تحدث بها عن أبيه في الفصل الاول من الكتاب. هل "حومة الباي" سيرة روائية فعلاً؟ كل ما يمكن قوله إنها، مثل "باب الجلادين"، رواية طريفة بديعة اللغة والأسلوب، ثرية بالمعلومات التاريخية... غير أن القهواجي اخطأ المرمى مرة أخرى.