"لا أنتمي إلى أي مشهد شعري غير مشهدي الخاص"، هكذا يحدّد حسب الشيخ جعفر تجربته، وموقعه على الخريطة الشعريّة. والشاعر العراقي الذي يعتبر بين أبرز شعراء جيله وأكثرهم ابتعاداً عن الأضواء، يقيم حاليّاً في منزل صفيحي في عمّان، جرفته إليه "رحلة الينابيع الخفيّة". ترك حسب الشيخ جعفر العراق هارباً من ظمأ أبدي يلازمه منذ شبابه، لكنّه لا يحلم إلا بالرجوع إليه. وفي هذا المنزل الصفيحي حيث تطارده ذكريات أزمنة مضت بين موسكووبغداد، صاغ منها كتاباً بعنوان "الريح تمحو والرمال تتذكر"، إلتقت "الوسط" الرجل الذي يحمل عبئين: الأوّل خاص بالشاعر، والآخر مشترك بين كلّ الناس... ينتمي حسب الشيخ جعفر إلى سلالة من الشعراء آيلة إلى الانقراض. فهو يأسرك بتواضعه الجمّ الذي ينعكس في خفوت صوته، وخجله الشديد. وعندما يصفه صديقه النحات العراقي أياد صادق ب "الشاعر الكبير"، لا يجد بداً من انتهاره مؤكداً عدم اكتراثه بالألقاب. فهو يعتبر أن نصوصه تنتزع مكانتها وحدها، وتقدّم نفسها بلا تدخّل من خارج فضاء الإبداع. يحمل هذا الشاعر العراقي على كتفيه وزر السنوات، مع أنه لم يتجاوز الخامسة والخمسين. لكنّه لا يشعر بأي ندم على ما عاشه ويعيشه. كما انّه ليس من هواة الالتفات إلى الوراء، ويبقى في ذلك متأثّراً بنهج ورثه من أدبيات الشيوعيين الذين انتمى إلى حزبهم، ورفع بيارقهم مبكراً، قبل أن يغادر إلى موسكو لاكمال دراسته، ونيل الماجستير في الآداب من معهد غوركي. حسب الشيخ جعفر، ابن قرية السعفة قرب مدينة العمارة العراقية، صدرت مجموعته الأولى "نخلة الله" عن "دار الآداب" في بيروت سنة 1969. وقبل أربعة أعوام صدرت مجموعته الأخيرة "كران البور" في بغداد. وبين هذين التاريخين بقي يتنقل عبر الأنواع الأدبيّة من سيرة ورواية ومسرحية وترجمة، واشتغل بدأب على قصيدة جعلته واحداً من أهم ممثلي الحداثة في العراق. في مناسبة صدور سيرته الذاتيّة عن "دار المدى" في دمشق بعنوان "الريح تمحو والرمال تتذكّر"، إلتقته "الوسط" في عمّان التي انتقل إليها من بغداد قبل فترة. ودار الحوار الآتي في منزل صفيحي يذكر بالمغاور الأسطورية. حيث أنك، وأنت تحادثه، معرّض في كل لحظة للسعة عقرب، أو فحة أفعى، أو انهيار مريع لجذع شجرة! لكن الحديث سرعان ما انتزعَنا من الواقع المادي إلى آفاق مجرّدة وعوالم أخرى لا تطأها إلا أقدام الشعراء. ما الذي يقوله نحولك؟ ماذا تخبئ عيناك الذابلتان؟ بمَ تشي لفافة تبغك التي لا تنطفئ؟ - قد تنطفئ السيجارة كما تنطفئ الروح أو الشمعة، ومن الممكن تجديد السيجارة أو الشمعة، غير أننا لا نستطيع تجديد اللحظة الروحية التي أتيحت لنا في يوم من الأيام. إنها تذهب مع الريح، وليس من النافع أن نندم أو نتحسر على ذهاب اللحظة التي أضعناها نحن بأنفسنا. إنني أتذكر، الآن، وجهاً روسياً معيناً، وجه أستاذة شابة كنت أتطلع إلى قوامها ووجهها البديعين طيلة عامين، ولم أتفوه بحرف واحد، على الرغم من أنها أتاحت لي أن أتقرّب إليها، بل وتقربت هي إليّ. ذات يوم كنت في القاعة الدراسية التي تخص طلبة آخرين، وأقبلت هي كي تلقي محاضرتها، فأبعدتني مازحة عن