تزداد قناعة العلماء يومياً بالدور الخطير الذي تلعبه الملوثات الكيماوية في التأثير على سلامة البيئة وصحة الانسان والحيوان ومستوى الخصوبة لديهما. فالتدهور الكبير في عدد الحيامن وازدياد حالات الاصابة بالسرطان الخصوي وسرطان الثدي والتغيرات الطارئة على جنس بعض انواع الاسماك خلال الثلاثين سنة الماضية يدعّمان تلك المخاوف ويؤكدان الاخطار الناجمة عن استخدام مبيدات الآفات والكيماويات الصناعية مثل احماض الأفثاليك Phthalates المستخدمة في تركيب بعض اصناف بودرة حليب الاطفال وفي انتاج المعلبات البلاستيكية والادوية ومبيدات الحشرات والاصباغ وورق السلوفان، والفينولات القلوية Alkylphenols المستخدمة في صناعة المنظفات والاسمدة الزراعية، والفينولات الغنية بمادة الكلور PCBs التي تستخدم في صنع المبردات العازلة داخل المحولات الكهربائية، وهورمون الاستروجين الاصطناعي الذي كان يستخدم كعلاج لمنع حالات الاجهاض من قبل اكثر من خمسة ملايين امرأة. إذ تتقمص هذه المواد دور هورمون الاستروجين الانثوي وتؤدي الى زيادة مستواه والى نقص كمية المني وهبوط عدد الحيوانات المنوية "الحيامن" وتردي جودتها مع معاناة الذكور من عيوب خلقية في تكوين الخصيتين والاعضاء التناسلية والبروستات نتيجة تأثيرها السلبي على الغدة النخامية المسؤولة عن انتاج هورمونات الجسم وبالذات هورمونات الأنوثة والذكورة. إذ يؤدي اضطراب وظائف الغدة النخامية الى انخفاض افراز هورمون الذكرة "التستوستيرون" وازدياد افراز هورمون الانوثة "الاستروجين". مما يعرض الذكور للاصابة بالعقم والعجز الجنسي وتأخر سن البلوغ، بينما تعاني الاناث من عدم القدرة على الحمل والانجاب نتيجة اضطراب الدورة الشهرية وعملية التبويض لديها مع احتمال الاصابة بسرطان الثدي. ولا تقتصر اسباب زيادة هورمون الانوثة لدى البشر على ما سبق ذكره، اذ تلعب بعض الممارسات اللاأخلاقية التي يتبعها اصحاب المزارع في تغذية ماشيتهم ودواجنهم بهورمون "الاستروجين" طمعاً بزيادة لحومها وسرعة نموها، دوراً هاماً في تلك الزيادة ايضاً. وكان البروفسور جون سمبتر رائد البحوث القائمة حول تأثير الملوثات الكيماوية على الاسماك واستاذ علم توالد الحيوانات في جامعة برونيل البريطانية اكد ل "الوسط في العام الماضي صعوبة الربط المؤكد بين المواد الكيماوية التي نستخدمها او نتعاطاها في حياتنا اليومية وبين تدهور نوعية وكمية الحيامن. إذ يتراوح عدد المواد الكيماوية المتداولة في الاسواق والمنتشرة في البيئة بين 60 و100 الف مادة تتركز ابحاث العلماء حالياً على ثلاثة آلاف منها يعتقد انها تتقمص دور هورمون "الاستروجين" وتخلّف اضراراً صحية خطيرة تحد من الخصوبة وتعرقل مهام هورمونات الذكورة. ولم يتمكن العلماء حتى الآن من التعرف على اكثر من 30 مادة تتسبب بآثار صحية مماثلة لتلك التي يسببها هورمون الاستروجين الطبيعي. وتستخدم هذه المواد في صناعة المنتجات اليومية التي تستعمل في المنازل وأماكن العمل ووسائل المواصلات وغيرها. فمادة "الافثاليك" التي اثارت