عززت زيارتا رئيسي الوزراء التركي نجم الدين اربكان والسوري محمود الزعبي لايران - خصوصاً ما نجم عنهما من توقيع اتفاقي الغاز مع أنقره والتعاون الاقتصادي مع سورية - آمال الايرانيين في تمكنهم من مواجهة قانون داماتو الأميركي الرامي الى تشديد العقوبات التجارية التي تفرضها الولاياتالمتحدة عليها. وبعثت زيارة اربكان - خصوصاً - الأمل في نفوس المسؤولين الايرانيين بأن تنجح بلدان المنطقة في إقامة محور اقليمي يشكل تكتلاً اقتصادياً يستطيع التصدي لما تسميهما طهران "نظام القطبية الأحادية الذي تهيمن عليه أميركا ونظام القطبية الثنائية الذي تهيمن عليه أميركا وأوروبا". ولاحظ المراقبون ان السلطات الايرانية أبدت ارتياحاً كبيراً الى دعوة اربكان الى اقامة محور لتفعيل التعاون الاقتصادي بين البلدان الاسلامية ومنظمة اتحاد شعوب دول جنوب شرق آسيا، لإنشاء كتلة اقتصادية قوية. كما أثار اربكان قدراً كبيراً من الاهتمام بدعوته الى عقد قمة رباعية تضم تركياوايران وسورية والعراق لحسم المخاطر التي تهدد وحدة العراق، خصوصاً في شماله حيث تفرض القوات المتحالفة التي تتزعمها الولاياتالمتحدة حظراً على تحليق الطيران العراقي. ومن المقرر ان يدرس الاجتماع الدوري الذي يعقده وزراء الخارجية التركي والسوري والايراني اقتراح رئيس الوزراء التركي، على امل بلورته واقعاً عملياً في اقرب فرصة، خصوصاً ان انقرهوطهران ودمشق تعارض تقسيم العراق وإقامة حكومة كردية مستقلة في شماله. وقالت مصادر ديبلوماسية ل "الوسط" إن وزير الخارجية العراقي قد يدعى الى حضور هذا الاجتماع تمهيداً للقمة الرباعية. وحدا تجاهل اربكان الانتقادات الاميركية لزيارته لايران بإحدى الصحف الموالية للزعيم الديني الايراني آية الله خامينئي الى القول "إن دعوة اربكان التي أطلقها في طهران الى تفعيل التعاون الاسلامي وإصراره على زيارة ايران، خلافاً لعادة أسلافه الذين يحرصون على أن تكون واشنطن محطتهم الاولى في جولاتهم الخارجية، أكدا ان حلم الوحدة الاسلامية لم يعد سراباً ما دامت الارادة السياسية والاستقلال في الرأي موجودين كما تبين من مواقف اربكان الذي رفض الاستجابة لاشارات الاستياء الاميركية". هكذا اثار الزعيم التركي مخاوف القوى العظمى من "تركيا جديدة"، او على الاقل من استمرار الانسجام بين العلمانيين والاسلاميين في أنقره. وأتاح ذلك لايران المضي في توعدها بالانتقام من واشنطن اذا تعرضت لأي هجوم اميركي. جاءت زيارة رئيس الوزراء التركي نجم الدين أربكان لإيران بين 10 آب اغسطس الجاري و12 منه، وتلك المتوقعة لسورية قريباً، في اطار "العقد السياسي" الجديد الذي أثمر حكومة جديدة تجمع بين التيارين الاسلامي والعلماني في تركيا. فالحكومة لم تكن مجرد ائتلاف بين حزبين سياسيين متناقضين، هما حزب الرفاه الاسلامي وحزب الطريق المستقيم، بل كانت عقداً فعلياً بين اتجاهين كانا يتجاذبان المجتمع والفكر والسلوك في تركيا في العقود الاخيرة: الاتجاه الأول الداعي الى علاقات