الغرفة، وأغلقت الباب. غير أني، مازحاً أيضاً، فتحت الباب قليلاً، فجاءت إليّ وأخرجت وجهها فقط من الشقّ، وشدّتني إليها بنظرة عميقة طويلة، أحسست معها أننا غدونا كائناً واحداً. لم يعد ثمة رجل وامرأة، انما كان هناك كائن فرد هو أنا وهي، كما أحسست أنها تقول لي في تلك اللحظة: خذني إلى أي جهة تريد، وافعل بي ما تشاء... اقتلني. هذا ما أدعوه اللحظة الروحية الضائعة. لقد عشت طويلاً في الصحارى الباردة، كما عشت طويلاً في الغابات الثلجية المشتعلة. وبين برد الصحراء القفر، واشتعال الثلج، لا بد أن ينحل الجسد، وتذبل العيون. المنفى في كل مكان أنت تقيم الآن في عمّان التي غدت محطة أولى، وربما أخيرة، للمثقف العراقي. كأن قدر هذا المثقف أن يألف المنافي، ويقتات على العزلات في بلاد الآخرين. فإلى أي محطة ستقودك خطوتك المقبلة؟ - لا أريد أن أتحدث عن العزلة أو المنفى بشكل عام. ما همّ أن يتشرد العراقي المثقف، فهذا قدره، يصنعه هو أو يصنعه الآخرون. أما فقد عشت العزلة والمنفى الاختياريين. منذ صباي، عشت منفرداً وحيداً تقريباً، قبل أن أشد الرحال إلى موسكو لاكمال دراستي. أما في موسكو فعشت غربة عاصفة... غربة الطائر وحنينه إلى وكره، غربة الفلاح وشوقه إلى القرية والماء والمعول. حالياً لا أحسّني غريباً أو منفياً. جئت إلى هنا فراراً من الظمأ الروحي الأبدي الذي يلازمني منذ شبابي. قلت ربما أجد متنفساً أو كوة أتطلع منها إلى وجه الماء إلى وجه أستاذة الماء. أما ما عدا ذلك فليس الا غربة اعتيادية يحياها المرء في وطنه، أو في غير وطنه. لا أدري إلى أين ستقودني خطاي. بالطبع لن أطيل المكوث هنا، مع أن عمان حاضرة عربية رائعة لم أجد منها الا الدفء والرقة والحنان. غير أن عيني مشدودتان إلى وطني، وقلبي لا يزال هناك في الأحبولة التي شدت عليه منذ أعوام وأعوام. فعسى أن تقودني الأقدار إلى وطني كما سبق أن قادتني إليه من موسكو. هل أنت مستعد لتحمل التبعات الكثيرة لمثل تلك العودة؟ - كمواطن عربي عراقي، أنا مستعد أن آخذ على عاتقي ما يفرض من ضرائب وتضحيات. غير أن على كاهل الفنان والشاعر عبئاً آخر، لا أظن أن في مقدور كائن سواه تحمله. هل نفهم أنّك تدعو المثقفين العراقيين للعودة إلى وطنهم؟ - كلا لم أقصد ذلك. لا أعرف ما يضمره الآخرون، ولا يمكنني أن أقرّر عن الآخرين، ولكل ظروفه وحاجاته ومصالحه. ليعد المثقف إلى وطنه أو ليبق حيث هو. هو حر في اختيار الحرية أو المنفى، ولا أعني بالمنفى غربة المثقف. فالمنفى في كل مكان. حتى في الوطن؟ - وهل أوطاننا الا مناف كبرى، تهيم فيها الروح وحيدة منفردة؟... لكنّ انعدام الحرية، وثقل الأغلال، يجعل غربة الداخل أصعب من سواها... - لا أظن أن مثقفاً عربياً واحداً يجرؤ على القول إنه حر في ما يفعل أو يكتب. إلا حين يكون مستعدّاً لدفع ثمن تلك الحريّة، وهو غالباً باهظ جدّاً. في العالم العربي قد يتاح لك أن تكتب ما تريد، غير أنك لن تستطيع أن تنشر ما تريد في أغلب الأحيان. تذكّر ديستوفسكي. بعد السجن والمنفى، عاش غربة اختيارية في أوروبا، وأظن أن كاتباً لم يعش مثل الفاقة والشظف اللذين عاشهما. أضف إلى هذا الأغلال