من أصعب المشاكل النفسية والعاطفية التي يمكن أن يتعرض لها الانسان، رجلاً كان أم امرأة، احساسه بالعجز عن الانجاب وبناء الأسرة نتيجة الاصابة بالعقم أو عدم الاخصاب. وعلى رغم توافر الحلول الطبية والجراحية الكفيلة بعلاج تلك المشكلة في هذا العصر، أثارت الأنباء الطبية الواردة من بريطانيا عن تدهور خصوبة البشر خلال العقود الثلاث الماضية، واحتمال تورط الملوثات الكيماوية التي تحيط ببيئتنا وتتداخل في طعامنا وشرابنا، هلع الناس عامة. واضطر العلماء لاستنفار طاقاتهم وتكثيف بحوثهم وجهودهم للتعرف على تلك الملوثات والحد من انتشارها. أعلن المعهد البريطاني للصحة والبيئة في تقرير صحي صريح وخطير أن انحدار كمية ونوعية الحيوانات المنوية الحيامن الموجودة في سائل المني عند الذكور، وارتفاع عدد الاصابات بالسرطان الخصوي وسرطان الثدي وتشوهات الجهاز التناسلي خلال الثلاثين سنة الماضية، ربما نجمت عن تأثير بعض المواد الكيماوية الملوثة التي يتعرض لها الانسان في حياته اليومية. وأشار التقرير الذي وضع بطلب من وزارة البيئة البريطانية ان الدراسات التي أجريت على الحيوانات تبين وجود علاقة بين التعرض لتلك المواد والاصابة بالأعراض والأمراض التي سبق ذكرها. كما أنها توحي بوجود علاقة بين ازدياد انتشار التلوث الكيميائي في البيئة وانحدار خصوبة الانسان. بوادر المشكلة وكان العالم الدنماركي البروفسور نيلز سكاكيبيك أول من لفت نظر العالم الى تدهور خصوبة الرجال وتدني عدد الحيامن لديهم بنسبة هائلة تراوحت بين 40 و50 في المئة عما كانت عليه منذ 50 سنة. وذلك إثر الدراسة الاحصائية القيمة التي اجراها مع فريق من العلماء في قسم النمو والتوالد في المستشفى التابع لجامعة كوبنهاغن عام 1992. وشملت الدراسة مراجعة تحليلية لأكثر من 21 دراسة دولية تم نشرها خلال نصف قرن وغطت بلداناً عدة كالولايات المتحدة الأميركية، المملكة المتحدة، فرنسا، المانيا، اوستراليا، السويد، فنلندا، الدنمارك، النروج، البيرو، هونغ كونغ، تايلندا، البرازيل، تنزانيا، اليونان، ليبيا والكويت. حيث أظهرت النتائج الاحصائية ان معدل حجم سائل المني انخفض بصورة واضحة وملفتة بين عامي 1940 و1990 من 3.5 مليليتر الى 2.75 مليليتر. وهبط معدل تركيز الحيامن أو عددها من 113 مليوناً في المليليتر الواحد الى 66 مليوناً فقط. كما هبط المعدل الطبيعي لعدد الحيامن في المراجع الطبية الرسمية من 60 مليوناً في المليليتر الواحد الى 20 مليوناً خلال الفترة الزمنية ذاتها. ولاحظ الدكتور سكاكيبيك وزملاؤه وجود علاقة بين ازدياد حالات السرطان الخصوي وتدهور جودة المني. وازدياد حالات الاصابة بالأحليل التحتي وعدم هبوط الخصيتين. وكلا الحالتين يلعب دوراً هاماً في تدهور جودة المني ويزيد من خطورة الاصابة بالسرطان الخصوي. كما لاحظ علماء آخرون في دراستين مختلفتين في كل من فرنساوبلجيكا ان عدد الحيامن آخذ في التدهور عند الشباب. ففي باريس لوحظ ان الرجال هناك يفقدون حوالي مليون حيوان منوي حيمن في المليليتر الواحد سنوياً. بينما ازدادت نسبة الرجال الذين يعانون تدهور نوعية الحيامن ونشاطها في بلجيكا من 5 في المئة الى 40 في المئة. وكانت دراسات سابقة بيّنت ان المواد الكيماوية التي تتقمص دور هورمون اللأستروجين الأنثوي وتستخدم كأدوية لعلاج حالات الاجهاض، تؤدي الى ولادة ذكور بأعضاء تناسلية