إن كيم يونغ ايل ملك من صنف آخر. لقد ورث الحكم عن والده كيم ايل سونغ في جمهورية شيوعية شعبية وديموقراطية! إنه الفرع الأول والمؤسس للسلالة الجديدة التي ترغب في حكم البلاد طيلة ألف عام. ولأنه وضع أمام امتحان كبير للحفاظ على تلك السلالة الناشئة، فهو لن يتورع عن ارتكاب أية حماقة من أجل ذلك. هذا ملخص تقارير ديبلوماسية كثيرة تلقتها واشنطن من عواصم في الحوض الباسيفيكي غداة موت الأب كيم ايل سونغ في أوائل العام 1995. وفي أحد السيناريوهات الخمسة التي رسمها وزير الدفاع الاميركي السابق كاسبار واينبرغر وبيتر شوابرز، الباحث في "معهد هوفر" في كتابهما الجديد "الحرب المقبلة"، يجد العالم نفسه يوم 8 نيسان ابريل 1998 مذهولاً وهو يطّلع على أخبار الهجوم الكوري الشمالي على كوريا الجنوبية. يبدأ الاجتياح باجتماع بين الكوري كيم يونغ ايل والجنرال الصيني هو شينه في منزل كيم الخاص على جبل جامو في الزاوية الشمالية الغربية لشبه الجزيرة الكورية. كان كيم الذي أصبحت بلاده تعاني من مصاعب اقتصادية داخلية ومجاعة يخطط لغزو الشطر الجنوبي وتحقيق النصر الذي راود والده طويلاً ثم مات من دون تحقيقه. أما الجنرال الصيني هو شينه فقد كان يرغب في بسط السيادة الصينية على شبه الجزيرة وفي المنطقة المحيطة بها من خلال التحكم في أزمة الغذاء في الشمال ومصير الحرب ضد الجنوب. ويقرر الاثنان العمل سوية لأن القوة تكمن في الوحدة. وبعد أسبوع من ذلك الاجتماع يصل رجال من الوحدة 124 من الجيش الكوري تحت جنح الظلام الى معسكر كاسي ويطلقون السلاح الكيماوي المعروف بداء الجمرة "الأنتراكس" في الهواء. وفي غضون ساعات قليلة يتعرض آلاف الجنود الاميركيين المرابطين على الحدود بين الكوريتين الى الموت والهلاك. في القوم التالي تنقض قوات الجيش الكوري الشمالي عبر المنطقة المنزوعة السلاح. وخلال ذلك يرسل الجنرال الصيني هو شينه الأسطول الصيني الى مياه مضيق تايوان في محاولة لتحرير الجزيرة. ويصدر الرئيسي الاميركي "مايكل سان جون" - يتابع السيناريو - أوامر صارمة للأدميرال جون ساندرز قائد المحيط الهادي بمنع قوات كوريا الشمالية من دفع الفرقة الثانية الى داخل البحر ومنع حصول انتصار صيني في غرب المحيط الهادي. وتبدأ اميركا التعبئة من أجل الحرب. وفي الاجواء الكورية يشتبك الطيارون الاميركيون في حرب جوية شرسة مع طائرات الميغ الكورية، وتتحرك حاملتا طائرات أميركيتان الى مضيق تايوان لمواجهة المقاتلات الصينية، لكن الادميرال ساندرز يواجه معضلة عويصة. فالقوات منتشرة بشكل كبير لدرجة لا تستطيع معها توفير دفاع ملائم عن تايوان وشن حرب هجومية على شبه الجزيرة الكورية، واذا ما جرت الأمور بشكل جيد في الحرب الجوية فقد تلجأ كوريا الشمالية الى الأسلحة النووية لتحقيق النصر. وفي 19 نيسان ابريل تتحقق مخاوفه عندما يحدث صاروخ كوري شمالي من نوع "أم 11" انفجاراً نووياً خارج تايغو في كوريا الجنوبية ويؤدي الى مقتل الاف من الفرقة 82 المحمولة جواً والفرقة الثالثة من مشاة البحرية والفرقة 25 من المشاة. ولأن الجنود الاميركيين لا يمتلكون نظام دفاع صاروخي حقيقي، يصدر الرئيس الاميركي الأوامر بشن ضربة نووية مضادة وتطلق طائرة من نوع "بي 52" صاروخاً على وسط كوريا الشمالية...". هكذا، يعتقد الاميركيون بأن كوريا الشمالية، وهي آخر دولة ستالينية في العالم، تحتوي على الكثير من عناصر الاثارة التي تغري بالذهاب الى "الجحيم". ولأنها تقع في قلب المثلث الاستراتيجي الكبير