التي فرضتها عليه الرقابة والشرطة. إلا أنه، على الرغم من الفواجع والتشرّد والجوع وفقدان الأحبة، استطاع أن يعطي الأدب الروسي والعالمي بعض أجمل رواياته، روايات لا تضاهيها الا روايات تولستوي الذي كان في الوقت نفسه اقطاعياً مرفهاً، أي أنه كان حراً من أغلال الحاجة المادية تماماً. ما أريد قوله هو أن الشعلة الإبداعية يمكنها أن تظل متوقدة، أو أن تزداد توقداً في الزنزانة أو المنفى، في الوطن أو في الغربة. القارئ أملي الوحيد أنت من أهمّ صائغي المشهد الشعري الحديث في العراق، وفي العالم العربي بشكل عام. فما سرّ تواريك عن الأضواء، وابتعادك عن الإعلام، خلافاً لمعظم أقرانك ومجايليك؟ - يبدو لي أن العلّة فيّ أنا. كيف يمكن أن أعري نفسي أمام الآخرين؟ إنّني لا أملك هذه الموهبة الخارقة، وأنا خجِل حين أقول لك الآن إنني خجل. ثمة قدرة هائلة لا نجدها عند الجميع، أعني قدرة الخروج إلى الآخر، قدرة التماس مع الآخر، قدرة التجرؤ على فضح الدواخل، أو منح نفس الشاعر ما تمتلكه نفس الحاكم أو نفس الطاغية. تتسلط الأضواء على صاحب السلطة، أو يسلطها هو حول نفسه. فلماذا يريد الشاعر أن يتشبه بالسلطان؟ وأي جدوى من ألاعيبه وحيله لتسليط الأضواء على وجهه الحزين الكئيب؟ لم يعش الشعر الا في الظل. وفي الظل تتوهج وتشتعل الروح. فما الفائدة من الارتماء في الجحيم التلفزيوني؟ أي ثمن يدفعه فاوست لتوقيع عقد انتحاري مع ميفيستو الإعلام؟ أما بالنسبة إلى "المشهد الشعري" الذي يشير إليه السؤال، فأود أن أوضح أنني لا أنتمي إلى أي مشهد شعري غير مشهدي أنا. فإذا شاءت المصادفة أن يقع القارئ - وهو أملي الوحيد - على قصيدة لي، ونجحت هذه القصيدة في ادخاله حالة انفعال أو توهّج... إذا منحته لذّة ما والتقط تلك "اللحظة الروحية" التي تنطوي عليها، أكون استطعت أن أجد خلاً وفيّاً. أما أن أطارد القارئ، وألهث خلف الاعلام كي أجتلبه وأشتريه، فهي لعبة أربأ بنفسي أن ألعبها. لا أريد أن أخدع أحداً. هناك شعراء "كبار" يلعبون هذه اللعبة... - قبل أن يعرف برنارد شو بصفته مسرحياً كبيراً، كان يكتب أعمالاً درامية جادة، غير أن الاعلام لم يلتفت إليه. فأخذ الرجل يدبج المقالة تلو الدراسة عن مسرحياته ويوقّعها بأسماء أخرى. ولم يدع هذه اللعبة حتى ذاع صيته واشتهر اسمه. أما ما يعاني منه هؤلاء الشعراء "الكبار"، من تعطش أبدي إلى الظهور واللمعان، فلعله احساس بالنقص. ومن يفعل ذلك هو كمن يريد أن يُقنع نفسه بأنه مبدع كبير، قبل أن يقنع الآخرين. منذ مجموعتك الأولى "نخلة الله" 1969، ومروراً ب "الطائر الخشبي" 1972 و"زيارة السيدة السومرية" 1974 و"عبر الحائط في المرآة" 1977... وحتى "الفراشة والعكاز" المجموعة الجديدة التي لا تزال مخطوطة، عرفت تجربتك انعطافات وتحوّلات عدّة. فما هي المعايير التي حدّدت مسيرتك الابداعيّة؟ - بعد الأعمال التي ذكرت، صدرت لي أربع مجموعات أخرى، أود أن أذكرها: "في مثل حنو الزوبعة" 1988، "وجيء بالنبيين والشهداء" 1988 التي وقفت فيها كأي جندي عراقي دفاعاً عن وطني، "أعمدة سمرقند" 1989، و"كِران البور" 1993. ولم أقصد الانتقال من مرحلة شعرية إلى أخرى، بل هي التضاريس الروحية، اذا أمكن القول، وهو التنقل السري في العمل الابداعي الذي يذكرنا برحلة الينابيع الخفية في أغوارها السحيقة. قد تتشعّب الينابيع في تنقلاتها عبر الأغوار الأرضية، وقد تلتقي هذه الفروع أو التشعبات وتتدفق ينبوعاً واحداً إلى الأعالي. فأنا، كما يتراءى لي لم أكن، في تنقلاتي إلا شاعراً واحداً، أو قطرة ماء واحدة. غير أن الزمن والتجربة قد يدفعان بهذه القطرة خضراء أو صفراء من هذه الفوهة الينبوعية أو تلك، فإذا وجد القارئ في التجربة الشعرية ألواناً شتى كألوان المنشور الضوئي، فما هي، في تصوري، الا لون واحد. ولكن قصائدك الأخيرة أخذت تميل بصورة ملحوظة إلى التكثيف، واضاءة التفاصيل، وجعل الهامش المعتم جزءاً من لحظة القصيدة، واقتراح أكثر من شكل لاحتضان الزمن الشعري... - من النافع لي "اعلامياً" أن أؤكد هذا القول، وأزيده شرحاً وتفصيلاً، فأظهر للقرّاء أنني صاحب تجارب متعددة ومتشعبة. لكنّ الملامح الفنية التي أشرت إليها، بدأت في بواكيري، صدّقني! غير أن للزمن والتجربة قدرة تضاف إلى الفطرة الشعريّة. فمع مرور الأيام، وتعقد التجارب، أخذت هذه الملامح الفنية تتبلور، وتبدو أكثر ظهوراً واشراقاً. أردت أن أرفع يدي احتجاجاً في ديوانك "أعمدة سمرقند" الصادر عن "دار الآداب" البيروتيّة، أعطيت الكلمة للحيوانات والطيور على طريقة ابن المقفع، مضمّناً تلك التجربة هماً وجودياً... - كانت وقفة شعرية حاولت خلالها أن أتنفس بشكل مريح بعد اختناق هائل وشامل. أردت أن أرفع يدي احتجاجاً... أن أقول ما لا يمكن للآخرين قوله. أردت أن أكون شاهداً على زمن عصيب. ولم يكن أمامي الا أن اختار ما اختاره حكيمان قديمان: ابن المقفع العربي وايزوب اليوناني واسمح لي أن أذكر هنا فكرة اكتشفتها بنفسي، وهي أن "كليلة ودمنة" كتاب من تأليف ابن المقفع، وليس من ترجمته. إلى الآن لم يهتدِ باحث إلى أي أصل هندي أو فارسي لهذا الكتاب. لم يجد العالم الا هذه النسخة العربية. أراد هذا المفكر العربي فضح العالم. أراد أن يسلط الضوء على وجهي الطبيعة البشرية: الطيب والقبيح، فلم يكن أمامه، في تلك الظلمة السلطوية الغاشمة، إلا أن يتحايل. فألبس الوجوه البشرية أقنعة الحيوان، واستطاع أن يقول كلمته على ألسنتها. استطاع أن يفضح القبح البشري، وأن يُظهر الطيبة البشرية قاصداً بناء مدينته الفاضلة، عالماً طوباويّاً خالياً من الفقر والشر والظلم. تعتمد آخر مجموعاتك المنشورة "كران البور" "السونيت" على الطريقة الشكسبيرية، كمبنى شعري واحد، وهو ما سبق أن جرّبته في "أعمدة سمرقند". لماذا الاصرار على هذا الشكل؟ - كنت في معظم سونيتات "أعمدة سمرقند" أبني القصائد على ركائز أخرى. أي على حكايات إيزوب وابن المقفع. وكأي شاعر آخر حمزاتوف، مثلاً أردت أن أنطلق منطلقاً آخر، أردت أن أضيف السونيت كشكل شعري إلى ركائزي وأسسي الشخصية، أي - بكل تواضع - مثلما بنى بترارك سونيتاته منطلقاً من تجربته الشخصية. وكتبت ضمن هذا التكوين الشعري المعروف 119 قصيدة انحدرت بها منحدراً آخر، متذكراً قول نيتشه: "ليست الأعالي هي التي تخيف، بل الأعماق". هكذا