مشوهة، والى نقص كمية المني وعدد الحيامن لديهم مع معاناة البعض من مشكلة عدم هبوط احدى الخصيتين أو كليهما. العلاقة بين تدهور الخصوبة والكيماويات وحول العلاقة بين التلوث الكيميائي وتدني الخصوبة البشرية، صرح البروفسور جون سمبتر استاذ علم توالد الحيوانات في جامعة برونيل البريطانية غرب لندن ورائد البحوث القائمة حول تأثير الملوثات الكيماوية على الأسماك، ل "الوسط" بأن عملية الربط المؤكد بين المواد الكيماوية الموجودة في المنتوجات التي نستخدمها أو نتعاطاها في حياتنا اليومية، وبين تدهور كمية ونوعية الحيامن أمر صعب للغاية ما زال بحاجة الى المزيد من البحث والتدقيق. غير أنه أكد على أن استمرار حالة التدهور هذه بالمعدل الحالي تنذر بعواقب وخيمة تهدد مستقبل خصوبة الانسان وربما أدت الى كارثة بشرية لا تحمد عقباها. فقد أظهرت نتائج الأبحاث التي طلبت وزارة البيئة البريطانية منه القيام بها منذ 6 سنوات للتحقق مما اذا كانت المواد الكيماوية الموجودة في المجرى النهري المتفرع عن مركز معالجة مياه المجارير في نهر "لي" جنوب البلاد والذي يشرب من مياهه ألوف المواطنين في العاصمة لندن، هي المسؤولة عن تخنث ذكور الأسماك التي تعيش فيه. وتبين بالفعل ان تلك المواد الكيماوية التي يصعب تحديدها أو احصاء عددها من بين الكم الهائل الذي يتجاوز 60 ألف مادة يستخدمها البشر يومياً، قد لعبت دوراً أساسياً هاماً في تغيير طبيعة الأعضاء التناسلية لذكور الأسماك التي تراجع حجمها وراحت أكبادها تفرز بروتيناً يرتبط بهورمون الأستروجين الأنثوي ولا يظهر عادة إلا في صغار بيض أنثى الأسماك. وحيث أن العلماء كانوا أثبتوا سابقاً أن تعريض ذكور الجرذان لهورمون الأستروجين أو المواد الكيماوية التي تتقمص دوره، يؤدي الى تقليص حجم الخصيتين والى نقص عدد الحيامن وتدهور نوعية المني لديهم. كما أن بعض الدلائل الأخرى يشير الى احتمال تأثير المواد الكيماوية المصنّعة على خصوصة الرجال بصورة سلبية. من جهة أخرى حذرت الدكتورة فيفيان هوارد نائبة رئيس المجمع الملكي للمجهر وأستاذة علم أمراض الأجنة والأطفال في جامعة ليفربول البريطانية، من الآثار السلبية للملوثات الكيماوية الموجودة في الطعام والشراب، والتي ازدادت بشكل ملحوظ في النصف الأخير من هذا القرن نتيجة لانتشار الصناعات الكيماوية واتساع رقعتها. فبينما تضطر الشركات المصنعة للأدوية الالتزام بقيود صحية صارمة قبل المباشرة بتسويق أي من أدويتها الجديدة، تقوم الشركات المصنعة للمواد أو المنتجات الكيماوية باطلاق أطنان منها في الأجواء البيئية من دون الحاجة الى التقيد بقوانين واجراءات مشابهة لتلك التي تتعرض لها شركات الأدوية، على رغم أن خطرها في تلويث البيئة ومحيطها أكبر بكثير. وبينما تلعب المواد الكيماوية المستخدمة في صناعة ورق السالوفان ومساحيق الغسيل والمنظفات الأخرى دوراً مشابهاً لدور هورمون الأستروجين الأنثوي، يقوم بعض المواد الكيماوية الأخرى المستخدمة في صناعة الأواني البلاستيكية بعرقلة مهام هورمون الذكورة التوستوستيرون وتغيير مسارها بشكل يؤدي الى تخنيث الجنين. ففي تايوان أدى استخدام زيوت الطبخ الملوثة وتناولها من قبل الحوامل الى ولادة أطفال ذكور بأعضاء تناسلية متدنية الحجم لدرجة غير طبيعية. ويبدو أن التراجع في حجم الأعضاء التناسلية عند بعض الذكور في هذا العصر قد يكون