الرعب حديثاً بسبب وجودها في بعض انواع حليب الاطفال المجفف، تستخدم ايضاً في صناعة الاصباغ والاصماغ والادوية والمبيدات والاوعية البلاستيكية وأوراق السلوفان التي تحفظ طعامنا، ومادة "الكربوليك" تستخدم في صناعة مساحين الغسيل والمنظفات، ومادة "دي. دي. تي." المبيدة للحشرات والجرذان ما زالت تستخدم في دول العالم الثالث للقضاء على الملاريا حتى اليوم على رغم منع استخدامها عالمياً. وحذرت الدكتورة فيفيان هوارد استاذة علم الاجنة والاطفال في جامعة ليفربول البريطانية من الآثار السلبية للملوثات الكيماوية الموجودة في الطعام والشراب التي ازدادت بصورة ملحوظة في النصف الاخير من هذا القرن نتيجة لانتشار الصناعات الكيماوية وانطلاق اطنان من موادها الملوثة في الاجواء. فبينما تلعب المواد المستخدمة في صناعة ورق السلوفان ومساحيق الغسيل والمنظفات الاخرى دوراً مشابهاً لهورمون "الاستروجين" الانثوي، يقوم بعض المواد الكيماوية المستخدمة في صناعة الأواني البلاستيكية بعرقلة مهام هورمون الذكورة "التستوستيرون" وتغيير مسارها بشكل يؤدي الى تخنيث الجنين. وقد ادى استخدام زيوت الطبخ الملوثة في تايوان الى ولادة ذكور بأعضاء تناسلية متدنية الحجم لدرجة غير طبيعية. وربما يعود سبب تراجع حجم الاعضاء التناسلية عند بعض الذكور في عصرنا هذا الى ازدياد انتشار الملوثات الكيماوية في البيئة والغذاء خلال العشرين سنة الماضية. تجدر الاشارة الى ان المشكلة الاساسية في المواد الكيماوية التي تتقمص دور "الاستروجين" تكمن في صعوبة تفككها وبقائها داخل الجسم لفترات طويلة جداً تفوق فترة بقاء الهورمون الطبيعي بمئات المرات. مما يزيد من اضرارها الصحية ومن خطرها على انسجة الجسم التي تتأثر بهورمون "الاستروجين" مثل انسجة الثدي والرحم والقناة التناسلية والجنين. ويخشى العلماء من ان تؤدي تلك المواد الى وقف عمل هورمون "الأندروجين" المنشط للذكورة وبالتالي الى تدمير قدرة الانسان على التوالد والاخصاب. وقد حذرت منظمة الصحة العالمية في عدد من تقاريرها القديمة والحديثة من انخفاض معدلات الخصوبة لدى الرجال بنسبة 50 في المئة خلال الخمسين سنة الماضية بناء على نتائج دراسات علمية عدة. وأشارت تقديرات المنظمة الى انتشار مشكلة العقم على المستوى العالمي واحتمال معاناة ما بين 50 و80 مليون زوج من هذه المشكلة نتيجة خلل في الجهاز التناسلي لدى الرجال. واذا اضفنا الى ذلك عدد حالات العقم الناجمة عن اضطراب او خلل الجهاز التناسلي لدىالنساء لأمكننا ادراك حجم المشكلة على الجنس البشري برمته. من هنا تبرز أهمية متابعة الابحاث العلمية الكفيلة بكشف الاسباب الحقيقية لانحدار معدلات الخصوبة البشرية ودور المواد الكيماوية التي تلوث طعامنا واجواءنا فيها. وهذا يفرض على كافة الدول، مهما بلغت درجة فقرها او غناها، ان توفر الموازنات الضرورية لتنفيذ الدراسات العلمية المطلوبة. واتخاذ الاجراءات والاحتياطات الكفيلة بحماية البيئة بما فيها من انسان وحيوان ونبات من اخطار الملوثات الكيماوية والاشعاعية.