انحدرت إلى الأعماق السفلية، متحرياً أو راغباً في تلمس ثلاثة أوجه: الوجه الصحراوي التراثي شعراء صعاليك العرب، الوجه الصوفي المخبول حيونة وميمونة، وهما متصوفتان والوجه العشقي الدنيوي الرؤيوي لينا المسكوفية، الروسية. فاذا عدنا إلى سؤالك الأول وإلى اجابتي عنه، تجد في هذا الديوان جليد الصحارى القلبية، واشتعال الغابات الروحية المثلجة. على مستوى النثر كتبت "رماد الدراويش". وأصدرت لك أخيراً "دار المدى" في دمشق، سيرة بعنوان "الريح تمحو والرمال تتذكر". فهل ضاق الشعر بالعالم حتّى لجأت إلى السرد، أم انها حالة من القحط الشعري؟ - لم أضع هذين الكتابين في حالة قحط شعري. بل كتبتهما وأنا أعيش الفوران الشعري الذي يعتري الشاعر بين فترة وأخرى. الذي جعلني أكتب تجربتي نثراً أو رواية أو سرداً، هو أن للنثر مجالاً مغناطيسياً غير مجال الشعر. ولقد وجدت نفسي منشدّاً إلى الجاذبية النثرية التي لها أسرارها وكوامنها. وماذا أضافت هاتان التجربتان إلى مسيرتك الشعرية؟ - التجربة النثرية في تصوري لا تضيف أي شيء إلى التجربة الشعرية. لكل من المنطقتين فضاؤها، وقد تتلاقى المنطقتان في نقطة ما، غير أنهما سرعان ما تفترقان. معلمتي الأولى وتجربتك في الترجمة؟ - قرأت الشعراء الروس قبل تعريبهم بزمن طويل. ولم استفد من الترجمة الا على صعيد تجديد لغتي الروسية وتعميقها. أضف إلى هذا انني استطعت أن أضيف اسمي المتواضع إلى قائمة مكتظة بأسماء المترجمين. ما هي علاقتك بالشعراء العراقيين؟ - أول من إلتقيته من الشعراء البارزين كان الجواهري. حدث ذلك سنة 1959 في بغداد، وكنت قادماً إليها من مدينتي العمارة للمشاركة في مهرجان السلام العالمي. في تلك الأيام أقام اتحاد الأدباء العراقيين مهرجاناً في ذكرى وفاة معروف الرصافي حضره الزعيم عبدالكريم قاسم، وكنت أتطلع إلى وجهه الكريم عن قرب قريب. وفي العام نفسه التقيت الصديق سعدي يوسف حينما كنت في مهمة طلابية تنظيمية، وكنت أتجول مع صديقي التنظيمي محمد الجزائري هو الآن ناقد عربي معروف. التقينا بسعدي وجهاً لوجه مصادفة، فوق احدى القناطر البصرية الخشبية. وكنت أيامئذ أنشر قصائدي في الصحافة العراقية الديموقراطية، وهي الصحافة التي كان ينشر فيها سعدي قصائده. بعدها التقيت عبدالوهاب البياتي سنة 1960 في موسكو حيث كنت طالباً. كان البياتي ملحقاً ثقافياً في السفارة العراقية، وكنا نلتقي في مقهى يقع في الطابق الأرضي في فندق موسكو. وكان البياتي طيباً وودوداً. أما السياب فلم أره الا لمحة واحدة، إذ كان يقف بين مجموعة من النساء المتلفحات بالعباءات، وكنت مشاركاً في مظاهرة، وكان السياب ينظر إلينا من بعيد. والتقيت "معلمتي الأولى" نازك الملائكة في مهرجان المربد في البصرة سنة 1973. كنت واقفاً مع مجموعة من الشعراء العراقيين الشباب، وفجأة أقبلت نحوي جامعية بصرية، وأخبرتني أن المعلمة تريد أن تراني. بقيت مشدوهاً للحظة... ثم هرعت إليها، وقفت بين يديها الطيبتين، وأخذنا نتحدث. وسريعاً ما أقبل الآخرون الفضوليون: أصدقائي الشعراء يريدون التقرّب من الشاعرة الكبيرة التي لم تكن تأبه لأي واحد منهم! .