ناجماً عن تعرض الأمهات قبل الحمل وخلاله الى الملوثات الكيماوية التي ازداد انتشارها خلال العشرين سنة الماضية. ولا يعلم غير الله تعالى ما سيحل بالأجنة المتوقع ولادتها في القرن الواحد والعشرين، ومدى التشوه الذي قد يصيب اعضاءها التناسلية ومقدرتها على الاخصاب. الملوثات الكيماوية المشبوهة يتراوح عدد المواد الكيماوية المتداولة في الأسواق والمنتشرة في الأجواء والبيئة بين 60 و100 ألف مادة. وتتركز الأبحاث الحالية على 3 آلاف نوع منها يعتقد بأنها تتقمص دور هورمون الأستروجين الأنثوي وتخلف آثاراً صحية تضرّ بالخصوبة وتعرقل مهام هورمونات الذكورة. ولم يتمكن العلماء حتى الآن من التعرف على أكثر من 30 مادة كيماوية تتسبب بآثار صحية شبيهة بتلك التي يسببها هورمون الأستروجين. وتستخدم هذه المواد في صناعة المنتجات الاستهلاكية اليومية التي تستعمل في المنازل وأماكن العمل ووسائل المواصلات وغيرها. فمادة "الأفثاليك" اللامائي تستخدم في صناعة الأصباغ والأصماغ والأدوية ومبيدات الحشرات والأوعية البلاستيكية وأوراق السلوفان التي نحفظ بها طعامنا ونلف بها "سندويتشاتنا". ومادة "الكربوليك" التي تستخدم في صناعة مساحيق الغسيل والمنظفات. ومادة "دي. دي. تي" المبيدة للذباب والجرذان التي منع استخدامها منذ 20 سنة في الدول المتقدمة وما زالت تستخدم للسيطرة على وباء الملاريا في دول العالم الثالث. ومادة "ترايبوثيلين" التي تستخدم لحماية قاع السفن من الفساد والعفن والتي منع استخدامها على القوارب الصغيرة بعد أن أثبت الباحثون وجود علاقة بين تلك المادة واصابة الأعضاء التناسلية للحيوانات الصدفية التي تعلق في قاع السفن بالتقلص، ومعاناة الماشية المحمولة على السفن من العقم، واصابة ذكور طائر النورس بالتخنث. هذا اضافة الى المواد المنبعثة من عوادم السيارات والمصانع. وكذلك الأسمدة الزراعية وغيرها وحبوب منع الحمل وحافظات الأطعمة المعلبة. ويخشى العلماء من التسرع في التوصية بمنع استخدام بعض المواد الكيماوية ما لم يثبت بما لا يقبل الشك أنها متورطة فعلاً بالتأثير على خصوبة الانسان والحيوان وتشويه الجهاز التناسلي. فلائحة الكيماويات المشتبه فيها طويلة ومعقدة والأبحاث الجارية حالياً ما زالت محدودة وضيقة، وما لم توفر الحكومات والسلطات الصحية الموازنات والامكانات اللازمة لدراسة ذلك الكم الهائل من المواد الملوثة على نطاق واسع وفي أقرب فرصة ممكنة، فإن كل يوم يمضي من دون دفع عجلة الأبحاث الى الأمام، يزيد من فداحة الخطر المحدق بخصوبة الانسان والحيوان ويعمق الفجوة الهائلة في معرفة العلماء بمدى العلاقة المشبوهة بين الكيماويات المعنية وما يمكن أن تسببه من أخطار صحية تهدد الأجيال. تجدر الاشارة الى أن المشكلة الأساسية في المواد الكيماوية التي تتقمص دور هورمون الاستروجين الطبيعي، تكمن في صعوبة تفككها وبقائها داخل الجسم لفترات طويلة جداً تفوق فترة بقاء الهورمون الطبيعي بمئات المرات، ما يزيد من عواقبها الصحية ومن خطرها على أنسجة الجسم الحساسة التي تتأثر بالأستروجين، كالثدي والرحم والقناة التناسلية والجنين. اقتراحات واجراءات ليس بغريب ان يطالب العلماء بضرورة القيام بأبحاث طارئة وسريعة لمعرفة الآثار الصحية لقرابة 60 ألف مادة كيماوية يصنعها الانسان مع التركيز على 3 آلاف مادة يعتقد بأنها تقلد تأثير هورمون الأستروجين