دفع تطوران ملف المياه الى الواجهة الاقليمية في العلاقات السورية - التركية بعد طول تركيز على موضوعي المناورات البحرية الثلاثية المقررة في آخر تشرين الثاني نوفمبر المقبل، و"التحالف" العسكري التركي - الاسرائيلي. ويتمثل التطور الأول في الاحتفال الرسمي الكبير الذي جرى بالقرب من الحدود السورية - التركية لدى تحويل مجرى نهر الفرات عن جسم سد "تشرين" الذي تقيمه الحكومة والتطور الثاني هو مؤتمر "مياه العالم: تمويل مشاريع المستقبل" الذي افتتحه الرئيس التركي سليمان ديميريل في اسطنبول. وعلى رغم ان رئيس الوزراء السوري المهندس محمود الزعبي لم يشر في خطابه اثناء الاحتفال الى الموقف التركي، الا ان توقيت اجراء حفل التدشين قبل يوم من افتتاح مؤتمر اسطنبول الذي سمعت دمشق لاقناع الدول العربية بعدم المشاركة فيه، حمل مضموناً مهماً يتعلق باصرار سورية على الحصول على حقوقها من جهة وعلى عدم التصعيد مع تركيا من جهة ثانية. ويمكن تلمس هذين الجانبين في كلام الرئيس حافظ الأسد في الاسكندرية من ان بلاده ترفض ان تكون "شرطياً" لتركيا مع ابداء "جهوزية سورية للمساعدة اذا كانت هناك امكانية أو انهم في انقرة يرون ان هناك امكانية لمساعدتهم". واتضحت الرغبة في عدم التصعيد السوري في تصريحات وزير الخارجية السيد فاروق الشرع لاحدى الاقنية التلفزيونية التركية عن الاستعداد للحوار مع الاتراك في "المكان والزمان" اللذين يقترحونهما. ومع ان الاتراك لم ينظموا تدفق نهر الفرات على رغم ان وفداً رسمياً وعد بذلك في آذار مارس الماضي، فان الزعبي لم يوجه اي انتقاد الى انقرة في الحفل الذي حضره كبار المسؤولين ونائبا رئيس الوزراء ومعظم الوزراء. واكتفى بالانتقاد الضمني عندما قال: "في كل يوم يقوم صرح جديد في سورية الأسد التي تقف بجرأة وثبات في الخندق الأول ضد التحدي الصهيوني وضد التحديات مهما كان نوعها ومصدرها". ويعتبر سد "تشرين" ثاني اكبر السدود السورية الاربعة، بعد سد "الثورة" الذي دشن في بداية السبعينات، ويتألف من محطة كهربائية بطول 266 متراً وارتفاع 72 متراً لتوليد 630 ميغاواط وتخزين 9.1 بليون متر مكعب، وتبلغ كلفته اكثر من 500 مليون دولار، وقدم "الصندوق الكويتي للانماء الاجتماعي والاقتصادي" و"الصندوق العربي للانماء الاجتماعي والاقتصادي" قرضين بقيمة 165 مليون دولار للمساهمة في تمويله. وكان وفد من وزارة الري التركية "وعد" في آذار مارس الماضي بتنظيم تدفق النهر الذي يبلغ بشكل وسطي ألف متر مكعب في الثانية، عبر حبس المياه في سد اتاتورك أكبر السدود التركية، وذلك لمساعدة سورية على تحويل المجرى عن جسم السد الى حين الانتهاء من عملية البناء، لكن ذلك لم يحصل، فقررت الحكومة تحويله من دون الاعتماد على "التنظيم التركي". ويعتقد خبراء بأن انقرة "فوجئت" بقدرة السوريين على تحويل المجرى من دون تنظيم التدفق الذي بلغ خلال العملية 750 متراً مكعباً في الثانية. ومعلوم ان سورية تطالب جارتها على الحدود