من الساعة صفر من منتصف ليل 15 - 16 تشرين الأول اكتوبر تبدأ ولاية البرلمان اللبناني المنتخب، الثاني في ظل "الجمهورية الثالثة" المنبثقة من تسوية إتفاق الطائف 1989، العاشر منذ "الجمهورية الثانية" غداة الاستقلال 1943، الخامس عشر بعيد الجمهورية الأولى مع وضع أول دستور لبناني 1926. يبدأ البرلمان الجديد ولايته 4 سنوات مُحاطاً بكثير من التساؤلات تتصل بالقانون الذي انتخب في ظله، والملابسات التي رافقت تأليف لوائحه الانتخابية وخصوصاً الائتلافات المركّبة في الساعات الأخيرة التي سبقت الاقتراع فعززت مواقع المرشحين الحكوميين وساهمت الى حدّ كبير في انجاحهم، والانتهاكات التي سادت معظم العمليات الانتخابية فأطلقت يد الماكينة الانتخابية القوية للحكومة اللبنانية. تساؤلات تطاول كذلك المهمة المطلوبة من المجلس الجديد في المرحلة المقبلة، مرحلة الاستحقاقات الاقليمية الكبيرة، في ضوء التركيبة السياسية التي نتجت من الانتخابات وجعلت القرار الاشتراعي اللبناني في قبضة 4 قوى برلمانية تتفاوت في احجام تمثيلها وأعدادها، إلا انها تعكس في المجلس الجديد توازناً داخلياً أفضل ملاءمة للطبقة السياسية التي نشأت منذ ما بعد 13 تشرين الأول 1990. القوى الأربع تلك شكّلت في ذاتها مجموعة غالبيات برلمانية صغيرة من حيث انبثاقها من انتخابات المحافظات الخمس، بيد انها لا تلبث ان تصير غالبية سياسية واحدة تُسقط دفعة واحدة الحدود الدستورية الفاصلة بين المؤسسات وتُقيم تبعاً لذلك نمطاً واحداً من السلطة في مجلس الوزراء ومجلس النواب. غالبية الغالبيات اما الغالبيات الأربع الصغيرة في برلمان ال 128 نائباً، فتتقاسمها: - كتلة الرئيس نبيه بري، أكبر الكتل البرلمانية بما نسبته 16.40 في المئة من مجموع النواب الذين يتألف منهم المجلس. تضم 21 نائباً بين منتمين الى حركة "أمل" التي يرأسها بري وقريبين منها وحلفاء سياسيين بحكم الائتلاف الانتخابي يجمعهم به رابط المنطقة الواحدة أي الجنوب. فالنائبة بهية الحريري التي تجد انتسابها الى كتلة شقيقها الرئيس رفيق الحريري الموقع الطبيعي لها اختارت، وهي الصيداوية الحليفة الانتخابية لبري منذ 1992، عضويتها في كتلة رئيس المجلس. الأمر نفسه يصح في الوزير أنور الخليل القريب من الوزير وليد جنبلاط. - كتلة الرئيس رفيق الحريري التي تضم 15 نائباً ما نسبته 11.71 في المئة من نواب المجلس تشكّل لائحة بيروت الانتخابية نواتها 9 نواب فيما الآخرون من الشمال والبقاع والجبل ممن دعم الحريري ترشّحهم. - كتلة الوزير وليد جنبلاط التي تضم 11 نائباً ما نسبته 8.59 في المئة من مجموع النواب يتوزّعون، على غرار كتلة بري، بين نواب ينتمون الى الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يترأسه جنبلاط 4 نواب وحلفاء انتخابيين وسياسيين في الشوف 4 نواب تعاون معهم جنبلاط في اطار خطة اعادة المهجرين المسيحيين الى الجبل للمرة الأولى في انتخابات 1992 وسهّل اعادة انتخابهم للدورة الحالية