الذي يقوم على أضلاع واشنطن - طوكيو - بكين، فإن كوريا ستظل النقطة الأكبر حساسية في علاقات ذلك المثلث والتي يغري فيها السلاح - ملايين الجوعى بالتقدم نحو المغامرة. فالمجاعة والسلام اذا اجتمعا فإنهما قد يصنعان كارثة من النوع الذي يصعب تخيله. ذلك ان شعباً مسلحاً حين يجوع يتجه مباشرة الى الغزو. وهذه الثقافة القديمة هي التي تغذيها حكومة بيونغ يانغ لدى شعبها. فحتى لو ان المجاعة التي يتحدث عنها الجميع هي مجرد دعاية حكومية تبنتها بعض الدول والمنظمات الانسانية، لم تؤد الى حرب أو غزو للشطر الجنوبي، فإنها استطاعت ان تفرض نفسها كسياسة ابتزاز ناجحة حتى الآن. ولا شك ان هذه "الصراحة" المفاجئة للكوريين لا تخلو من خلفية سياسية. فجمهورية كوريا الشعبية تسعى الى الضغط على الولاياتالمتحدة للحصول على المزيد من المساعدات الغذائية. وكانت قد أجلت مرتين اجتماعاً مع الاميركيين والكوريين الجنوبيين حول شروط بدء المفاوضات الرباعية بمشاركة الصين، التي اقترحتها واشنطن بهدف وضع اطار جيد للأمن في شبه الجزيرة ليحل محل اتفاق الهدنة المعقود العام 1953. وكانت لقاءات مماثلة عقدت خلال السنة الماضية لوضع حد لما عرف بالتهديد النووي لكوريا الجنوبية. وعلى اثر الاعتذار الذي قدمته بيونغ يانغ بعد دخول احدى غواصاتها المياه الاقليمية لكوريا الجنوبية بقصد التجسس في منتصف العام الماضي، رفعت واشنطن جزءاً من الحظر على جمهورية كوريا الديموقراطية ووافقت على تزويدها 500 ألف طن من الحبوب. لكن الكوريين الشماليين يريدون شروط دفع أفضل وربما طمعوا في ان تكون هذه الشحنة مجانية، غير ان المنظمات الانسانية الدولية وكذلك جيران كوريا الديموقراطية كوريا الجنوبيةوالصين يعطون تقييمات مختلفة للوضع الغذائي المتدهور في كوريا الشمالية. ففي سيول هناك من يرى جمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية تستطيع ضمان توزيع "طبيعي" للغذاء أي بما يفوق عتبة المجاعة حتى نهاية العام الحالي. أما بالنسبة الى الصين التي أعلنت عن ارسال 500 ألف طن من المواد الغذائية الى كوريا الشمالية فإن الوضع الغذائي لجارتها ليس مأسوياً حتى العام 2000 بالقدر الذي تتصوره المنظمات الدولية. وعلى العكس من ذلك ان الأزمة تستفجل وزيادة المساعدات أمر ضروري. وحسب الصليب الأحمر الدولي، ان "الوجبات الغذائية في جمهورية كوريا الشعبية أقل أربع مرات من الكميات الضرورية لصحة المواطنين". وكالعادة، لا يعرف أحد الحقيقة في بلاد المرحوم كيم ايل سونغ، بيد ان الجميع مضطرون لرفع المعاناة عن تلك البلاد المسلحة نووياً، حتى لا تلجأ الى الحرب في محاولة للخروج من المجاعة! إن أحداً لا يصدق ان كوريا غير جائعة، ولكن أحداً لا يعرف كم يلزمها من المساعدات الغذائية لكي تكف البطون عن التهديد بالغزو. فالنظام الاشتراكي الذي سيطر على روح كوريا لمدة 46 عاماً دمر تقاليد العمل وبنية الزراعة، والعقلية الامبراطورية التي حكمت تلك البلاد اتجهت الى "المشاريع الفرعونية" التي أفلست الدولة. أما فيضانات العام الماضي فقد كشفت ان المواسم السيئة كثيراً ما تتحالف مع الحكومات السيئة، إذ انخفض انتاج الحبوب الى نحو مليونين ونصف المليون طن فقط بينما الطلب يصل الى حدود الثمانية ملايين طن من الحبوب لغذاء 24 مليون مواطن. انشقاق ماركس الكوري ومنذ بدء هذه الأزمة الغذائية التي صاحبتها أزمة الصواريخ والغواصات مع كوريا الجنوبية، ارتفع عدد المنشقين الشماليين في صفوف الجنود والضباط