في سينما محمد ملص استمرارية لا تخفي نفسها. فحياته الفنية تقاس بفيلمين طويلين - "أحلام المدينة" 1984، و"الليل" 1992 - يكمل أحدهما الآخر على غير مستوى، ويرسمان معاً تفاصيل عالم سينمائي خصب يضم أيضاً حفنة من الأعمال الوثائقية والقصيرة. لكن قلة الانتاج لا تجعل فضاءه السينمائي واضح المعالم. لا بل يحار المرء في قراءة محمد ملص، ويجهد في البحث عن حدود نصه السينمائي الموار بالدلالات وعن مفرداته الأساسية المبثوثة في شريطين طويلين. والمخرج السوري المنهمك في صناعة الرؤى والأحلام يرفض أن يأخذ بيدك وأنت تتحرى عالمه لأن "من يسلم روحه للسينما التي يصنعها هو فنان ينوي أن لا يملك مفاتيح ليسلمها للآخرين. ليس لدي مفاتيح أغلق بها عوالم داخلية منفصلة عن العوالم التي أعبر عنها، فأنا أنتمي الى سينما دافعها الأساسي البوح بما يدور في نفسي من تصور للحياة في بلدي، وشحن هذه الحياة بتصورات وأفكار تعكس - من دون ايديولوجيا - رغبة خيرة في اكتشاف طريق هذا المجتمع نحو الأفضل لأنه لم يعد في حالة تخلف فقط بل هو عالق في فخ حالة التخلف الذي يصعب الفكاك منه تمهيداً للتخلص من الحالة ذاتها". سينما الدنيا لا يخبئ محمد ملص مفاتيح يوصد بها بوابات الروح، ليحجب الصور والأفكار... التي تزدحم بها النفس، فهو قد شرّع هذه البوابات على مصراعيها في فيلميه الطويلين ويستعد لمتابعة الكشف في شريط ثالث، اذ أن "مشروعي الجديد سينما الدنيا" يبدأ بافتتاحية مكرسة للنص وليس للصورة، هي قول مأثور نصه " الاثم هو ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه الناس". وأنا أنتمي الى سينما الاثم فيها هو أن يكون في نفسك شيء، وأن لا تفصح عنه.والقول المأثور يكشف بفصاحة عالية عن حقائق عميقة للغاية عن حق الانسان في التعبير عن نفسه. وهذا الحق الانساني موجود في صلب تراث حضارتنا العربية الاسلامية، لكن اغتصبه منا تاريخ من الأنظمة والحكام منذ نشوء الدولة الاسلامية، التي خلفت الدولة الراشدية، وحتى اليوم". والسينما، في عرف محمد ملص، هي تمجيد لهذا الحق الانساني وتجسيد له "أن تقول ما في نفسك من دون أن تخاف أن يطلع أحد على مكنونات النفس. من هنا، سواء اعتبر فيلمي الثاني مكملاً للأول أو العكس، فالفيلمان - اللذان يشكلان بالنسبة لي السينما لأني لم أصنع سواهما الا القليل - ينتميان الى سينما أريد أن أبوح فيها بما يدور في العقل والوجدان من مسؤولية ثقافية تجاه الواقع". ولا بد لهذا البوح من الصدق الذي لا يمل المخرج السوري من الإلحاح عليه لأنه "أشبه بالقيد الذي يطبق عليك كي يحررك. ولا تقوم للعمل الفني قائمة ما لم تكن عناصره كلها مجبولة بالصدق ... الصدق في الفكر والصدق في التعبير عن الطاقة الداخلية والصدق في البحث عن لغة التعبير الأكثر تواصلاً مع أبناء بلدي باعتباري واحداً ممن يصنعون شيئاً لهذا البلد". وإذا أعرض صاحب القامة الطويلة، الذي لا يزال شاباً مع أنه تخطى عتبة الخمسين، عن تسليم "مفاتيح" عالمه السينمائي فهذا ليس غريباً على فنان مولع بالأسئلة. وهو لا يطرح الأسئلة حين يعتمر قبعة المخرج فحسب، بل لا يني يطلقها حتى عندما يجلس في كرسي الاعتراف الصحافي. فاجاباته تزدحم باشارات تؤجج الرغبة في نفس محدثه بتلمس هذا الخيط أو ذاك. ولعل تأكيد محمد ملص على الصدق وحق التعبير عما يعتمل في الصدر يفسر طول الفترة التي يستغرقها في انجاز كل فيلم من أفلامه. فهل ينفق كل هذا الوقت باحثاً ومنقباً عن مفردات لغة التعبير التي يواصل اعادة النظر فيها على الدوام، أم انه يتأنى في رسم صور الواقع امعاناً في الصدق؟ لا ينفي المخرج السوري انه عادة يشتغل طويلاً على أفلامه، لكنه يرد ذلك الى أسباب أخرى لا تتصل بالبحث عن لغة التعبير "لأني والحمد لله لا أعاني من مشكلة العثور على هذه اللغة. بل هو زمن يطول لأني أفتش عن الصورة المفقودة التي اكتشف دائماً أن ال "نيغاتف" الخاص بها مختبأ في داخلي. وهذا بحث مطوّل ومتأن عن موقع الصورة وزمنها وعن الفكرة التي يمكن أن تعطيني اياها الصورة. ثم عليّ أن أكرس زمناً كافياً لصياغة مشروع الفيلم ولجعله حميمياً ووجدانياً ويملك راهنية فيما يطرحه من أفكار. وهذا خيار غير ارادي. الارادي فيه هو أني قررت أن لا أكون مخرجاً يقفز من فيلم الى آخر، بقدر ما قررت أن اختار السينما وسيلة للتعبير عما يدور في ذهني من موضوعات وأفكار وصور. ولا ننسى الانتاج وما يفرضه أيضاً من دورات زمنية. فبعد انجاز نص الفيلم يبدأ البحث عن مصادر التمويل وسبل الانتاج والصيغة الأمثل للتعبير عن المشروع، وهذا كله قد يحتاج الى زمن اضافي. وعدا ذلك، لا اعتقد ان المشروعات التي تنتمي الى مرحلة تاريخية، أو الى التعويض عن الصورة المفقودة في الواقع هي عملية سهلة. انها تحتاج الى اعادة بناء قد تم خلال التصوير مما يتطلب جهداً اضافياً ويطيل من فترة تنفيذ المشروع. هكذا تكتشف بالنتيجة أن البحث عن العمل والعثور عليه غير قابل للتحقق بسرعة، وأن الخروج منه ليس ممكناً بسرعة قبل الدخول في دهليز جديد. الوصول الى سينما يؤلف من خلالها الفنان فيلمه ويكتبه على الورق أو بالصورة يتطلب زمناً أطول دائماً. وهذه ليست صفة شخصية كما يشاع عني. انها سيرة سينما المؤلف وسيرة سينمائيين قرروا أن يكونوا سينمائيي موضوعات مقتطعة من البنية الوجدانية لمجتمعاتهم". وهل محاولة الغوص عميقاً في "البنية الوجدانية" للمجتمع السوري هي التي دفعت محمد ملص الى الانهماك مع زميليه عمر أميرلاي وأسامة محمد في صناعة أفلام وثائقية عن شخصيات بارزة من بلادهم، أو أن الوقت الذي يقضيه في "تأليف" الفيلم الطويل هو الذي أملى عليه هذا التوجه الجديد؟ قال الفنان "هذا ليس توجهاً جديداً بمعنى الاختلاف. والفيلمان اللذان حققناهما نحن الثلاثة هما في أحد أبعادهما تجسيد للشعور بأن جيلنا يبدو وكأنه يلقي نظرة الوداع على العالم حياتياً وفكرياً. عشنا حرمان الصورة والحرمان من ذاكرة مجتمعية والحرمان من خلق أسس تنصف هذا الجيل أمام الأجيال القادمة التي قد تسأل: ماذا فعل هذا الجيل؟ ولأن الجواب لن يأتي على شكل كتاب أو وثيقة أو عمل فني، قررنا نحن الثلاثة أن نقدم أعمالاً من شأنها التعويض عن فقدان هكذا وثيقة. انطلاقاً من طموحنا لمجابهة جحود الواقع ومحاولته نشر النسيان، وضعنا أنفسنا مرة أخرى في خندق الوقوف ضد ما هو سائد بأن نخلق ذاكرة لمجتمعنا عبر عشر شخصيات ساهمت في اغناء حياته الثقافية بتعددها واختلافها. وأردنا أن نجعل هذه الذاكرة أشبه بالوصية فالشخصيات العشر أقرب الى وصايا عشر. والمشروع يحاول أيضاً أن يبلغ هدفاً آخر. فنحن ليست لدينا أوهام عن قدرة السينما في مجتمعات كمجتمعاتنا العربية على الحضور. وندرك أن نصف أفلامنا لم تشاهد في سورية أو البلدان العربية. لا أريد أن أذكر أحداً ان فرصة الوصول الى الجمهور العربي كله لم تتح بعد ل "نجوم النهار": الفيلم الطويل الوحيد الذي وقعه الصديق والمخرج الممتاز أسامة محمد . ولا أريد أن أذكر أيضاً بأفلام عمر أميرالاي. لكني أؤكد أن معرفتنا لواقع الحال السينمائي كما هو، دفعتنا الى السعي للتعبير من خلال التلفزيون، الوسيلة الأكثر هيمنة على الواقع العربي. واخترنا الفيديو أداة لتقديم "الوصايا العشر"، أي