باستثناء النائب سمير عون. مع الاشارة هنا الى التمدد الانتخابي الذي مكّن جنبلاط من السيطرة الانتخابية والسياسية على منطقة عاليه 3 نواب جدد مؤيدين له واسقاطه مرشحي خصمه في الزعامة الدرزية طلال ارسلان، محققاً بذلك انتصاراً انتخابياً كبيراً داخل زعامته الدرزية عجز عنه والده كمال جنبلاط سنين طويلة بفعل الائتلاف السياسي والانتخابي الوثيق بين مجيد ارسلان والد طلال والرئيس كميل شمعون في عاليه حاصراً الزعامة الانتخابية الجنبلاطية في الجبل بالشوف. لكن ذلك الائتلاف ما لبث ان تفكك عشية انتخابات 1972 بفعل اصرار ارسلان على ضم منير أبو فاضل الى اللائحة الائتلافية وإصرار شمعون في المقابل على ضم غسان تويني اليها، فاختلفا وحلّ كمال جنبلاط في الائتلاف محل شمعون من دون تمكينه من وضع اليد على عاليه. - كتلة الرئيس الياس الهراوي غير الرسمية وغير المعلنة، وتالياً غير المنتظمة في تكتل برلماني سوى ارتباط اعضائها افرادياً برئيس الجمهورية. تضم 10 نواب ما نسبته 7.81 في المئة من مجموع النواب يتوزعون على 4 محافظات كان للهراوي دور اساسي وفاعل، في الداخل كما لدى دمشق، لتسهيل ضمّهم الى اللوائح الرسمية وضمان فوزهم بالنيابة، فاضحوا مدينين له بدعم مواقفه داخل البرلمان. في الواقع فان في وسع الكتل البرلمانية الأربع هذه جمع 57 نائباً تُضاف اليهم 4 كتل نيابية اخرى متماسكة وثيقة الصلة بالرؤساء الثلاثة ككتلة النواب الأرمن حليفة الهراوي وبري التي تضم 4 نواب، والكتلة القومية حليفة الحريري التي تضم 5 نواب، وكتلة الوزير ميشال المر حليف الرؤساء الثلاثة التي تضم 5 نواب، وكتلة الوزير الياس حبيقة الحليفة للحريري والتي تضم نائبين، اضافة الى عدد وافر من النواب المستقلين المرتبطين بالرؤساء الثلاثة او بأحدهم كعصام فارس ووجيه البعريني والوزير محسن دلول ورشيد الخازن ومنصور غانم البون ونهاد سعيد ومحمود عواد وايلي الفرزلي وخليل الهراوي وغازي زعيتر ومحمد علي الميس وآخرين... ليرتفع مع هؤلاء جميعاً أعضاء غالبية الغالبيات هذه الى نحو 84 نائباً على الأقل. الى ما يتجاوز نصاب الاكثرية المطلقة للبرلمان 65 نائباً ويُلامس غالبية ثلثي اعضائه 85 نائباً، وفي ذلك ما يكفي لاحكام القبضة على عنق القرار الاشتراعي. كل هؤلاء تقابلهم في الموقع الآخر قلة معارضة لا يبلغ عددها في أحسن الاحوال 15 نائباً بالرؤساء حسين الحسيني الذي قاطع كلياً جلسات برلمان 1992 وسليم الحص وعمر كرامي واستمراراً بالنواب نسيب لحود ونجاح واكيم وزاهر الخطيب وكميل زيادة ومصطفى سعد والياس سكاف المتشددين في معارضتهم، من دون اغفال دور بعض الكتل البرلمانية التي تترجّح بين موقعي الموالاة والمعارضة ككتلة نواب "حزب الله" تبعاً لارتباط الموقع بالموقف من المقاومة في الجنوب والنائب سليمان فرنجية الواقف باستمرار في المكان الوسط بين هذين الموقعين ورفاقه في كتلته 3 نواب بعدما خسر في الانتخابات رابعهم ابن عمته كريم الراسي وبعض النواب المستقلين. العقاب بالفتكيك الى أين من كل ذلك؟ الى استنتاجين أولين: - ان تعدد الكتل البرلمانية، ومن قبلها الاحزاب كما سيتبيّن لاحقاً، داخل البرلمان لا يتيح بالضرورة توازناً وتكافؤاً بين قوى الموالاة والمعارضة داخل مجلس نيابي جانح في غالبيته الى قوى مربع الحكم الهراوي وبري والحريري وجنبلاط. وتالياً فان موقع المعارضين لا يتعدى اكثر من التحفظ والاعتراض والاحتجاج بعدما نجحت الحكومة، بكفاية كبيرة في ادارة الانتخابات الأخيرة والمرحلة التي سبقتها، في تفكيك قوى المعارضة السياسية عقاباً لها على معارضتها التمديد لرئيس الجمهورية 19 تشرين الأول / اكتوبر 1995 ومن ثم قانون الانتخاب الحالي: أخرجت النواب مخايل ضاهر وميشال سماحة وحبيب صادق من المجلس ونائبين ل "حزب الله" من بيروت وبعبدا، وحالت دون وصول الدكتور ألبير مخيبر، وطحنت كتلة النائب طلال أرسلان بوصوله وحيداً الى المجلس مع اسقاط النواب بيار حلو وفؤاد السعد ومروان أبو فاضل وكتلة الرئيس سليم الحص بتجريدها من بعض اعضائها كالنائب بشارة مرهج ذاهباً الى كتلة الحريري وإسقاط الآخرين باستثناء الحص والنائب محمد يوسف بيضون وكتلة "الجماعة الاسلامية" التي لم ينجُ منها إلا نائب واحد، اما المعارضون الرابحون فوصلوا منهكين: لحود وحيداً من لائحته، ودكاش وحيداً من لائحته، وواكيم وحيداً من لائحته، وزاهر الخطيب خارجاً من زواجه القسري مع جنبلاط بارادة دمشق، ومصطفى سعد محاصراً في الجنوب، والحسيني في قلب بركان "حزب الله" في البقاع الشمالي، ومثله سكاف في زحلة والبقاع الغربي يُطوّقه فريق من النواب موزَّع الولاءات المتقلّبة بين الرؤساء الثلاثة، بذلك استطاعت انتخابات 1996 توجيه ضربة قاسية الى المعارضين عوض تعزيز حضورهم داخل المجلس، في وقت كان المسؤولون ينشدون من خلال تحريضهم على الترشّح استيعاب نقمة المقاطعين واستقطابهم الى المشاركة في الاقتراع. كان الفخ "الرسمي" محكم الاعداد ومزدوج الهدف: شقت الحكومة تيار المقاطعة وصغّرت حصة المعارضة في الداخل. - تمثّل نمط واحد وحيد من القوى السياسية داخل البرلمان على حساب التنوّع الذي من شأنه احداث توازن سياسي، لا برلماني فحسب، داخلي في المؤسسات، وقد نجحت الحكومة اللبنانية عملياً في خطة فرض النمط الواحد من التمثيل النيابي والسياسي في البلاد: أصرت على قانون انتخاب غير عادل وغير متوازن فقاطع الانتخابات حزب الكتلة الوطنية وحزب الوطنيين الاحرار والتيار العوني و"القوات اللبنانية" بالتزامن مع الحؤول دون عودة الزعماء الثلاثة الرئيس أمين الجميل والعماد ميشال عون والعميد ريمون إده من المنفى، دفعت حزب الكتائب الى الترشّح بأعداد وافرة بعد وعود لقيادته بمساعدته على وصول بعض مرشحيه الى النيابة، فاذا بهؤلاء لا يجدون مقعداً واحداً يضمّهم الى لائحة ويفشل رئيس الحزب جورج سعادة في الشمال على رغم عضويته في احدى اللائحتين القويتين. في المقابل ينجح الحزب السوري القومي الاجتماعي في 