الشمالية بالتوصل الى اتفاق نهائي لاقتسام مياه الفرات بعد الدخول في مفاوضات جدية تؤدي الى اتفاق عادل بين سورية والعراقوتركيا، لذلك فان دمشق تنتقد أي مشاريع على مجرى النهر تقام من دون التنسيق معها، كما ترى ان التعاون الاقليمي لا يمكن ان يحصل قبل التوصل الى اتفاق نهائي وعادل بدلاً من الاتفاق المرحلي للعام 1987 الذي نص على تصريف 500 متر مكعب في الثانية الى السوريين والعراقيين. بورصة المياه والنفط من هنا تأتي اسباب معارضة مؤتمر "مياه العالم: تمويل مشاريع المستقبل" الذي رعته صحيفة "هيرالد تربيون" الاميركية وحضره عدد من الزعماء والممثلين عن الدول العربية والمؤسسات الدولية، في مقدمهم رئيس "البنك الدولي" جيمس وولفنسون. وكان وزير الدولة السوري للشؤون الخارجية السيد ناصر قدور اجتمع اخيراً الى جميع سفراء الدول العربية، وسلمهم مذكرة رسمية تدعو الى "مقاطعة" المؤتمر وتوضيح الموقف السوري ازاء ملف المياه. وكانت دمشق نجحت في العام 1991 بفضل "تضامن" الدول العربية معها في افشال "قمة مياه الشرق الاوسط" في تركيا لتحقيق اهداف مشابهة لاهداف مؤتمر اسطنبول. وتعتقد الخارجية السورية بأن هذا المؤتمر "أخطر بكثير" من مؤتمر "قمة المياه في الشرق الاوسط" بسبب "الظروف الدولية الراهنة والتحالف الجديد بين تركيا واسرائيل، واعلان انقرة الصريح عن فكرة بورصة المياه، ومقارنة ذلك بالثروة النفطية العربية". وانتقدت المذكرة الرسمية مساعي الحكومة التركية لطرح الثروة المائية في "سوق البورصة" للحصول على التمويل الدولي في ظل عدم القدرة على تمويل المشاريع على نهري الفرات 2800 كلم ودجلة 1950 كلم اللذين تتشاطأ عليهما ايضاً سورية والعراق. وكانت دمشق وبغداد دعتا الى مقاطعة الشركات والمؤسسات التي تمول مشاريع تركية على نهر الفرات من دون التنسيق معهما، وطالبتاها بالتعويض عن الخسائر الناجمة عن ذلك. 16 اجتماعاً وجاء في المذكرة الرسمية التي حصلت "الوسط" على نسخة منها، ان طرح المياه في "بورصة دولية يتناقض كلياً مع اتفاق العام 1980 لاقامة لجنة ثلاثية خاصة بالمياه للتوصل الى اتفاق عادل ومعقول والتفاوض من اجل حل النزاعات المشتركة ضمن فترة معقولة والتزام الاتفاقات الموقعة". وكانت اللجنة الثلاثية الخاصة بمياه الفرات فشلت في التوصل الى اتفاق نهائي على رغم انها عقدت 16 اجتماعاً كان اخرها في نهاية العام 1992، كما ان الاتفاق المرحلي الذي وقع في 1987 نص على ان العمل به يتم فقط الى حين البدء في ملء "سد اتاتورك" أكبر المشاريع التي تقيمها تركيا في اطار "مشروع تطوير جنوب شرقي الاناضول". وهي نقطة اخرى تتمسك بها دمشق لدعوتها الاتراك للدخول في مفاوضات. ويقدر الخبراء السوريون مجموع ما تخزنه السدود التركية بأكثر من 90 بليون متر مكعب في مقابل 16 بليوناً لسدي "الثورة" و"تشرين" في سورية و12 بليوناً لسدي "حديثة" و"القادسية" في العراق، اي ان مخزون سدود تركيا يبلغ اكثر من ثلاثة اضعاف السدود في البلدين