صنعنا السينما للتلفزيون وليس للسينما. حاولنا أن نشق الطريق بتواضع في بحر من الرداءة والمسلسلات التي لا حدود ولا نهاية لها وفي أغلب المرات لا لون ولا طعم، ونضع بورتريهات لشخصيات مهمة بين أيدي الجمهور". ومشروع "الوصايا العشر" قيد التنفيذ وفق وتيرة لا بأس بها، اذ وصل المشاهد حتى الآن فيلمان هما "نور وظلال" 1995 الذي يتناول حياة رائد السينما السورية نزيه الشهبندر، و"مدّرس" 1996 وهو بورتريه لواحد من أوائل الأساتذة في الفن التشكيلي السوري، فاتح المدرس. "أعور بين العميان..." غير أن العبارات القوية التي استعملها في وصف المسلسلات التلفزيونية قد تفاجئ البعض ممن لاحظوا رواج أعمال وقعها مخرجون سوريون للشاشتين الصغيرة والكبيرة. وعدا الجوائز التي حصدتها هذه الأفلام، فهي بدأت تغزو أسواقاً عربية وخليجية مما يدل على نجاح جماهيري لا يمكن تجاهله، ويوحي أن الانتاج التلفزيوني والسينمائي في سورية يعيش نهضة واضحة تمخضت عن أعمال أصيلة. وعلى عادته، لا يتردد ملص في وضع النقاط على الحروف، وبصرامة، حين يدوس أحد على خطوط حمراء، اذ سارع بالتأكيد "ربما ينطبق هذا الكلام - بالمفردات التي استعملتها أنت، وليس أنا - على المسلسلات. ففي جحيم البث التلفزيوني، وتكرار المسلسلات المصرية لنفسها، بدا "الأعور بين العميان مفتح". لا أعتقد ان ما لدينا هو أعمال تلفزيونية أصيلة - كما وصفتها أنت. بل أعتقد أن هناك مسلسلات جيدة - وليس أكثر من جيدة - وهناك الكم الكبير من المسلسلات الرديئة. أما في ما يخص السينما فالأمر مختلف تماماً. وأنا لا أرغب في الترويج للظن بأن للعالم العربي سينما جيدة. في الحقيقة، ليس هناك سينما عربية حتى نستطيع تقييمها ونحكم أنها جيدة أو سيئة، فليس لدى العالم العربي صناعة وانتاج وتوزيع وجمهور سينمائي. لا بد من وجود الشيء أولاً قبل تسليط الضوء على ما فيه من غث وسمين! وإذا لم يكن هناك انتاج كبير وارتياد سينمائي وصالات عرض وشبكة للتوزيع السينمائي فكيف نتحدث عن صناعة سينمائية بالمعنى الواقعي للعبارة؟ خذ مثلاً سورية التي يبلغ عدد سكانها حوالي 17 مليون نسمة، ولا يزيد عدد الصالات التي يجري فيها العرض - على الرغم من أن بعضها غير صالح لذلك - عن مئة صالة. فهل تعتبر أن لهذا البلد جمهوره السينمائي؟ وهل تعتقد أن هناك سينما في بلد ينتج فيلماً واحداً في السنة؟ لا أريد أن أتحدث عن بلدان أخرى، لكن إذا أردت أقول لك: هل يبحث الانسان في بلد كبغداد عن فيلم أم عن قطعة خبز؟ باختصار هناك أفلام عربية، وليس هناك سينما عربية بالمعنى الذي أشرت اليه. هذه الأفلام، ككل الكائنات، بعضها جيد أو جميل أو هام وبعضها غير جيد ولا جميل ولا هام. لا ضرورة ان نكرر هنا ما قلناه، وقاله غيرنا لسنوات طويلة، بأن هناك أفلام مصرية ولكنها ميلودرامية والجمهور عاوز كده... اليوم ليس هناك أفلام، فوزير الثقافة كشف عن أن الانتاج المصري لم يتجاوز 17 فيلماً. ولا يقوم هذا الانتاج أصلاً على الارتياد السينمائي وانما على الكاسيت. انها، اذن، سينما تتغذى من العرض التلفزيوني لا السينمائي! لا متسع هنا في هذه العجالة للحديث عن الظواهر الشاذة والخاصة والاستثنائية. وأقصد بالأخيرة "ناصر 56"، اما الظواهر الخاصة فأعني بها عادل إمام وأفلام من ذاك الكم الذي لم يعد كبيراً بل صار محاولات في شريان هذه السينما. بالتأكيد هذا ليس جحودا لمساهمات السينمائيين الذين حاولوا ويحاولون أن يقيموا، أو يحافظوا على سينما عربية ومختلفة. ولكن واقع الأمر لا يدعونا الى التعميم والقول ان الأحوال في مجملها رديئة وصعبة وقاسية"