عايش الدكتور محمود علي عثمان الفترة الأصعب في تاريخ القضية الكردية، فهو بعدما تخرج طبيباً من جامعة بغداد في العام 1961 التحق بالثورة الكردية، بعدما التقى الملا مصطفى البارزاني في العام 1963 وعمل معه حلقة وصل بينه وبين قيادة الحزب الديموقراطي الكردستاني، قبل أن يصبح المستشار الأول للملا وطبيبه الخاص ومترجمه ومؤتمنه. ورافق عثمان البارزاني في معظم زياراته، في الداخل والخارج، خصوصاً زيارتيه إلى اسرائيل في العامين 1968 و1973. ويقول الذين يعرفون الدكتور عثمان أنه جريء لا يخشى عواقب ما يقول. وفي هذا الإطار كتب "كراساً" قبل 20 عاماً فيه لماذا فشلت الثورة الكردية المسلحة العام 1975 في شمال العراق، وكان المرحوم الملا مصطفى البارزاني لا يزال حياً يكابد الانكسار منفياً في إيران. وكشف عثمان يومها العلاقات الكردية الاسرائيلية وأدانها غير متنصل من مسؤوليتها. في لندن حيث يعيش الدكتور عثمان لاجئاً سياسياً منذ حوالي خمس سنوات، التقته "الوسط" في حوار طويل عاد فيه إلى تفاصيل العلاقات الكردية الاسرائيلية. أنت تصرّح منذ عشرين عاماً بأن لديكم، كحركة كردية، علاقات باسرائيل. فلماذا امتنعت طوال السنين الماضية عن كشف تفاصيل هذه العلاقة؟ - لم يسألني أحد، حتى الآن، عن تفاصيل علاقاتنا باسرائيل. كان همّ الناس معرفة ما إذا كانت لدينا علاقات معهم أم لا. ولم يكن همهم البحث في التفاصيل. ولو كنت سئلت عنها لأجبت، فحينما يقر الانسان بالمبدأ لا يضره الحديث عن التفاصيل. وعلى رغم كل ذلك فاننا منذ انتهاء ثورة أيلول سبتمبر لعام 1961، التي انتهت في العام 1975، كتبنا وتكلمنا في مجالات عدة عن علاقاتنا باسرائيل، سواء مع اخواننا العرب أم مع الفلسطينيين. وقمنا بنشاطات في لندن، كالمحاضرة التي ألقيتها في "ديوان الكوفة" عن سيرتي الذاتية في 28/9/1994، ذكرنا فيها ذلك. وأصدرنا في أوائل كانون الثاني يناير من العام 1977 كراساً بعنوان "تقييم مسيرة الثورة الكردية وانهيارها والدروس والعبر المستخلصة منها" أوردنا فيه موضوع علاقاتنا باسرائيل وادّناها واعتبرناها خطأ استراتيجياً بحق الثورة الكردية التي انحرفت عن نهجها التحرري. مَن هم الفلسطينيون والعرب الذين اطلعتموهم على علاقاتكم باسرائيل. ومتى تم ذلك؟ - في العام 1977 كنت في باريس حيث التقيت صديقي منذ أيام الدراسة في كلية الطب في بغداد الدكتور عصام سرطاوي، كان مستشاراً للرئيس ياسر عرفات اغتيل في البرتغال في ما بعد وبدأنا نتحدث عن آلامنا المشتركة، هو يحدثني عن مشاكل منظمة التحرير الفلسطينية مع الأنظمة العربية وكيف أنهم يعانون من أجهزتها الاستخبارية. وأنا أحدثه عن مشاكلنا مع الأنظمة العربية وغير العربية. كان سرطاوي المتزوج من السيدة العراقية وداد المفتي يؤمن بمبدأ المفاوضات السلمية مع اسرائيل ويفضّل الحصول على شبر في أرض فلسطين بدلاً من التشرد في بلدان العالم. تكلمت معه عن تفاصيل علاقاتنا باسرائيل وطلبت منه أن ينقلها لياسر عرفات. وعاتبته لأنهم كحركة فلسطينية لم يقدموا أي دعم لنا، ولا حتى مساعدات انسانية، طبية مثلاً، وبرر، رحمه الله، أسباب امتناعهم لعلاقتهم بالنظام العراقي واحتياجهم اليه. لكن الفلسطينيين لم يكونوا يلوموننا على علاقتنا باسرائيل، فهم يشعرون بتقصير اتجاهنا، بل ان بعضهم كان يتعاطف معنا على اعتبار أننا في الهمّ سواء. وفي لقاءاتي الأخيرة بالفلسطينيين سواء في باريس أو دمشق، بعد اتفاق أوسلو، قلت لهم أنكم بعد كل النضال الذي خضتموه ضد اسرائيل اكتفيتم بغزة وأريحا. فلماذا اذن كنتم تستكثرون علينا علاقتنا باسرائيل في السابق. أليس هو الاضطرار الذي يدفعنا لاتخاذ هذه السياسات؟ وفي العام 1982 بعد اجتياح اسرائيل للبنان، دعت ليبيا الى مؤتمر لحركات التحرر فيها، ودعوا الى ميثاق عربي للوقوف بوجه الصهاينة. وجاءت الوفود من مختلف أنحاء العالم العربي، وكانوا لا يعرفون ان للأكراد قضية باستثناء بعضهم وإذا بهم يضعون علامات استفهام وشكوكاً حول علاقة الحركة الكردية باسرائيل، وأخرجت الأحزاب الكردية، فطلبتُ الكلام من رئيس المؤتمر الرائد عبدالسلام جلود، وقلت : كانت لنا علاقات مع اسرائيل، وأسبابها كذا وكذا، لكنني أطلب منكم شيئاً واحداً، وهو اننا منذ العام 1975 نصرّح بعلاقاتنا باسرائيل معترفين بخطأها، ونحن نحاول ان نتقرّب منكم أنتم العرب. ومع ان مؤتمركم اسمه حركات التحرر العربية فنحن حضرناه لنكون جزءاً منكم ونعرض عليكم قضيتنا. فإن كنتم ترفضوننا قولوا لنا بصراحة، لنعود من جديد الى اسرائيل. وإذا قبلتم بنا فلماذا لا تعاملوننا كما تعاملون اخوانكم العرب؟ ما هي الأسباب التي دفعتكم لاقامة علاقات مع اسرائيل؟ - القتال الدائم ضدنا من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة غير الشرعية وغير المنتخبة، وعلى الخصوص نظام صدام. لقد حوصر الشعب الكردي في زاوية. وطبقاً لمثل الغريق يتشبث بقشة كنا نضع يدنا هنا وهناك،من دون ان تهمنا النتائج. وماذا عن الموقف الدولي والاقليمي؟ - كان هناك مثلث يتكون من ثلاثة اضلاع: ايران، اسرائيل، الولاياتالمتحدة. وكان شاه ايران ركيزة في المنطقة، ومَن دخل ضلعاً في المثلث دخل المثلث كله. والحركة الكردية كانت داخلة في ذلك المثلث اذ بدأت علاقاتها مع ايران ومن ثم اسرائيل وبعدها الولاياتالمتحدة. كانت لدى الأكراد نظرة اثبتت الأيام خطأها، ودللت على قصر نظرهم وسوء فهمهم للسياسة الدولية. فالمرحوم الملاّ مصطفى البرزاني أقام في الاتحاد السوفياتي حوالي 12 سنة، وقال انه حاول طوال تلك السنوات ان يحصل من السوفيات على تأييد للشعب الكردي فلم يتمكن. وفي النهاية أدرك انهم لا يحملون شيئاً للأكراد. ولذا اعتقد بأن الدول الكبرى إذا لم تساند شعباً صغيراً، فإن هذا الشعب لا يصل الى أهدافه. وكان البرزاني يقول انه يحاول ان يقضي بقية عمره للحصول على تأييد أميركي. وهو تصور ان الاسرائيليين أفضل وأقصر جسر يوصله الى الولاياتالمتحدة نتيجة تأثير اللوبي الصهيوني فيها. وبسبب صراعه مع العراقيين، فإنه سيحصل بالتالي على أهدافه. لقد تضررنا من العلاقات مع اسرائيل، لأننا في الأساس كنا نطالب بحكم ذاتي داخل العراق، وهو بلد عربي. ومن الخطأ استعداء العرب علينا. أما بالنسبة الى التصورات التي بناها الملاّ في الوصول الى الولاياتالمتحدة من خلال اسرائيل فكانت وهماً، لأن دول المثلث الثلاث كانت متفقة على كل شيء. وهو ما يتكرر الآن مع دول المثلث الجديد المكون من تركيا واسرائيل والولاياتالمتحدة. فمثلما كانت ايران في السابق جسراً الينا، حلت اليوم تركيا محلها. فإذا أغلقت تركيا حدودها سينتهي كل شيء من ناحية العلاقات مع أميركا وحلفائها! ذكرتم بأن الفلسطينيين كانوا على علم بعلاقاتكم مع اسرائيل. هل تعتقد بأنهم سرّبوا بعض المعلومات الى الحكومات العراقية؟ - علِمَ الفلسطينيون بعلاقتنا باسرائيل بعد العام 1975 فشل الحركة الكردية. وبالتأكيد سرّبوا أخبارها الى مَن يودون اعلامهم بها. وفي الوقت نفسه فإن الأكراد أنفسهم سربوا أخبار علاقتنا الى السلطة العراقية أيضاً، لأن كثيرين من الأكراد عادوا الى العراق بعد العام 1975. وخلال التحقيقات الأمنية والاستخبارية مع العائدين الكرد أعطوا كل ما لديهم من معلومات. وكان بين الأكراد مسؤولون في الحركة الكردية على علم بخفايا الأمور، ناهيك عن الفلسطينيين والجهات الأجنبية الأخرى التي لديها علاقات جيدة مع العراق. مَن كان المبادر، الأكراد أم الاسرائيليون، الى اقامة العلاقة. وكيف بدأت؟ - الاسرائيليون هم الذين بادروا الى اجراء الاتصالات بنا واقامة العلاقات معنا، لأن هدف الاسرائيليين يتلخص بأن كل حركة غير عربية في المنطقة العربية لديها مشاكل مع دولتها، فإن اسرائيل تقيم علاقات معها لاستغلالها والاستفادة منها في تحقيق مصالحها الخاصة. بدأت العلاقات معهم منذ مطلع العقد الستيني عن طريق كامران بدرخان أولاً وآخرين مثل عصمت شريف فانلي وصحافيين أجانب ثانياً. واستطيع القول ان العلاقة بدأت تعطي ثمارها العام 1963 فعلياً على الأرض. وقبل ذلك التاريخ، أي منذ بداية الحركة الكردية المسلحة، كانت لدينا علاقات كردية - ايرانية. وكان للايرانيين دور في المساعدة والتشجيع والتمهيد لاقامة العلاقات مع اسرائيل. وكان هدف ايران في عهد الشاه استغلال الحركة الكردية الى أقصى درجة ممكنة. وكانت طهران المركز التي تُدار منه العلاقة مع اسرائيل فالقادم الينا يأتي عن طريق طهران والذاهب منا يذهب بواسطة الطريق نفسه. وحينما بدأت العلاقة مع اسرائيل تعطي ثمارها على الأرض، كانت القيادة الكردية "كلها"، وأقول "كلها" متفقة على ذلك. ولا خلاف بين القياديين الأكراد مطلقاً لرفض العلاقة مع اسرائيل. وكان المكتب السياسي للحزب الديموقراطي الكردستاني في ذلك الوقت يقوده ابراهيم أحمد كسكرتير للحزب. وعلى رغم الخلافات بين رئيس الحزب الملاّ مصطفى البرزاني وسكرتير الحزب ابراهيم احمد، على مواضيع كثيرة إلا أنهما كانا متفقين تماماً على العلاقة مع اسرائيل. وإذا كانت هناك بعض الحساسيات بينهما، فهي حول من يجب أن يكون الرأس الممسك بحبل تلك العلاقة، الرئيس أم المكتب السياسي؟ عندما حصل الانشقاق في الحركة الكردية العام 1964 وذهب ابراهيم أحمد وجلال طالباني الى ايران ومن ثم عادا الى العراق، توقفت العلاقة مع اسرائيل الى حد ما على الأرض، ونقلت اسرائيل مقرها من كردستان الى ايران، ثم رجعت العلاقة الى ما كانت عليه في نيسان العام 1965. وأما بالنسبة إلي فأني دخلت في تلك العلاقة العام 1965، وفي المكتب السياسي الجديد بعد انشقاق ابراهيم أحمد وجماعته. لكن ابراهيم أحمد وجلال طالباني ينفيان علاقتهما باسرائيل! - ابراهيم أحمد لا ينفي ذلك. بل يقر بأنه كانت لدينا علاقات مع اسرائيل. ولا أحد يستطيع أن ينكر ذلك، لأن العلاقة مع اسرائيل لم تكن علاقة شخصية، انما كانت علاقة حركة بكاملها باسرائيل، والمكتب السياسي، هو الذي يتحمل مسؤولية تلك العلاقة. أما كون أحد الأشخاص مندفعاً والآخر أقل اندفاعاً، فذلك أمر آخر. غير أن الكل متورط في العلاقة. وكان المرحوم ملاّ مصطفى أكثرنا حماساً لاقامة العلاقات مع اسرائيل، لأنه كان يتصور ان اسرائيل هي التي ستوصله الى الولاياتالمتحدة. قلت مرة ان جلال طالباني اجتمع بشمعون بيريز، لكنه رد عليك نافياً ذلك. فهل ما زلت عند رأيك؟ - يوم اجتمع جلال ببيريز في العام 1963، لم أكن مسؤولاً في الحركة الكردية، لكن كامران بدرخان هو الذي أخبرني في ما بعد بذلك الاجتماع، لأنه كان الوسيط بينهما. وقد أخبرني أيضاً بذلك المرحوم البرزاني. ثم أن جلال يقر بأن بدرخان طلب اليه الاجتماع ببيريز لكنه ينفي حصول اللقاء بناء على نصيحة السوفيات. كيف قبلت الحركة الكردية لنفسها أن تقيم علاقات مع جهة طارئة على المنطقة؟ - في ظروف الحرب يصاب الكثيرون بقصر النظر، لأن غالبية الآراء والتحليلات لا تكون هادئة كي يفكر الانسان في نتائجها وعواقبها. هناك عاملان رئيسيان دفعانا الى اقامة العلاقات مع اسرائيل، ولو كنا درسنا الموضوع كله بترو وتأنٍ لما أقمنا تلك العلاقة، لأننا كأكراد كنا نطالب بتحقيق هدف داخل بلدنا العراق، ولم نطالب باقامة كيان مستقل. لكن الحكومات العراقية لم تتفهم مطالبنا، فحينما تصر على القتال، وهذا هو العامل الأول، تعاند أنت وتحمل السلاح ضدها. وعندها ستكون بحاجة الى السلاح فتضطر للجوء الى اسرائيل أو الولاياتالمتحدة، وهذا هو العامل الثاني. هل قدمتم، كأكراد، مساعدات معينة الى اسرائيل أو قمتم بأدوار لمصلحتها خلال حروب 1956، 1967، 1973؟ - في العام 1956 لم نكن في قتال مع الحكومة العراقية، ولم تكن لدينا علاقات مع اسرائيل. وكنا كحركة كردية مع المصريين ضد العدوان الثلاثي عليها. شاركنا في تظاهرات وغيرها، وهذا أمر معروف. وفي العام 1967 طلب منا الاسرائيليون ان نساندهم، من خلال ضرب الجيش العراقي من الخلف، ولكن مع مطلع شهر حزيران يونيو 1967 جاءنا وفد حكومي عراقي الى "كلالة" برئاسة طاهر يحيى، وطلب في البداية من الملاّ ارسال قوة كردية لمحاربة اسرائيل الى جانب العرب. فأجاب البرزاني: "أنتم تقاتلون بالطائرات والدبابات والصواريخ. وأنا لا أملك غير البندقية. فكيف سأرسل هذه القوة؟! ثم أنكم كنتم حتى يوم أمس تقاتلوننا. والآن تطلبون مني محاربة اسرائيل. ما هذا؟!". نصيحة الملا ونصح الملاّ الوفد الرسمي بعدم التورط في حرب مع اسرائيل، وقال لهم: "ستخسرون الحرب وستدمرون". ثم طلب الوفد من الملاّ ايقاف القتال مع الجيش العراقي ليتسنى لهم ارساله لمحاربة اسرائيل، فقبل الطلب العراقي ورفض الطلب الاسرائيلي وأوقفنا القتال ولم نحارب. وهذا دليل على أننا لم نستغل الفرص لتوجيه ضربة الى الجيش العراقي، ولم نكن ننصاع لكل ما كانت تطلبه اسرائيل منا. وفي العام 1973 كرر الاسرائيليون علينا الطلب نفسه. وكان وضعهم في غاية السوء، والحوّا علينا كثيراً بفتح جبهة ضد العراقيين، لكننا أوقفنا اطلاق النار على الجيش العراقي من جانب واحد ومن دون ان يطلب منا النظام ذلك. وفي الحقيقة كنا في مفاوضات مع السلطة. وأتذكر ان الايرانيين لم يلحوا علينا أبداً بفتح جبهة ضد العراقيين، لكون علاقاتهم كانت جيدة مع السادات. أما الأميركيون فلم يتحدثوا معنا بشيء مطلقاً في حرب العام 1973. ولكن من جهة أخرى ألمح الاسرائيليون الى استغلال علاقاتنا مع الفلسطينيين للاضرار بالحركة الفلسطينية، أي أرادوا استخدامنا في تحقيق أهدافهم لايذاء الفلسطينيين، لكننا لم نعطهم المجال في ذلك. بل كنا في كل نشراتنا الاخبارية وبياناتنا نؤيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. ان علاقاتنا مع الاسرائيليين لم تقم على أساس المبادئ والقناعة. انما ظروف القتال هي التي فرضتها علينا. هل تتذكر طلباً اسرائيلياً محدداً منكم يضر بالفلسطينيين؟ - بحكم علاقاتنا بالفلسطينيين كنا نعرف مثلاً أنهم في بيروت ونعرف أماكن تواجدهم ومقراتهم. فكان الاسرائيليون يطلبون منا معلومات عن أشخاص فلسطينيين. وعن علاقات الحركة الفلسطينية بالنظام العراقي. أين يعيشون، أماكن وأوقات تواجدهم، اسماؤهم، عناوينهم، تحركاتهم... الخ لغرض احداث تفجير هنا أو هناك أو اغتيال، وكنا دائماً نرفض أن نستجيب لهم. وماذا عن التعاون الاستخباري بينكم وبين الاسرائيليين؟ - لقد حصل تعاون استخباري مع اسرائيل، لأن العلاقات بيننا كانت عسكرية، ما يعني ان هناك أسلحة وضباطاً وخبراء ورجال موساد. وهي أكثر منها سياسية حيث وعدونا بدعم قضيتنا في الولاياتالمتحدة، لكنهم لم يفعلوا شيئاً يذكر لنا. الجهاز الذي كان يشرف على علاقاتهم معنا، هو الموساد الاسرائيلي، تماماً كما هو الآن جهاز الاستخبارات التركية "ميت" الذي يشرف على علاقات الأكراد بتركيا حالياً. وكان بيننا تبادل معلومات. لكن نطاقها - حسب ما أتصور - كان عراقياً. كان الاسرائيليون يطلبون منا معلومات عن الجيش العراقي، وفي الوقت نفسه يزودوننا معلومات عن تحركاته. حتى ان المستشفى الميداني الذي أقامه الاسرائيليون في كردستان، كان من أهدافه جمع المعلومات الاستخبارية عن العراق لمصلحة اسرائيل. لماذا كل هذا التركيز على العراق، وهو ليس من دول المواجهة مع اسرائيل. وما نوع المعلومات التي كانوا يطلبونها منكم؟ - كانوا دائماً يعتبرون العراق خطراً على اسرائيل، والنواة الكبرى للجبهة الشرقية. وقبله مصر أولاً. هذان البلدان هما أخطر بلدين بالاضافة الى سورية - في نظرهم - على أمن اسرائيل، ودائماً كانوا يرددون هذا الكلام أمامنا، معتبرين أنه من البديهيات ان العراق سيدخل في أي حرب مع اسرائيل، سواء عن طريق الأردن أم عن طريق سورية. وبعد توقيع المعاهدة السوفياتية - العراقية كان يهمهم جداً معرفة تفاصيل المعاهدة، وماذا أعطى السوفيات للعراق. اوراق الموساد مَن كان أكثركم اتصالاً باسرائيل ومسؤولاً عن الاستخبارات الكردية وتبادل المعلومات مع الاسرائيليين؟ - كان في وقتها المسؤول الأول عن الأمن والمخابرات ...، الذي تسميه أوراق الموساد "ميرخان"، ولهذا السبب كانت علاقات اسرائيل معه أكثر من غيره، لأن طبيعة عمله تتطلب منه أن يكون أكثرنا اتصالاً بهم. وكان يساعده ...، المسؤول عن عمليات تفجير النفط في كركوك. أما المرحوم ادريس بارزاني فكان مسؤولاً عن الشؤون العسكرية. وكنت أنا مسؤولاً عن العلاقات الخارجية وارافق الملاّ في زياراته. هل كانت لديكم القدرة على تزويد الاسرائيليين بمعلومات دقيقة. ومن كان يزودكم بالمعلومات المطلوبة عن العراق وجيشه وأنتم في أعالي جبال كردستان؟! - لا اعتقد أنها كانت دقيقة جداً. لكن قسماً منها كان يعطى للاسرائيليين في نطاق تبادل المعلومات، وهم بالتأكيد استفادوا منها. كانت تقع في أيدينا معلومات أثناء القتال، حيث نأسر بعض العسكريين فنعرف منهم الحقائق. وكحركة كردية كان لدينا أناس يعملون داخل الجيش العراقي وداخل العراق، من الأكراد وغيرهم. فكانت تأتينا المعلومات منهم. كونك طبيباً. ما هي المساعدات الطبية التي قدمتها اسرائيل لكم؟ - انشأ الاسرائيليون مستشفى ميدانياً في كردستان العام 1966 بكل معداته وكوادره الطبية والصحية، قدم لنا خدمات مفيدة، لأننا لم نكن نملك في ذلك الوقت مستشفيات كافية. كما أنهم أرادوا ألا تقتصر مساعداتهم على النواحي العسكرية، وانما تشمل الانسانية أيضاً. وبعد اتفاقنا مع النظام العراقي في آذار مارس عام 1970 قررت الحكومة الاسرائيلية تفكيك المستشفى الميداني ووقف عمله بحجة زعلهم من أحد المسؤولين الأكراد الذي أبدى مخاوفه من وجود المستشفى في كردستان، لكنني اعتقد بأن قرارات الدول لا تتخذ بناء على زعل شخص أو رضاه. من اقترح اقامة المستشفى الاسرائيلي في كردستان. وكم كان عدد الأطباء الاسرائيليين الذين يعملون فيه. وهل أجروا عمليات جراحية كبرى للأكراد؟ - الاسرائيليون هم الذين اقترحوا، ونحن رحبنا بالاقتراح. ولكننا كنا نطلب دائماً من الأميركيين والايرانيين ان يقدموا لنا المساعدة في مجالات الصحة والتعليم والغذاء والخدمات الأخرى. وحينما لبّى الاسرائيليون الطلب، فما المانع في أن لا نقبله ما دامت بيننا علاقات على مستوى الموساد؟! كان عدد الأطباء الاسرائيليين في كردستان اثنين، أحدهم للباطنية والثاني جرّاح ويأتي طبيب ثالث للأسنان أحياناً. ولم يجروا عمليات كبرى في المستشفى، انما كانوا يرسلون من يحتاج لتلك العمليات الى ايران. ما حجم المساعدات المالية التي قدمتها لكم اسرائيل؟ - المبالغ التي كان الاسرائيليون يقدمونها لنا كانت رمزية. لكن الملا اعترف بأن الدولة الوحيدة التي تعطيه ضعف ما يطلب هي اسرائيل. بخلاف الدول الأخرى التي كانت تعطيه في أفضل الأحوال نصف ما يطلب؟! - هذا غير صحيح في حقيقته. صحيح كان يقول لهم هذا الكلام، ولكنه كان يحاول استمالتهم بهذا الاطراء، ولم ينفع أسلوبه معهم. ولذا كانت مساعداتهم المالية لا تتجاوز مئة ألف دولار شهرياً. وكذلك مساعدات الولاياتالمتحدة، كانت رمزية أيضاً. أما ايران فكانت تعطينا عشرة أضعاف ما كانت تعطينا اسرائيل. وأميركا مالياً في 1973 و1974 على وجه الخصوص. وماذا عن المساعدات العسكرية؟ - اما المساعدات العسكرية فكانت اسرائيل تقدم لنا أكثر من ايرانوالولاياتالمتحدة. لكن السلاح كله كان دفاعياً. ولم يقدم لنا الأميركيون والايرانيون والاسرائيليون سلاحاً هجومياً جيداً، لكي نبقى منقادين لهم. وكما كان يقول المسؤولون الايرانيون انهم يريدون استمرار اللهيب بشرط ان لا يتحول الى حريق كبير. وكانوا اذا أعطونا سلاحاً، مثل صواريخ ضد الدبابات، فانهم لا يعطوننا سوى بضعة صواريخ حتى نضطر للعودة اليهم بعد نفاذها، وكي لا تتطور القضية الكردية فتمتد الى أكراد تركياوايران. كان السلاح يعبر الينا عن طريق ايران، ولذا فهي التي كانت تتحكم بنوعيته وكميته. وكان لدى اسرائيل سلاح كثير. منه غنائم حصلوا عليها أثناء معاركهم مع العرب، بالاضافة الى أسلحتهم القديمة أو التي لا يحتاجونها. صاروخ رايير هل زودتكم اسرائيل بسلاح ثقيل. كالدبابات والمدرعات ومقاومات الطائرات مثلاً؟ - دبابات كلا... لكني أتذكر بأن موشي دايان وزير الدفاع الاسرائيلي السابق قرر تزويدنا بعدد من الدبابات، غير أن الايرانيين لم يسمحوا بذلك، بحجة خشيتهم من أن نقيم كياناً مستقلاً في كردستان. وأحسب ان الرفض تم بموافقة الدول الثلاث: أميركا وايران واسرائيل. أما أسلحة مقاومة الطائرات فكانت قديمة، وبالرغم من أنني لست عسكرياً، ولكن ما علق في ذهني من أسماء - ان لم تخني الذاكرة - ام 30 وام 23 مقاومات طائرات، وهي لا تطول الطائرة لأن مداها قصير. وفي احدى المرات أعطونا صاروخاً ضد الطائرات، كان اسمه "رايير" بريطاني الصنع. جاء به الايرانيون واشترطوا أن يستخدموه بأنفسهم، لا نحن الأكراد. وقد استخدموه فعلاً واسقطوا طائرة عراقية من نوع "اليوشن" العام 1974 وأسرنا طيارها مع مساعديه. وبعد اتفاقية الجزائر العام 1975 أخذوا قاعدة اطلاق الصواريخ الى ايران. واستطعنا في تلك الفترة خلال حربنا مع العراقيين ان نأسر أربعة طيارين عراقيين سلمناهم في ما بعد