العربيين. و"الاخطر" في البعدين السياسي والتقني، حسب ما جاء في المذكرة ان سد اتاتورك يعطي الفرصة لتركيا لأن تقطع المياه عن سورية والعراق مدة سنة كاملة اذا ارادت كما حصل فعلاً في العام 1990 لمدة شهر و1991 لمدة 14 ساعة، اذ ان طاقة البحيرة تبلغ نحو 22 بليون متر مكعب وهو اجمالي التدفق السنوي الى الاراضي السورية. كما ان الوارد المائي السنوي الوسطي للفرات يكفي لري 5.2 مليون هكتار، في حين تخطط انقرة لري نحو مليوني هكتار. وأشارت المذكرة الى ان حجم تخزين السدود التركية على نهر دجلة يبلغ 5.18 بليون متر مكعب سنوياً، وهذا الرقم يساوي اجمالي الوارد المائي لنهر دجلة الذي تتشاطأ عليه ايضاً سورية والعراق، مع انها سورية الدولة "الافقر بالمياه والاكثر حاجة لحقوقها الشرعية في مياه الفرات". وشكل الموقف من ملف المياه ساحة للجدل السوري - التركي. وفي ظل غياب اللقاءات المباشرة بسبب رفض انقرة ذلك منذ العام 1993، انتقل البلدان الى الاروقة الديبلوماسية لايصال موقفيهما الى الدول المعنية وحشد تأييدها. اذ ان وزارة الخارجية التركية بدأت في السنوات الاخيرة توزيع دراسة ضخمة عن موقفها المائي على الدول الاوروبية والعربية واميركا وعلى المنظمات الدولية، الامر الذي دفع الخارجية السورية الى اعداد دراسة مشابهة ترد على كل نقطة يذكرها الجانب التركي. المذكرة التركية ويمكن تلخيص النقاط التي تضمنتها المذكرة التركية وحصلت "الوسط" على نسخة منها ووزعت على السفراء المعتمدين في مصر، عشية الاجتماع الاخير لمجلس الجامعة العربية على الشكل الآتي: 1- ان الصحافة العربية تقدم ملف المياه على انه عنصر للصراع مع الاتراك. 2- ان سورية تطالب بالحصول على 700 متر مكعب في الثانية من نهر الفرات بدلاً من 500 متر مكعب، وهذا قرار سياسي. 3- ان نهري الفرات ودجلة عابران للحدود وليسا دوليين. 4- ان حوضي دجلة والفرات حوض واحد. 5- الخطة التركية ثلاثية المراحل. 6- عدم الاعتراف بايقاف تدفق نهر الفرات في العام 1990. 7- سورية تعترض على بناء سدود تركية من دون مبرر. وللرد على هذه المذكرة وزعت الخارجية السورية دراسة تفصيلية على عدد من السفراء والدول المهمة، متضمنة ردوداً على كل نقطة من هذه النقاط السبع. وجاء في الدراسة التي حصلت "الوسط" على نسخة منها: "على نقيض التصريحات التركية التي تضمنت مفاهيم خاطئة عن المياه، فان اياً من المسؤولين السوريين لم يتحدث عن احتمال حصول صراعات في المنطقة من اجل المياه. كما ان سورية بالذات ترى دائماً في المياه جسراً للسلام بين شعوب المنطقة"، وأضافت ان الخبراء السوريين "لم يطرحوا مطلقاً الرقم 700 متر مكعب بل ان طروحاتهم مبنية على اساس الحق والعدالة. وان دمشق تعمل للوصول الى اتفاق نهائي تحدد فيه حصص الاطراف بشكل عادل ومعقول". وزادت "ان الادعاء بأن هذا الرقم قرار سياسي ادعاء باطل لا أساس له من الصحة". وتعليقاً على اصرار المسؤولين الاتراك على ان الفرات ودجلة "عابران