وثيقة مع الغرب، كطريق وحيد للدخول الى عالم الحداثة والتقدم. وهو الاتجاه الذي جسّدته "الكمالية" العلمانية ومؤسسها مصطفى كمال أتاتورك، وحاول ممارسة قناعاته ورؤيته على امتداد سبعين عاماً، من خلال امساكه بالسلطة. والاتجاه الثاني، الاسلامي، بمختلف تياراته ونزعاته، والذي كان يمانع في قبول النهج الكمالي ويجهد لإعادة البلاد الى محيطها الاسلامي ودورها المشرقي. وأظهرت التطورات في الاعوام السابقة، وصولاً الى الفترة الاخيرة، ان تركيا، بثقل مشكلاتها وانقساماتها الداخلية واحتقان علاقاتها الاقليمية، في طريقها الى نهايات مأسوية تهدد وحدتها الاجتماعية وتمامية أراضيها. وظهر بوضوح شديد الدلالة، بعد انتخابات 24 كانون الاول ديسمبر 1995 ثم الانتخابات البلدية الفرعية في 2 حزيران يونيو 1996، وافلاس احزاب النظام وفسادها وانسداد افق مشاريعها، ان تركيا امام خيارين لا ثالث لهما: الاتجاه نحو الانفجار والتشرذم، او البحث عن صيغة جديدة ل "التعايش" والتصالح بين "الذات" و "التطلعات"، اي بين القيم الاسلامية المحافظة والسعي الى ان تكون جزءاً من العالم الغربي المتقدم. من هنا كانت حكومة اربكان - تشيللر، ومحاولة جادة لاعادة التوازن الى الهوية والشخصية التركيتين. ومن شأن هذه المحاولة، الناجحة حتى الآن، ان توفر للبلاد فرصة ذهبية للاستقرار والنهوض ولتشكل بالفعل قوة اقليمية عظمى، وجسراً حقيقياً بين الشرق والغرب، وتحولها بالتالي عنصر استقرار وتوازن في المنطقة، وليس ركناً من احلاف وتحالفات ونزاعات. ان السلوك الجديد للحكومة التركية الجديدة ينسجم، حتى الآن، مع هذه الصورة التوافقية الزاهية في الداخل. ولا يعني هذا النهج تخلي كل طرف عن طروحاته وقناعاته. بل ان الكثير من الاحداث التي جرت اخيراً تشير، بل تؤكد، سمة "التكامل" لا الانكار المتبادل بين التيارين الاسلامي والعلماني. تركيا الغربية واجهت حكومة أربكان - تشيللر منذ تأسيسها في آخر حزيران يونيو الماضي جملة من القضايا اقل ما يقال فيها انها "حساسة جداً". اولى هذه القضايا الاتفاق الامني بين تركيا واسرائيل الذي كان طوال الاشهر الاخيرة عنواناً رئيسياً للتوتر في المنطقة، خصوصاً بين انقرة من جهة ودمشق وطهران من جهة اخرى. وفي منتصف تموز يوليو الفائت، نُشرت تفاصيل اجتماع بين اربكان ورئاسة الجيش التركي تناول البحث فيه الاتفاق الامني مع اسرائيل. وذكرت المعلومات ان رئيس الحكومة خرج مرتاحاً جداً بعد اطلاعه على كل حيثيات الاتفاق وتفاصيله، اذ وجد انه لا يشكل خرقاً للسيادة الوطنية ولا تهديداً لأية دولة ثالثة وانه مجرد اتفاق للتدريب العسكري بين دولتين. وكان الرئيس المصري حسني مبارك اول رئيس يزور تركيا، بعد نيل الحكومة الثقة في الاسبوع الثاني من تموز الماضي. وقد اعلن انه بات "مدركاً" الآن ان الاتفاق العسكري المذكور ليس حلفاً وليس اتفاقاً استراتيجياً، وهو مطمئن الى ما سمعه من المسؤولين الأتراك. بمعنى ان الاتفاق، بعد نشر هذه المعطيات، لم يعد