والمواطنين العاديين، إلا انه لم يحدث ان تعلق الأمر بمسؤول مثل هوانغ جانغ يوب الرئيس السابق لجامعة كيم ايل سونغ وسكرتير حزب العمال الشيوعي الحاكم الذي انتخب ثلاث مرات رئيساً للتجمع الأعلى للشعب، اضافة الى انه متزوج من قريبة لكيم ايل سونغ مؤسس كوريا الشمالية. وعلى رغم ان هذا المنشق الكبير الذي انتهى به المطاف الى سيول طلب من زوجته وابنائه الأربعة ان ينسوه، "إلا ان بيونغ يانغ لا تريد ان تنساه أبداً، اذ تتوقع جهات عدة ان يتم اختطافه أو استبداله برأس كبيرة من كوريا الجنوبية. وينظر المراقبون السياسيون الى عملية الانشقاق بمثابة دليل اضافي على عدم الاستقرار في كوريا الشمالية التي تعاني من نقص فظيع في الاغذية وهي تسير نحو المجاعة، ما جعل حكومة بيونغ يانغ تخفض من وزن المساعدات الغذائية للأهالي من 250 غراماً الى مئة غرام في اليوم. وينظر الى المنشق هوانغ جانغ بوب على أنه أحد مصممي الفكر السياسي في كوريا الشمالية أو ما يسمى بفلسفة "جوشي" أو الاعتماد على الذات منذ عقود طويلة. وقد تمت عملية لجوئه الى قنصلية كوريا الجنوبية في بكين وهو في طريق عودته الى بلاده بعد جولة في اليابان قدم خلالها المحاضرات ونظم اللقاءات والندوات حول ايديولوجية كوريا الشمالية وذلك بمناسبة عيد ميلاد كيم يونغ ايل، الخامس والخمسين، فبدا وكأنه تعرض لعملية اختطاف أو عملية غسيل دماغ أعطت ثمارها بسرعة. وقد كان في كل لقاءاته يجلس وخلفه صورة عملاقة لكل من كيم يونغ ايل وكيم ايل سونغ الأب. حتى أن أحد الجامعيين، وهو من كوريا الشمالية ويعمل بطوكيو علق على ذلك قائلاً: "إني متعجب لما حدث وكأن ماركس ينشق عن الاتحاد السوفياتي سابقاً". كما علق ديبلوماسي أجنبي بقوله "غريب، إن الأمر يبدو وكأن توماس جيفرسون انشق عن اميركا". وكانت عملية انشقاق هوانغ جانغ يوب اثارت تعليقات من جوانب مختلفة باعتبارها تتعلق بأكبر مسؤول يتمكن من الهرب منذ نهاية الحرب بين الكوريتين في 1953. ويشبه انشقاق المسؤول الكوري انشقاق المسؤول الروماني الكبير الجنرال باسيبا في عهد تشاوشيسكو الذي فر في العام 1986 الى الولاياتالمتحدة اثناء زيارة ديبلوماسية، الأمر الذي عجل في تدهور الأوضاع الأمنية في بلاده، فكانت النتيجة ان تداعى نظام تشاوشيسكو في العام 1989، أي بعد 3 سنوات من فرار الجنرال. ولأن هروب هوانغ يوب قد يعجل في تداعي نظام بيونغ يانغ، فإن التوتر يستمر في التصاعد بين الكوريتين الشمالية والجنوبية والحكومة الصينية. وفيما يقضي المسؤول المنشق البالغ من العمر 73 عاماً أوقاته في المطالعة أو في النوم، في سيول حالياً، يظل مقر إقامته خاضعاً لحراسة مشددة لقوات الأمن الكورية تحسباً لأي تدخل لعملاء بيونغ يانغ التي لا زالت ترفض تصديق الرواية معتقدة بأن المسألة تتعلق بعملية اختطاف تعرض لها المستشار يوب. وقد يكون انشقاق "ماركس" كوريا الشمالية قد تسبب في إحراج كبير لبكين التي كانت تحاول الحفاظ على التوازن في علاقتها مع سيول كحليف تجاري مهم، كذلك في علاقاتها مع بيونغ يانغ كحليف سياسي. لكن الصينيين استطاعوا ان يعوضوا ذلك "الاحراج المزدوج" بتحسين العلاقات مع واشنطنوطوكيو. فقد تدهورت بشدة خلال الشهور الأخيرة العلاقات الاميركية - الصينية بسبب الخلافات على قضايا التجارة وحقوق الانسان وتايوان وادعاءات واشنطن بتصدير الصين معلومات ومواد لدول مثل باكستان وكوريا، خصوصاً، في مجال صناعة الأسلحة، لكن الأميركيين كشفوا أخيراً عن حسن نياتهم تجاه الصين