5 مقاعد، والحزب التقدمي الاشتراكي في 4 مقاعد، وحركة "أمل" في 8 مقاعد، وحزب البعث في مقعدين، وحزب "الوعد" في مقعدين، و"حزب الله" في 7 مقاعد، و"الجماعة الاسلامية" في مقعد واحد، و"التنظيم الشعبي الناصري" الصيداوي في مقعد واحد. ينتهي المطاف بكل هذه القوى الى واحد من الاحواض البرلمانية الأربعة: مع الهراوي أو بري أو الحريري أو جنبلاط. يقود هذا الأمر الى ظاهرة غاية في الأهمية تعكسها تركيبة الكتل والأحزاب داخل المجلس: - فالحزب السوري القومي الاجتماعي بعد سقوط مرشحه في الكورة سليم سعادة يتمثّل ب 5 نواب مسيحيين ثلاثة منهم موارنة في بيروت وجبل لبنان والبقاع والجنوب، محاولاً بذلك - وهو الحزب العلماني العقائدي - احتكار التمثيل النيابي المسيحي: لا بل المسارعة الى ملء الفراغ الذي احدثته مقاطعة الاحزاب المسيحية الانتخابات وانهيار حزب الكتائب. - وحركة "أمل" تخرج من دائرة تمثيلها الجنوب على ما كانت عليه في انتخابات 1992 لتربح نائباً عن بيروت وآخر مؤيداً لها في بعبدا يُسقطان بتحالف وثيق مع الحريري في بيروت وجنبلاط في بعبدا مرشحي "حزب الله" محمد البرجاوي وعلي عمار. بذلك تدخل "أمل" - ومعها بري - للمرة الأولى الى صلب القرار البيروتي بتشعّباته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والانمائية... وتتمدد الى الضاحية الجنوبية قلعة "حزب الله" لتقاسمه سلطة القرار والنفوذ فيها. - والوزير وليد جنبلاط بعد سيطرته الانتخابية على عاليه بات يتحكم بنوابها المسيحيين ال 3 مارونيان وأرثوذكسي تكون له الكلمة الفصل في تسميتهم يُضيفهم الى نواب الشوف المسيحيين ال 4 الذين له كذلك الكلمة الفصل في تسميتهم. - و"حزب الله" على رغم تصغير حصته في بعلبك - الهرمل من 6 نواب شيعة الى 3 في مقابل مضاعفة هذه الحصة في الجنوب الى 4 تُرك له مجدداً حق تسمية المرشحين الماروني والسني عن المنطقة بعد تجريده من حق تسمية المرشحين الكاثوليكي والسني الثاني كانا له في انتخابات 1992. كل ذلك يأتي عملياً ليعكس السبل الكفيلة بتأمين حد أدنى من التنوِّع وإن الشكلي داخل البرلمان لا يمس طبيعة تكوينه، الرامية الى محاصرته بنمط واحد من السلطة. في الواقع لا تعوز القائلين بهذا الرأي حجة للدفاع عن تمثيلية المجلس الجديد وحجم المشاركة في الاقتراع له 44 في المئة قياساً بالنسبة التمثيلية للمشاركة 30.34 في المئة التي كان عليها مجلس 1992، على ان نسبة مشاركة كهذه - في ظل كل ما قيل عن اقتراع الموتى والمهاجرين والمهجّرين وبوسطات المجنّسين المحمولين بقيودهم وكل ما رافق الانتخابات الأخيرة من انتهاكات "رسمية" في مسار العمليات الانتخابية بدءاً من توظيف امكانات الادارات الرسمية وقواها واجهزتها وملفاتها في خدمة الحملات الانتخابية للمرشحين الحكوميين - تبقى غير ذات دلالة احصائية ما دامت ائتلافات اللوائح المركبة كالتي عرفتها محافظات الشمال والبقاع والجنوب هي التي ستُوصل الى ساحة النجمة في آخر المطاف.