الى الصليب الأحمر الدولي. وكنا في العام 1969 اسقطنا طائرة عراقية بمدفع عيار 34 ملم، وفي العام 1974 اسقطنا ميغ 17 على ما أظن. على أية حال، في العام 1974 أعطونا أسلحة كثيرة ومهمة كصواريخ "ساكر" الروسية التي تدّمر الدبابات، وهي فعالة جداً، وصواريخ "سام 7" المحمولة على الكتف لاسقاط الطائرات. وفوجئنا بكثرة السلاح ونوعيته، ثم تبيّن لنا ان الايرانيين يجرون مفاوضات مع النظام العراقي "تحت العباءة" انتجت فيما بعد اتفاقية الجزائر. المعادلة واضحة، فأنتم تحققون الانتصارات وهم يفاوضون من موقع قوة فيحصلون على شروط وتنازلات أفضل. - نعم بالضبط... وهذا ما حصل معنا، وكنا بالنتيجة نحن الضحية، ففي الشهور الستة الأخيرة من الحرب قدمت لنا مساعدات بالمال والسلاح من دون حساب، لكي يحصلوا على شروط أفضل. ويوم حصلوا عليها في آذار مارس 1975 أوقفوا كل شيء. ولو كنت يومها تفتش بجهاز الميكروسكوب عن ايراني أو أميركي أو اسرائيلي، فلن تعثر عليه في كل ارجاء كردستان انهم ذابوا ولم نعد نرى بشراً منهم هناك بالمرة! وكم كانت تلك الأموال التي أعطوكموها في تلك الفترة. وأين ذهبت؟ - لقد صُرفت معظم الأموال على الحركة الكردية وقوات "البيشمركة" واللاجئين وأهالي الشهداء والعوائل واحتياجاتنا، وغير ذلك ولم يَجنِ منها المرحوم الملاّ مصطفى البرزاني شيئاً، لأنه لم يكن رجلاً مادياً. ولكن من المؤكد ان قسماً من الأموال بقي لدى القيادة. وحدث لغط كثير، بعد الثورة، حول مصير الأموال. التي حصل بعض التلاعب فيها. وفي فترة "تسمين الخراف قبل ذبحها" 1973 - 1974 وصلنا من ايرانوالولاياتالمتحدة واسرائيل حوالي 48 مليون دينار عراقي. وكان حجمنا كبيراً، اذ بلغت أعداد مقاتلينا الأكراد نحو مئة ألف مقاتل 60 ألف مقاتل تحت السلاح و40 ألف احتياط. بيد أنه لم يصرف، في أقل تقدير، من تلك المبالغ، ثلثها. أي نحو 16 مليون دينار عراقي، وهو ما يعادل في ذلك الوقت أكثر من 50 مليون دولار أميركي، وهي التي بقيت لدى القيادة الكردية. اتصالات عبر باريس ما كانت قنواتكم الأخرى للاتصال باسرائيل؟ - حينما بدأت العلاقات الرسمية بين اسرائيل والحركة الكردية، كانت قنوات الاتصال الرئيسية باسرائيل هي: اسرائيل، كردستان، طهران. والأخيرة هي الجسر والأساس. ولكن قبل أن تبدأ العلاقات الرسمية والمباشرة كانت لدينا قناة باريس وهي أكثر العواصم التي حصلت فيها اتصالات سرية، وكان المرحوم كامران بدرخان يعيش هناك ولديه اتصالات باسرائيل منذ الأربعينات، ولكننا كأكراد لم تكن لدينا علاقات ببدرخان في تلك الفترة أما الولاياتالمتحدة فكانت تتحفظ كثيراً عن مرور المسائل عبرها أو من خلالها، لأنهم كانوا يحسبون حسابات معينة لتركياوايران والدول العربية. وكانت هناك قنوات أخرى يمثلها الصحافيون، اذ كان بعض الصحافيين الأميركيين وهم اسرائيليون يأتون لزيارة الملاّ في كردستان ويعودون الى بلدهم، ومن خلالهم كانت تتم الاتصالات وايصال الرسائل. ولكن الغريب ان هؤلاء الصحافيين الفّوا كتباً عن الأكراد، ولم يتطرقوا الى علاقتهم باسرائيل! - صحيح. لا بد أن أقول ان دانا آدمز شمدت مراسل صحيفة "نيويورك تايمز" ألّف كتاباً عن الأكراد بعنوان "رحلة الى رجال شجعان في كردستان" تحدث مع الملاّ عن علاقته باسرائيل، وكذلك الملاّ لأنه كان يتكلم في هذا الموضوع مع كل صحافي يزوره فيعتب على الأميركيين والاسرائيليين والغرب! ودار حديث طويل مع شمدت عن اسرائيل، لكن شمدت، الذي التقيته مرات عدة في الولاياتالمتحدة أثناء زياراتي لها، لم يتطرق في كتابه الى هذه المسائل، لاعتقاده بأن بحث علاقات الأكراد بالاسرائيليين ليس ذا فائدة. وقبل شمدت كتب ديفيد آدمسون وهو انكليزي وزار كردستان ولم يتطرق الى علاقة الأكراد باسرائيل، وكذلك ديريك كنان. هل كنتم تدوّنون محاضر اللقاءات والاجتماعات بالاسرائيليين؟ - كلا... لم نكن ندّون تلك المحاضر، ولكن بالتأكيد كان الجانب الاسرائيلي يفعل ذلك على رغم ان معظم المسائل كان من المفترض أن تكون سرية للغاية، ولهذا كنا نتجنب تدوينها. واعتبر الآن ذلك خطأ فظيعاً. لم يكن هذا النقص مع الاسرائيليين فقط. انما في مجمل اتصالات الحركة الكردية مع مختلف الجهات كانت المسائل غير مدوّنة، والوثائق قليلة. كيف كانت تتم اتصالاتكم في ما بينكم كثوار أكراد. أين ذهبت رسائلكم وبرقياتكم التي كانت تصلكم الى مقر القيادة في حاج عمران؟ - كانت البرقيات تصلنا عن طريق اللاسلكي. ومن المحتمل ان يكون جزء من المراسلات والبرقيات محفوظاً في بيت البرزاني. هل تكشف بعض اسماء الاسرائيليين ووظائفهم ممن كانوا يزورونكم ويعملون معكم في كردستان؟ - معظم الذين كانوا يزوروننا لأداء مهمات معينة في كردستان كانوا يستخدمون اسماء غير حقيقية مستعارة، وفوجئت أخيراً بكشف اسرائيل بعض الأسماء الحقيقية لهؤلاء. أما اولئك الذين لم تكشف اسرائيل عن اسمائهم أو أشارت اليهم برموز معينة أو ذكرتهم باسماء غير حقيقية، فانني أتصور بأنه ما يزال لهؤلاء مهمات في كردستان أو ايران أو تركيا أو حتى العراق، ولا يزالون يتعاملون مع الأكراد بطريقة أو أخرى. أما البعض الآخر ممن كانوا يزوروننا في كردستان فلم يغيروا اسماءهم، وكانوا يعرّفوننا باسمائهم الحقيقية ووظائفهم ومهماتهم. من هؤلاء مثلاً، رئيس الموساد مائير عميت ومن بعده زيفي زامير ورجل الموساد والمدير العام في وزارة الخارجية الاسرائيلية ديفيد كيمحي والمقدم الضابط المظلي تسوري ساجي ورئيس أحد وفود الموساد الى كردستان حاييم لبكوب والرائد المظلي المُعار الى جهاز الموساد اسحق عبادي، وآخرون غيرهم. كانت لكل زائر منهم واجبات محددة. وكان قسم منهم يعمل في الملحقية التجارية في السفارة الاسرائيلية في طهران التي كانت أكبر وأنشط سفارة. فالضابط كان يقول أنا ضابط جيش ومهمتي تدريب الأكراد مثلاً، وآخر يدّعي أنه من وزارة الخارجية أو الزراعة أو غيرها. أما الآخرون فكانوا لا يكشفون عن هوياتهم الحقيقية بناء على أوامر حكومتهم. هل قاد الضباط الاسرائيليون ورجال الموساد عمليات الأكراد ضد القوات العراقية؟ - لم يقد الاسرائيليون أي عملية من عملياتنا. وما يذكرونه بهذا الخصوص غير صحيح، انهم يهولون أدوارهم، وكمثال على ذلك، كشفوا عن عمليتين كبيرتين، الأولى عملية هندرين والثانية عملية سد دوكان، فلأن عملية هندرين نجحت يدعي الاسرائيليون انهم قادوها، ولأن عملية سد دوكان فشلت يحمّلون الأكراد مسؤولية فشلها. ولعلمك لم يُقتل في معارك هندرين 6500 عراقي كما يزعم الاسرائيليون. ان القتلى العراقيين لم يتجاوزوا المئتين. اما الذي قاد تلك العملية فهو الكردي المرحوم فاخر مركسوري، الذي قُتل في ما بعد. وكان الاسرائيليون في حاج عمران على بعد 60 كيلومتراً من أرض المعركة. نعم لقد زودنا الضباط الاسرائيليون بالأسلحة وأعطانا الضابط الاسرائيلي تسوري ساجي بعض النصائح والارشادات هنا وهناك، ولكن القيادة كانت بيد الأكراد وألحقنا الهزيمة بالجيش العراقي . الحلقة الثانية الاسبوع المقبل