عندما تتعطل لغة الحوار بين الزوجين وتحل لغة الصمت وربما الاشارات والايماءات تصبح العلاقة الزوجية على "كف عفريت"، ويصبح الطرفان مهددين بزيارة الطبيب النفساني او المأذون، ايهما اقرب... هذا ما اكدته دراسة علمية صادرة عن وحدة الاسرة "المركز القومي للبحوث الاجتماعية" في القاهرة. اذ ثبت ان حوالي 40 في المئة من الزوجات المترددات على الاطباء النفسانيين يعانين من الاكتئاب والقلق بسبب صمت الزوج، في حين جاء في الدراسة ان 20 في المئة من الازواج الانطوائيين اشتكوا من صمت الزوجة في البيت وعدم قدرتها على فتح حوار متجدد حول قضايا تهم الزوج، ان كانت قضايا عامة او قضايا سياسية. والطريف ان الزوجات اللواتي يشكين من الزوج الصامت في المنزل، يؤكدن ان الزوج طليق اللسان لبق ومنطقي مع اصدقائه، سواء عبر الهاتف او في الزيارات العائلية، ثم يتحول الزوج نفسه الى "أبي الهول" عندما ينتهي حديث الاصدقاء، وفي المقابل فإن الازواج يشتكون من ان الزوجة لا تجيد لغة الحوار. وانها تستبد برأيها وتحاول ان تفرضه على كل الامور خصوصاً القضايا العائلية، كما انها - اي الزوجة - لا تفهم في السياسة والاقتصاد وكرة القدم، وهي ابرز اهتمامات الازواج، لكنها "علاّمة" في شؤون الحظ والابراج والموضة والماكياج، فضلاً عن مسلسلات التلفزيون. من هنا يغيب الحوار داخل المنزل، وبين قطبيه، ويحل الشجار احياناً لغة يومية للتفاهم بينهما، ولكن يبقى الصمت هو الضيف الدائم على جدول الاعمال الاسري، فهل التكافؤ الثقافي بين الزوجين له علاقة بغياب الحوار بينهما؟ وهل وجود الحب قبل الزواج وبعده يكفي لاقامة جسور حوار حميمي بين الطرفين؟ ام ان هناك اسباباً اخرى تجعل الصمت ينسج خيوطه في البيت، مثل العنكبوت؟ يقول الدكتور عادل صادق استاذ الطب النفسي: "في الغالب يصمت الرجل بعد فترة من الزواج طالت او قصرت، لأنه بطبيعته اقل كلاماً من المرأة واكثر حرصاً منها على اظهار مشاعره او ابداء آرائه في شؤون الحياة المختلفة واليومية". ويضيف الدكتور صادق: "والصمت الزوجي انواع، فأحياناً يكون الصمت ابلغ من الكلام واكثر تعبيراً عن المشاعر والاحاسيس، كما في حالات الضيق او الغضب مثلاً، وهناك صمت ودود: بمعنى ان الانسان يجب ان يخلد الى نفسه او يدع الآخر يفعل ذلك، لمراجعة احد امور حياته العادية او للتأمل وغيره، وذلك من دون ان يكون بالضرورة كارهاً للتحدث الى الطرف الآخر او منصرفاً عنه". اشياء الحياة * ماذا عن الانواع الاخرى من الصمت الزوجي؟ - هناك ايضاً الصمت العدواني، وهو تعمد عدم الكلام مع الطرف الآخر من اجل تجاهله تماماً، وهذا النوع الاخير معناه ان الحب المفترض وجوده - بداهة - في حياة الزوجين ترك مكانه للملل والسأم، وفي هذا الصدد يقال انه عندما يدخل الملل من الباب يخرج نعش الحياة الزوجية طائراً من الشباك. * فماذا على الزوجين ان يفعلاه في هذه الحالة؟ - حينما يسود مثل هذا الصمت بسبب الملل، ويتحول الامر الى عدوانية خافية ونفور مستبطن، ينبغي على الزوجين ان يقفا وقفة سريعة لاعادة تقويم اوضاعهما الحياتية، وللبحث عن اسباب الجفاء ومحاولة تجنبها قدر الامكان، او على الاقل التخفيف من حدتها، وذلك لأن من الطبيعي توافر لغة حوار معينة بين طرفي العلاقة الزوجية سواء أكان الحوار منطوقاً او غير منطوق. * وهل صحيح ان "الزوج المثقف" بالذات يعاني من صمت زوجته؟ - غالباً، لأنه في معظم الزيجات لا يحسن الشخص المثقف الاختيار، في تقديري، ولهذا من النادر ان يحالف المثقفين التوفيق في حياتهم الزوجية، لأنهم اصحاب عقليات ومقاييس خاصة، ويجب ان تكون الزوجة - وفقاً لتلك المقاييس - طموحة وقارئة ومتفهمة، اما اذا لم تتوافر فيها هذه الصفات فإنها سوف تفتقد ابجديات لغة الحوار مع الزوج المثقف، وبالتالي يكون الصمت وتكون الهامشية والعزلة. على اية حال، وفي جميع الزيجات على وجه العموم، يجب ان تكون هناك ارضية مشتركة للكلام عنها بين الطرفين، ومنها الاهتمامات والطموحات والآمال الواحدة او المتقاربة على الاقل. اما خبير علم الاجتماع علي فهمي فيحدد اسباب الصمت بين الازواج بقوله: "لهذا الصمت اسباب عدة، اهمها عدم التوافق بين الزوجين او جهل اي منهما بأهمية التحاور في شؤون واشياء الحياة التي ينبغي التحدث عنها، ثم ان هناك سبباً آخر مهماً وهو ان معظم الزوجات لا يكون لديهن - كموضوع للحديث - سوى مشاكل المنزل والاولاد، وربما الجيران ايضاً، ناهيك عن الاسعار والطلبات الخاصة وغيرها مما يؤدي الى تنازل الزوج طوعاً عن حقه في الكلام المباح". * ولكن الاحداث الزوجية اليومية من الممكن ان تكون مادة جيدة للحديث عنها؟ - هذا صحيح، غير ان من الاهمية بمكان ملاحظة ان الهواية المشتركة عامل اساسي من عوامل نمو الحوار اليومي، فعندما يتحدث الزوج مثلاً عن السياسة او في شأن من شؤون كرة القدم ينبغي ان تكون الزوجة من هواة هذه او تلك وهكذا... ومن المهم ايضاً ان يحاول كل طرف مجاملة الآخر عن طريق مشاركته بعضاً من هواياته لو لم تكن هناك هوايات واحدة بالفعل. ومن ناحية اخرى هناك سبب ثانوي او طارئ وهو ان مجتمعنا العربي يعيش الآن ما يمكن ان نسميه عصر السطوة الاعلامية، فثمة انتشار لا مثيل له من قبل لوسائل الاعلام المختلفة، وعلى رأسها التلفزيون والفيديو، وهو الامر الذي يجعل الجميع معلقين ببرامج التسلية والمنوعات والمسلسلات التلفزيونية وسواها، بحيث لم يعد هناك وقت للكلام سواء بين الازواج او الاصدقاء او الاهل، اذ يمضي معظم الناس الآن زياراتهم المنزلية للآخرين في مشاهدة التلفزيون معهم، ولذلك ليس من المستغرب ان يطالعنا في واقع الحياة الزوجية ذلك المشهد التمثيلي القديم في افلام السينما والذي كان يعبر عن الملل الزوجي، وهو مشهد الزوج يقرأ الصحف بينما زوجته والاطفال يتطلعون الى جهاز التلفزيون في صمت ولا صوت يعلو فوق صوت هذا الاخير. صمت البحر * وهل يمكن ارجاع "حديث الصمت" الزوجي الى التربية الاجتماعية؟ - الواقع ان للأمر علاقة وطيدة بالتربية وبطرق التعلم منذ الطفولة الى حد بعيد. ففي المدرسة الاولية غالباً ما يقف التلميذ الصغير موقف الصمت من معلمه الذي لا يعطيه فرصة الحديث او المناقشة لإبداء رأيه، ولو اخطأ الطفل بطريقة ما يصبح العقاب هو الوسيلة الوحيدة لردعه من دون ان يكلف المعلم نفسه عناء التحدث الى الطفل، هذا نوع من التربية قائم على الاذعان والقهر وليس هناك مناقشة على حد التعبير الشائع، وهو ما يؤثر سلباً على اطفالنا من الجنسين عندما يكبرون ويصبحون ازواجاً وزوجات بطبيعة الحال. ونترك الخبراء والاطباء الى "الصامتين" من الازواج والزوجات لكي نتبين الاسباب والدوافع والنتائج من وجهتهم، وبناء على تجربتهم الزوجية، يقول محمود عطية سعيد 36 عاماً - محاسب: "اعترف انني واحد من ازواج الصمت - ان صح التعبير - فأنا لا احادث زوجتي الا نادراً وفي يوم الاجازة بالتحديد بضع كلمات قليلة لاستيضاح أمر من الامور او للسؤال عن الاهل والاصدقاء وربما عن فيلم السهرة في التلفزيون او حتى بخصوص الطعام الذي ستطهيه في الغد وتضعه في الثلاجة، وانا اعتبر هذا حديثاً من النوع الداعي الى السأم ولكن لا مفر فهو تحصيل حاصل. * وفي تقديرك، هل تستقيم حياتكما الزوجية بهذه الكيفية؟ - انها تسير على وتيرة واحدة، وهذه "الاستقامة" حقاً هي ما يزعجني بشدة، غير انني لا اعرف سبباً معيناً للصمت الذي اعاني منه، وربما كان السبب هو اكتشافي المبكر ان زوجتي مستعمة غير جيدة، فهي تقاطعني قبل الانتهاء من الحديث غالباً بالذات، وحينما كنت احادثها في بداية زواجنا عن تفاصيل عملي، اما الآن فانا لا اخبرها بشيء من هذا القبيل اطلاقاً. وعلى عكس الحالة السابقة جاءت شكوى الزوج س. ع وهو طبيب شاب 32 عاماً ومتزوج حديثاً... "الواقع ان زوجتي من النوع المحب بل العاشق للكلام، فهي تستحضر عشرة موضوعات عندما ابدأ في محادثتها بشأن موضوع واحد، وحينما تصمت فإنه يكون صمتاً شبيهاً بصمت البحر قبل عاصفة من الكلام". * اذن ليس هناك صمت بينكما؟ - الصمت من جانبي انا شيئاً فشيئاً اصبحت اتجنب فتح الكلام معها، الى حد انني صرت اخشى ذلك بشكل غير طبيعي ولا منطقي، فكان صمتي التام هو خط دفاعي الاول والاخير. وفي هذا السياق يعتبر الدكتور محمد خليفة كمالي طبيب عيون ان صمت الزوج او انصرافه عن الحديث داخل المنزل هو مسؤولية الزوجة بالدرجة الاولى. * ولماذا؟ - لأنها من المفترض، خصوصاً اذا كانت ربة منزل ولا تعمل، ان تتفهم مشاغل الزوج واعماله فلا ترهقه بالحديث عن مشاغلها ومشاكلها الصغيرة حتى لا يصبح الامر مصدر ازعاج له في نهاية المطاف فيصمت تماماً. غريب في بيتي ونأتي الى الزوجات المتهمات لكي نعرف دفاعهن في قضية الصمت الزوجي المثارة تقول السيدة ف. م وهي زوجة وموظفة في احدى الشركات: "دائماً ما اشعر ان زوجي غريب عني نظراً لأننا لا نتبادل الحديث الا لماماً على مدى اليوم، او بالاحرى على مدار الساعات التي نوجد فيها معاً في المنزل، ففي معظم النهار يكون كل منا في عمله والاولاد في مدارسهم، وحينما يعود الجميع لا تكون هناك فرصة كبيرة لأن نتحدث انا وهو كما ينبغي ان يفعل الازواج. * والسبب؟ - هو عودة زوجي من العمل مصاباً بالصداع المزمن حسبما يشكو بسبب مسؤولياته الوظيفية، والحقيقة انه يشغل منصب مدير علاقات عامة في احدى الشركات ولا تحتاج وظيفته هذه الى الكثير من الجهد الذي يزعم انه يبذله يومياً، ثم انني انا الاخرى موظفة ومن حقي ان اضج بالشكوى من مسؤولياتي الخاصة، ولذلك لو بدأنا الكلام فسوف يتحول الموضوع ? اي موضوع ? الى شكوى عامة بطريقة غير مستحبة على الاطلاق. * والحل في رأيك؟ - ليس هناك حل لهذه المشكلة، فقد حاولت مراراً تغيير هذا الوضع الغريب والذي اكتشفت مع الاسف انه ليس خاصاً بنا كما كنت اعتقد، وسعيت الى اخراج زوجي عن صمته فلم افلح، واعترف انني اشعر بشيء من الاسى احياناً جراء هذا الامر، غير انني تعودت وتعود زوجي والاولاد عليه. ولدى السيدة ج. م وهي ربة منزل اسباب اخرى للصمت، تقول: بعد شهر واحد من الزواج وهو شهر العسل كما يطلقون عليه حقاً تحول زوجي الهادئ الصبور الى رجل آخر، فاكتشفت انه عصبي للغاية ويثور لأتفه الاسباب، وربما يصل الامر الى مرحلة الشجار لو ناقشته في ساعة الغضب حسبما يسميها، وذلك هو ما دعاني الى تجنب الخوض معه في اية احاديث خاصة تلك المشاكل التي يتعرض لها الاطفال في المدرسة او النادي او غيرها من مشاكل الاسرة. * وهل هذا هو التصرف الطبيعي من وجهة نظرك، الصمت؟ - انه اللغة الوحيدة التي اصبحت اجيدها، ولدي مبرراتي الخاصة المذكورة غير ان الامر لا يزعجني كثيراً، فأنا استعيض عن الكلام مع زوجي بالتحدث الى صديقاتي تلفونياً او بمشاهدة التلفزيون ذلك ان الزوجة - في نظري - ينبغي ان تكيف نفسها على تقبل صمت الزوج ان وجدت نفسها تعاني بسببه، وفي تقديري ايضاً ان التفاهم المفقود في بعض الزيجات هو الشيء الوحيد القادر على اقامة حياة زوجية تتحدث عن سعادتها.