الأنثوي وتوقف عمل هورمون الاندروجين المنشط للذكورة، مدمرة بذلك قدرة الانسان على التوالد والاخصاب. وقد أيدت الحكومة البريطانية المباشرة بتلك الأبحاث، إلا أن بعض الخبراء يخشى أن لا تحقق المبادرة الحكومية أهدافها الا بعد فوات الأوان. فمعرفة العلماء بمدى تعرض الانسان للتلوث بالمواد الكيماوية ما زالت محدودة جداً خصوصاً وأننا نتعرض يومياً للعديد منها سواء باستخدامنا الصابون أو الشامبو والعطور ومستحضرات التجميل والمنظفات ومبيدات الحشرات والأدوية والأطعمة المعلبة بما فيها من حافظات واضافات. وكذلك الأوعية البلاستيكية وورق "السالوفان" وأكياس التبريد والتثليج التي نغطي بها الخضار والفاكهة والسندويتشات وغيرها. ويعتقد بعض الباحثين أن المسبب الحقيقي لتدهور خصوبة الانسان وتشوه أعضائه التناسلية قد يعود الى الجزئيات المنبثقة عن تحلل المواد الكيماوية المشتبه بها، وليس الى المواد ذاتها. بينما يعتقد البعض الآخر بأن كون المواد الكيماوية غير قادرة على تقليد دور هورمون الاستروجين الأنثوي أو وقف عمل هورمون الاندروجين المنشط للذكورة الا بنسبة ضئيلة، لا يمنع تعاظم دورها وتزايد تأثيرها إذا ما عملت داخل الجسم مجتمعة. وتشير آخر المعلومات الى وجود أدلة هامة لم يسبق لفريق العاملين في المعهد البريطاني للصحة والبيئة الاطلاع عليها. إذ تمكن فريق من الباحثين التابعين لمجلس الأبحاث الطبية في مدينة أدنبرة في اسكتلندا، ولأول مرة، من اثبات تأثير جرعات ضئيلة من بعض المواد الكيماوية المشبوهة بتقليد دور هورمون الاستروجين على الخصوبة والقدرة الجنسية. وسوف يتم نشر تفاصيل هذه الأدلة الجديدة في منظورات الصحة البيئية التي تصدر عن المعهد القومي للصحة التابع للحكومة الأميركية. وكانت جمعية أصدقاء الأرض وبعض خبراء البيئة دعوة الى منع استخدام الكيماويات التي يشتبه بوجود تأثير هورموني لها. إلا أن مستشارة شؤون التلوث في لجنة الصندوق العالمي للطبيعة غوين لايونز أشارت الى أن اتخاذ مثل هذا الاجراء غير عملي، ومن الأفضل السعي الى تخفيف تعرض الانسان للمواد الكيماوية الأساسية عن طريق الحد من انتشارها وانبعاثها باتجاه الأنهار والبحيرات والبحار لحماية مياه الشرب من التلوث. تجدر الاشارة الى وجود عوامل هامة أخرى أدت وتؤدي الى زيادة استهلاك هورمون الأستروجين الصناعي والطبيعي في عصرنا هذا. فقد ازداد استهلاك منتجات الألبان الغنية والمدعمة بالهورمونات. وازداد تعاطي حبوب منع الحمل الحاوية على الأستروجين الصناعي. هذا اضافة الى الملوثات الموجودة في مبيدات الحشرات وعوادم السيارات التي تشكل جزءاً صغيراً من مجموع 30 مادة كيماوية تتقمص دور الأستروجين ومؤثراته تم التعرف عليها حتى الآن. لذلك فإنه لا بد للحكومات والمراجع الصحية فرض قيود صارمة على الشركات المصنعة للمواد الكيماوية ومنتجاتها ووضع معايير مدروسة تحد من انبعاث الملوثات الصادرة عن تلك المصانع وتحمي البيئة والانسان من أخطارها. كما أنه من الضروري تعميق الأبحاث وتركيزها على اكتشاف وتحديد المواد الكيماوية التي تتقمص دور الهورمونات أو تؤثر على وظائفها. وهذا يتطلب سرعة في التنفيذ ودقة في الأداء وتفانياً في الانجاز حتى يتمكن العلماء من السيطرة على الآثار السلبية الخطيرة لتلك المواد وغيرها من الملوثات التي تهدد مستقبل خصوبة الانسان والحيوان والنبات.