التي تمر في فترة انتقالية حرجة على صعيد السلطة. كوريا تريد حصتها من كعكة الاستثمارات ومن ناحية اليابان، فإن الصين التي تستعيد جزيرة هونغ كونغ في تموز يوليو المقبل وجزيرة ماكاو في العام 2000، يمكن الاعتماد عليها كقوة اقتصادية كبيرة ذات نوافذ رأسمالية، خصوصاً ان جميع القراءات المستقبلية تشير الى ان الصين ستصبح القوة الأولى في الجانب الغربي من الباسفيك ما لم تتواجد أميركا في المنطقة كشريك كامل لليابان لاحداث التوازن مع الصين". ويعتقد اليابانيون بأنه في حالة توازن العلاقات في المثلث الديبلوماسي بين واشنطنوبكينوطوكيو، فإن باقي منطقة شرق آسيا ستتمتع بالاستقرار بما في ذلك كوريا الشمالية. وإذا كانت كوريا الشمالية في نظر السياسيين مجرد ثكنة، حيث يرتدي جميع مواطنيها اللباس الغامق ويسيرون على صخب الألحان العسكرية، فهي في نظر رجال الاعمال بلداً واعداً، الى درجة ان مدير شركة اميركية كبرى يرشحها للحصول على الميدالية العالمية للتنمية خلال خمس سنوات اذا فهم العالم اللغة التي تتكلمها، فهي تتسلح نووياً لأنها تريد ان تحصل على جزء من كعكة الاستثمارات. وهي تدعي المجاعة لأنها تدرك انها تقع في أكبر حوض تجاري بينما هي تشعر بالاقصاء. فالبلاد عبارة عن ترعة تنفتح على القطاعات الشمالية الشرقية للصين وعلى شرق روسيا، مما يؤهلها للدخول الى الاسواق الكبرى لكوريا الجنوبيةواليابان. ويمكن لميناء راجين الواقع بالقرب من خط سكك الحديد المار عبر سيبيريا ان يسمح لمصدري آسيا الشمالية بإيصال سلعهم الى أوروبا في ظرف عشرة أيام بدلاً من 35 يوماً التي تستغرقها الرحلة البحرية. وتعمل بيونغ يانغ على انشاء شبكة اتصالات لجذب المستثمرين الى منطقة للتبادل الحر معفاة من الضرائب تعتزم اقامتها في العام 2000. وقد بدأت الشركة الكورية الجنوبية منذ نهاية العام الماضي في استقبال دفعات من الاجهزة التلفزيونية من نوع "غولد ستار" التي تم تجميعها في بيونغ يانغ. وشهدت مشاريع الاستثمار الاجنبي في كوريا الشمالية تحسناً مفاجئاً عندما تلقت ثلاث شركات جنوبية هي "سامسونغ" و"دايوو" و"تيشانغ" الضوء الأخضر لاستثمار مبلغ 19 مليون دولار، وهو رقم قياسي في كوريا الشمالية. واذا ما استطاع المستثمرون الكوريون في الجنوب فتح الطريق امام الاستثمار الدولي في كوريا الشمالية، فإن بإمكانهم ايضاً ان يقضوا على نوازع الخوف لدى مواطنيهم. ولا ينقص الكوريون الشماليون إلا الأموال لكي يصبحوا أبناء شرعيين للمنطقة. فمن السهل ملاحظة مظاهر الأزمة الاقتصادية في العاصمة بيونغ يانغ منذ سنوات. فحافلات النقل العمومي الهرمة في بيونغ يانغ تبدو وكأنها تعود الى ما قبل الحرب الكورية. اما مخازن كابيسونغ التي لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن الحدود مع الجنوب فهي فارغة وخالية من الحرفيين. ومن مظاهر الأزمة الأخرى، توقف الاشغال في فندق "ريو غيونغ" في العاصمة منذ سبع سنوات. وقد اصبح هيكله الضخم 105 طبقات يثير الانقباض في النفس، على رغم ان العمال ما زالوا يعملون فيه. وباختصار، فإن البلاد لن تتحول بين عشية وضحاها الى بلد رأسمالي. ولكن عندما يستقر الوضع السياسي لكيم يونغ ايل يمكن ان يتوقع منه توجيه الاقتصاد حسب النموذج الصيني تحت صيغة "اقتصاد السوق الاشتراكي". وحتى ذلك الوقت ستظل كوريا الشمالية تقايض الخوف بالأمن. فالسلاح النووي مع المجاعة، إما ان يصنعا الكارثة للجميع أو ان يجلبا جزءاً من ازدهار المنطقة لشعب كوريا الشمالية