ربما لن يعثر القارئ على قول جديد في رواية صنع الله ابراهيم الاخيرة "شرف". لا لأن الروائي المصري ليس عنده ما يقول، بل لأنه يعيد ما كتب توسلاً لوضوح أعمق، ومواكبة لما تأتي به الايام. وما كتبه ابراهيم من "تلك الرائحة" 1966 إلى "ذات" 1992 يدور حول مواضيع محددة، او حول موضوع وحيد له وجوه مختلفة. فالى جانب السجن الذي ليس له مكان معين، يقف ضغط الجسد المحروم الذي يتنفس الرغبة ويستنشق الحرمان. ثم تأتي السلعة القاهرة التي تجبر البشر على بيع أنفسهم من اجل الظفر بها. صنع الله ابراهيم، في كتابته، حرّ طليق، ينشر ما تقول به الشوارع والمقاهي والمخازن وبيوت القهر والحرمان، قبل أن يلتمس وقائع متخيلة أو يملي سطورها الخيار. وهو حرّ في اختيار الاشكال وابتكارها، يمزج السيرة الذاتية والتحقيق واقوال الصحف، تاركاً لغيره قواعد الكتابة المتعارف عليها، ذلك انه لا يكتب رواية بل يبني مشروعه الروائي الخاص به والمغاير لغيره. في صفحة من صفحات روايته الجميلة "السفينة"، يعبّر الفلسطيني الراحل جبرا ابراهيم جبرا عن اعجابه بالروائي التشيكي كافكا، لا لأن الأخير يحسن بناء الكابوس ويشتقه من صدر الانسان، بل لأنه يعيد ابداً كتابة ما كتب، كما لو كان الكاتب يوقف حياته كلها على موضوع وحيد. وبين كافكا وابراهيم أواصر ووشائج قربى، فهما مأخوذان بفكرة الكابوس، وان اختلفت مصادره، وهما يلاحقان موضوعاً وحيداً بأدوات كتابة مختلفة ومتنوعة. ويجعل هذا المنظور من روايات صنع الله رواية واحدة، او كتابات متعددة لنص روائي وحيد، له مواضيعه وادواته ولغته والوسائل التي تخلقه. وابراهيم، رغم غربته الحياتية ونزوعه إلى الاعتكاف، لا يفاجئ القارئ بأمر لا يعرفه. فهو يكتب عمّا يعيشه القارئ ويعرفه، وعما يتوق اليه الانسان ويهرب منه، ولذلك تشكل الحياة اليومية مصادر روايته، بعد ان يجعل منها مجازاً تختلط فيه المتاهة بالكابوس، وغبار الشوارع بأطلال الانسان المقهور. ولأن الرواية تستند إلى ما هو "قائم الآن"، فان خيال صنع الله لا يرحل إلى أزمنة قضت ولا يطرق ابواب ازمنة محتملة. إن صاحب "اللجنة" منشدّ إلى الزمن اليومي المباشر، ومتشبث بزمن عار يعرفه من يكتب الرواية، ويدركه من لم يخطّ في حياته سطراً. بين ال "هنا" و"الآن" يقترب من ملازمة الشفاه للاسنان، كأن الرواية كتابة عن اليومي المعاش، وكأن الاخير حاضن الرواية ومهدها. فلا مكان لقول لا تنطق به شوارع الحياة، ولا موقع لمتخيّل لا تقع عليه العين البصيرة. تداخل ال "هنا" و"الآن" الجنود المتعبون العائدون من حرب اليمن يعبرون سريعاً في "تلك الرائحة"، اشارة لزمن المعاش وتحديداً له. وتعلن الآلة القاهرة عن أسنانها وهي تبني السد في "نجمة اغسطس". ويعدد المتهم، الذي لا جريمة له اسماء قضاته في "اللجنة"، ليربط بين تقوّضه والفترة الزمنية التي هو ضحية لها. وفي "بيروت بيروت" يخبر الراوي بدقة عن زمن وصوله إلى عاصمة عربية اجتاحها الجيش الاسرائيلي. أما في "ذات" فالزمن منثور من البداية حتى النهاية، تذيعه عناوين الصحف التي تهدم في المساء ما أثنت عليه صباحاً. يتداخل ال "هنا" و"الآن" تداخل القيد ورسغ السجين، ويصوغان رواية خاصة، تعيد تعريف الواقع والمتخيل الروائي. فالواقع هو اليومي الذي دبّت فوقه أقدام السجين، وتناثرت في ارجائه اوصال الانسان المغترب. وكل تمييز بين ظاهر الواقع وجوهره نافل ولا تحتاجه الرواية، كما لو كان التماس الجوهر مرغوباً في مدن الغربة. أما في "المدن الأخرى" فلا فرق بين الظاهر والجوهر، لأن الحقيقة واقفة فوق اكتاف الانسان المعطوب. ومثلما تذوب وجوه الواقع في اليومي المباشر، تغيب لعبة الخيال وطقوس المتخيل، فما يحتضنه اليومي يتجاوز تخوم الخيال مبدعاً كان أم مشوّه الملامح. ولعل هذا المنظور المثقل بالأسى والمترع بالتشاؤم، هو ما يفرض السخرية السوداء عنصراً داخلياً في كتابات ابراهيم كلها. سخرية ممدودة المساحة في الروايات الأولى، وسخرية صارخة في الروايات الاخيرة، زادتها السنون حدة وأمدّتها بأسنان قارضة. ومع أن رواية ابراهيم هجاء مرّ للواقع، فانها في سخريتها تضاعف الهجاء وتعطيه أركاناً جديدة، ذلك أن السخرية تحدّث عن واقع فاقد القوام، او عن واقع فيه من "الكاريكاتور" اشياء كثيرة. ولهذا فان انسان "اللجنة" المغترب يلتف حول ذاته، باحثاً عن حلّ الاحجية حيث لا جواب الا التهام الانسان لأوصاله الفقيرة. يخلق ابراهيم مقولاته الروائية، ويعثر على مفرداتها في مجاز الحياة اليومية، والواقع العاري و"الهنا والآن" والسخرية السوداء... غير انه يعثر قبل كل شيء على لغة مقتصدة باردة، لغة تلائم قياس الظواهر التي تحدّث عنها، بعيداً عن الانشاء والبلاغة، وعلى مبعدة من لغة غنائية حافلة بالمترادفات والحواشي المترهلة. كأن الواقع الذي يحوّل البشر إلى أشياء، يحتاج إلى لغة محايدة قريبة من الاشياء ذاتها، قوامها الجمل الصغيرة المتقشفة التي لا توحي بشيء. فالمعنى الحقيقي يكمن في الوقائع العارية لا في اللغة المحدثة عنها. كأن صنع الله ابراهيم عالم اجتماع بالغ الموضوعية، منشدّاً إلى ابراز الوقائع كما هي، من دون اضافات لغوية تخدش الموضوع، او تلقي عليه بحجاب لا يحتاج إليه. في هذه الحدود لا يأتي الأديب المصري بجديد في روايته الجديدة "شرف". فهي تقدّم ما يتوقعه القارئ، بدءاً بالحرمان المتمدد الذي يهدد شرف الانسان، وصولاً إلى السجن الذي يخرج منه المسجون مخلّفاً فيه زميلاً له، مروراً بسياط السلطة التي تدفع الانسان إلى أفلاك التقوّض. غير أن صنع الله ابراهيم، القريب من كافكا الذي حدّث عنه جبرا، يأتي بجديد حاسم. فهو يعيد كتابة ما كتب بغية الوصول إلى قرار الأشياء، من دون خطأ او انزياح