مثار جدل، وان صفحته قد "طويت". وكان تجاوز اربكان "قطوع" الاتفاق تجسيداً للنهج "التوافقي" الجديد بين العلمانيين والاسلاميين. لكن "القطوع" الآخر الذي كان اكثر تجسيداً لهذا النهج و "امتحاناً" قاسياً جداً ل "نيات" أربكان، كان الموقف من التجديد ل "قوة المطرقة" اي قوة الحماية الغربية لشمال العراق والمتمركزة في جنوب شرق تركيا وتتألف من قوات وطائرات اميركية وفرنسية وبريطانية وتركية. وكان زعيم حزب الرفاه، قبل ان يصبح رئيساً للحكومة، يرى في هذه "القوة" استعماراً غربياً لبلاده، وتسعى الى تأسيس دولة كردية في شمال العراق، وتدعم حزب العمال الكردستاني المناهض لأنقرة. واذ حان موعد التجديد لهذه القوة في البرلمان التركي في اواخر تموز الفائت، تجاوز أربكان "القطوع" الجديد بالقول ان واشنطن ستدعم استثناء تركيا من تطبيق الحظر الاقتصادي على العراق، والسماح باستيراد كميات محدودة من النفط العراقي خارج الحصة المسموح لبغداد بتصديرها بموجب اتفاق "النفط في مقابل الغذاء". بل ان اقتراع نواب "الرفاه" الى جانب قرار التمديد، كان العامل الحاسم في نجاحه في البرلمان. وجرت ايضاً حادثة معبرة، وان كانت تحدث من وقت لآخر، وهي ان الجيش التركي طرد من صفوفه 13 ضابطاً بتهمة الترويج لأفكار اسلامية. ولم يكن لرئيس الحكومة اي موقف معارض او منتقد لهذا الاجراء، خلافاً لما كان يفعله سابقاً. واستمر الانسجام الحكومي امام هذه القضايا الحساسة مع اعلان البرنامج الاقتصادي الجديد للحكومة في مؤتمر صحافي مشترك جمع اربكان وتشيللر. بل ان الزعيمين جالا معاً في حافلة واحدة في كثير من المناسبات في صورة نادرة الحدوث حتى في ما بين زعماء علمانيين. تركيا الاسلامية الوجه الآخر من ميدالية العقد الجديد بين الاسلاميين والعلمانيين كانت تتجلى بأوضح صورها في السلوك التركي الجديد ازاء محيطها الاقليمي، العربي والاسلامي. وافتتاح اربكان اولى زياراته الخارجية لايران بالذات، رمز الاصولية والعداء لأميركا، كان اكثر من حدث معبر، وفي الوقت نفسه امتحاناً للعقد الجديد داخل تركيا. ومثل هذا النهج، يذكّر بسياسات طورغوت اوزال الانفتاحية خلال الثمانينات على العالم الاسلامي وتعزيز العلاقات التجارية مع دوله. وقد زار اوزال ايران اكثر من مرة، وكذلك سورية، وكان الى حين وفاته، عنصراً اساسياً داخل تركيا لتطويق اي توتر في العلاقات مع ايران. وموقفه المدافع عنها ازاء اتهامها بالوقوف وراء اغتيال الصحافي العلماني المعروف اوغور مومجو في 24 كانون الثاني يناير 1993، جلب اليه الانتقادات. وكان من واضعي اسس العلاقات الجيدة مع مصر، وطاف بدول الخليج، بخلاف طانسو تشيللر التي كانت حركتها العربية محدودة، والاسلامية شبه معدومة. كما ان انفتاح اوزال، في نفس الوقت، على اسرائيل واليهود في تركيا وأميركا، يذكّر من جهة اخرى بنهج تشيللر نفسها التي كانت من ابرز مهندسي تعزيز العلاقات مع الدولة العبرية. بمعنى ان الحكومة الحالية تذكّر بنهج اوزال التوفيقي بين