للحدود وليسا دوليين"، قال خبراء الادارة القانونية الذين اعدوا الدراسة ان الوفد التركي "أصيب بخيبة أمل" في اجتماعات اللجنة الدولية السادسة التي ناقشت "قانون استخدام المجاري المائية للاغراض غير الملاحية" في تشرين الأول اكتوبر 1996 ونيسان ابريل 1997 لانه لم يجد أي مؤيد لطروحاته. وفي هذا المجال عرف المجتمعون المجرى المائي الدولي بانه "شبكة المياه السطحية والجوفية التي تشكل بحكم علاقتها الطبيعية بعضها ببعض كلاً واحداً ويتدفق عادة صوب نقطة وصول مشتركة". اما بالنسبة الى اعتبار دجلة والفرات حوضاً واحداً كما طالب الخبراء الاتراك في اجتماعات اللجنة الثلاثية في السنوات الاخيرة، فقالت الدراسة ان "جميع الدراسات التركية تعتبرهما حوضاً واحداً فكيف ترضى لغيرها ان يؤمن بهذه الفكرة المنافية للعلم اصلاً والخاطئة بالمفاهيم الفنية والقانونية". توزيع الجدوى الاقتصادية ويطالب الفنيون الاتراك ب "الانتفاع الامثل والمنصف والمعقول للمجاري العابرة للحدود" على اساس تقويم المشاريع المقامة في الدول الثلاث كأنها في دولة واحدة من حيث الجدوى الاقتصادية وبالتالي ضرورة التركيز على المشاريع ذات الجدوى الاكثر، أي ما يعرف ب "خطة المراحل الثلاث"، لكن الخبراء السوريين يردون على ذلك بان مفهوم "أمثل انتفاع يدل الى الحصول على اقصى المنافع الممكنة لجميع دول المجرى المائي وتحقيق اكبر قدر ممكن من الايفاء بجميع حاجاتها، وفي الوقت ذاته تقليل الضرر أو الحاجات غير المحققة لكل منها الى حد ادنى". وفي مقابل النفي التركي، تؤيد سورية ان تصريف الفرات انخفض بين 13 كانون الثاني يناير و12 شباط فبراير 1990 الى نحو 45 متراً مكعباً في الثانية بدلاً من ألف متر مكعب وذلك بشكل مخالف ل "ابسط قواعد القانون الدولي القاضية بضرورة التشاور والاخطار المسبق" بأي تصرف من قبل دولة المجرى الاعلى، وينطبق ذلك على موضوع اقامة سدي بيره جيك وقره قميش التركيين قرب الحدود السورية - التركية 835 كلم. وأوضحت الدراسة الرسمية رداً على قول انقرة ان سد بيره جيك سد تنظيمي، ان سورية والعراق "ليستا في حاجة الى سدود خارج أراضيهما لتنظيم حصصهما من الموارد المائية المشتركة، لان سدودهما تكفي لتحقيق ذلك لاكثر من عامين متتاليين"، ولتأكيد عدم صحة الموقف التركي ذكرت الدراسة ان السد ذاته سيروي مساحة 6.81 ألف هكتار. وكانت دمشق وبغداد ارسلتا رسائل الى الهيئات الدولية التي كانت تنوي تمويل هذين المشروعين التركيين، وحصلتا على تطمينات منها. وقالت المصادر السورية ان "البنك الدولي" أبلغ دمشق انه "ليس منخرطاً في تمويل أي من النشاطات التي تقوم بها تركيا على نهر الفرات، وانه يرى اهمية بالغة في ان تتوصل الدول المتشاطئة على مجرى مائي، الى اتفاقات ملائمة أو ترتيبات معينة". وأوضح مسؤولون في البنك الدولي في رسائل رسمية الى دمشق انه "عندما يطلب من البنك تمويل مشروع علينا ان نتأكد انه لا يسبب أي اذى ملحوظ لأي من الدول المتشاطئة" .