الغرب والاسلام، مع فارق ان عقد اربكان - تشيللر يمثل "مؤسسة" في التعاطي مع حاضر تركيا ومستقبلها وليس مجرد طرح انتهى، في حالة اوزال، مع وفاته، كما يمثل قاعدة عريضة في المجتمع من الصعب تجاوزها، عبر انقلاب عسكري مثلاً. من هنا، ذهب اربكان الى ايران متسلحاً بالعقد الجديد في تركيا، في خطوة تحظى بدعم كل المؤسسات والاتجاهات، من رجال الاعمال والاقتصاد، الى مؤسسة الجيش وما بينهما. ايران: اقتصاد وأتراك تقع تركيا الآن تحت دين خارجي يقارب 73 مليار دولار اميركي ودين داخلي يقارب 30 مليار دولار وعجز في التجارة الخارجية يبلغ 15 مليار دولار، ونسبة تضخم تقارب 80 في المئة. ولقد سعت حثيثاً طوال السنوات الثلاث الاخيرة، الى الافادة من موارد الطاقة كالنفط والغاز، من اذربيجان وتركمانستان وقازاخستان، وذلك عبر مد خط انابيب يمر من هذه الدول عبر الاراضي التركية وصولاً الى ميناء جيحان على البحر الابيض المتوسط. لكن الضغوط الروسية احبطت تباعاً كل هذه المحاولات. ولم تكن واشنطن، على رغم دعمها أنقرة، مستعدة للذهاب بعيداً في الضغط على موسكو ذلك ان للشركات الاميركية استثمارات ضخمة في القوقاز وروسيا نفسها. لذا فإن توقيع اتفاق مد تركيا بالغاز الايراني يمثل، في ظل الانهيار الاقتصادي التركي، مطلباً وطنياً تركياً جامعاً، يتعذر على الولاياتالمتحدة تبرير معارضتها إياه. بل ان مثل هذه المعارضة ستصيب صورتها بأذى في أعين الاتراك. والى "الهجمة" الاقتصادية، تحمل زيارة اربكان لطهران، ولاحقاً لسورية، اهمية استثنائية على صعيد المسألة الكردية في تركيا، وفي المنطقة كلها. فنشاطات حزب العمال الكردستاني المناوئ لأنقرة، تمثل المسألة الامنية والسياسية الرقم واحد في تركيا. وسيكون على اربكان معالجة مستويين من هذه المسألة: الاول مسألة حزب العمال واتهام تركياايران وسورية بدعمه وتدريب عناصره وايواء زعيمه عبد الله اوجلان. والثاني هو الوضع في شمال العراق. ونظراً الى الظروف التي تواجه طهران ودمشق، يمكن رئيس الحكومة التركية ان يحقق بعض التطورات الايجابية، مثل "تجميد" بعض مظاهر الدعم لحزب العمال او دفعه نحو اعلان هدنة طويلة الاجل مع السلطات التركية. ومثل هذا الانجاز، اذا تحقق، يعد مكسباً كبيراً لأربكان الذي تدعمه واشنطن في ذلك خصوصاً انها تدرج حزب العمال في قائمة المنظمات "الارهابية". اما مسألة شمال العراق فتمثل نقطة الالتقاء الاقوى في مواقف الدول المعنية مباشرة بها، وهي تركياوايران وسورية والعراق. فجميع هذه الدول ترفض رفضاً قاطعاً اي مساس بوحدة العراق نظراً الى ما يشكله اي كيان كردي مستقل في تلك المنطقة من خطر على وحدة اراضي هذه الدول. ولكن، مع استمرار الموقف الاميركي المعارض اي حوار مع الرئيس صدام حسين، ونظراً الى كون شمال العراق مرتكزاً مباشراً للاشراف الاميركي على الاوضاع في تلك المنطقة الحساسة الاستراتيجية الغنية بالنفط، فمن غير المحتمل حدوث تعديل اساسي في موازين القوى الحالية في شمال العراق.