"الصدمة"... "الغلطة"... "المأزق"، الكلمات الثلاث الأكثر تداولاً في أوساط الإسرائيليين، والأفضل تعبيراً عن حقيقة شعورهم حيال المواجهة الدامية التي كانت الأراضي الفلسطينية مسرحاً لها خلال الأيام الماضية. وفيما اتبعت حكومة بنيامين نتانياهو وأركانه من سياسيين وعسكريين واعلاميين اسلوباً اعلامياً ودعائياً كان متوقعاً إلى حد كبير من حيث تركيزه على إظهار رباطة الجأش والتشدد في المواقف وإلقاء اللوم في صورة كاملة على الجانب الفلسطيني والتشبث بضرورة "إعادة الأمور إلى نصابها" وغير ذلك من تعابير مشابهة، فإن ذلك الاسلوب لم يكن كافياً للتغطية على هول الواقع الجديد الذي "استفاق" الإسرائيليون عليه، وهو أن إسرائيل باتت على يقين بأن أية "انتفاضة" فلسطينية جديدة ستكون مسلحة، وأنها ستكون مرشحة للتحول بسرعة إلى ما يشبه "حرباً أهلية"، وستكون للمرة الأولى منذ عام 1948 داخل ما يعتبرونه "عقر دارهم" وعلى مشارف مدنهم ومستوطناتهم ومجمعاتهم الحيوية التي شكلت منذ قيام الدولة العبرية "مناطق محرمة" لا يمكنهم السماح بالمساس بها. هذا "الواقع الجديد" لم يعد في مقدور أي إسرائيلي تجاهله على رغم جميع الجهود الاعلامية والتصريحات الرسمية والمواقف الظاهرية التي حاولت ذلك. فالتقويم الإسرائيلي الحقيقي لما حدث تجسده معلومات نقلتها مصادر مطلعة عن مسؤول رفيع المستوى هناك تحدث فيها عن "شعور بالصدمة الكاملة" نتيجة اطلاق قوات "الشرطة" الفلسطينية النار على القوات الإسرائيلية. وكان من شأن هذا الشعور بالصدمة، حسب المسؤول الإسرائيلي، تذكير الإسرائيليين بحجم "الغلطة الفادحة" التي ارتكبت عندما تمت الموافقة على "تسليح تلك الشرطة" وصولاً إلى "المأزق الفعلي والخطير" الذي بات قائماً الآن في الأراضي الفلسطينية، والذي يضيف المسؤول الإسرائيلي في شأنه قائلاً: "إنه مأزق يحتم على الجميع ضرورة العثور على مخرج منه قبل وقوع الكارثة". مأزق نتانياهو و"الكارثة"" التي يقصدها المسؤول الإسرائيلي هي طبعاً "انهيار عملية السلام وإفلات الأمور من زمام السيطرة في الأراضي... فالمسار الفلسطيني يظل في نظري أساس العملية السلمية، ولن يكون ممكناً عمل أي شيء على المسارات الأخرى قبل إعادة هذا المسار إلى طريقه السليم". ولا يفصح المسؤول عما يراه ضرورياً أو مناسباً لتفادي "الكارثة" وإعادة المسار الفلسطيني إلى "طريقه السليم"، لكنه يقر ب "اخطاء" ارتكبتها الحكومة الإسرائيلية الحالية منذ وصولها إلى السلطة، ويذهب إلى حد تحميل رئيسها نتانياهو ومستشاريه المقربين "المسؤولية الأساسية" عن تلك "الأخطاء". وبقدر مماثل من الصراحة، يتحدث المسؤول عن رئيس الحكومة الإسرائيلية وسياساته فيقول: "لا اعتبر نفسي من المعجبين بنتانياهو، والحقيقة انني لم اقترع له في الانتخابات الأخيرة. واعتقد بأن مشكلته الأساسية تعود إلى افتقاره إلى الخبرة في شؤون الحكم، وإلى الحنكة السياسية المطلوبة للتعامل مع قضية بالغة التعقيد مثل الصراع بين العرب وإسرائيل بكل جوانبه التاريخية والنفسية والعاطفية والواقعية المباشرة، وهو ما ينطبق أيضاً على المستشارين والمساعدين الذين أحاط رئيس الحكومة نفسه بهم. وهذا ما كان يتطلب حتماً فترة من التريث والتعلم واكتساب الخبرات ومراجعة المواقف والسياسات. لكن المؤسف ان هذه الفترة طالت أكثر مما ينبغي، وبدا خلالها أن ثمة شللاً في توجهات الحكومة الجديدة حيال المسيرة السلمية التي ظهرت بدورها وكأنها بلغت طريقاً مسدوداً. وبديهي أن منطقة كالشرق الأوسط حبلى دائماً بالتطورات والمفاجآت لا تتحمل فترة جمود كهذه، لا سيما عندما تطول". لكن هذا التقويم "الفلسفي" إلى حد ما لما بات في الامكان تسميتها "مشكلة نتانياهو" قد لا يكون كافياً لتفسير حقيقة الدوافع التي حدت بالإسرائيليين إلى انتخابه وتفضيله على سلفه العمالي شمعون بيريز. وفي هذا الاطار، يقدم المسؤول الإسرائيلي تحليلاً يساهم في شرح ذلك، ويساعد أيضاً على فهم أبعاد المشكلة الصعبة التي آلت إليها جهود التسوية في المنطقة منذ وصول نتانياهو و"ليكود" إلى الحكم، إذ يقول: "لا اعتقد بأنه من الانصاف اعتبار جميع الإسرائيليين الذين صوتوا لنتانياهو في الانتخابات الأخيرة معارضين لعملية السلام ولأهدافها، بل انني على اقتناع كامل بأن غالبية الرأي العام الإسرائيلي عموماً، واليهود الإسرائيليين بالذات، لا تزال تؤيد هذه العملية وتريد تحقيقها، لكنهم كانوا يشعرون في الوقت نفسه بعدم ارتياح حيال الطريقة التي اتبعت في عهد حكومة بيريز، وبقدر من عدم الثقة في النتائج التي قد تتوصل إليها. ومشكلة بيريز أنه أشاع جواً بأنه على استعداد لتحقيق السلام بأي ثمن، حتى ولو كان ذلك على حساب مصالح إسرائيل وأمنها الحيوي، على خلاف سلفه اسحق رابين الذي كان يشاركه السياسة نفسها والأهداف نفسها، لكنه نجح مع ذلك بفضل حذره وحزمه المعهودين في اقناع الإسرائيليين بأن السلام لن يكون على حساب الأمن، بل أنه سيؤدي إلى الأمن. والمأساة ان حلم بيريز في السلام والانفتاح والتعايش والتعاون الاقليمي بين إسرائيل وجيرانها تحول إلى ما يشبه الوليمة الشهية التي يصاب المرء بعسر هضم نتيجة اسراعه في التهامها عوضاً عن التأني والتمتع بتذوقها. ونتيجة لشعور الإسرائيليين بعسر الهضم هذا حيال السرعة التي اعتقدوا أن بيريز يسير بها نحو السلام، اتجه بعضهم نحو نتانياهو الذي وعدهم بابطاء العملية وإيلاء المزيد من الاهتمام فيها للمصالح الإسرائيلية مع اعطاء الأولوية القصوى للأمن. لكن المؤسف أن هذا الإبطاء سرعان ما ظهر وكأنه تجميد، فيما بدا التركيز على الأمن وكأنه تراجع كامل عن العملية ومبادئها الأساسية وأهدافها النهائية. ومشكلة نتانياهو أصبحت الآن عكس مشكلة بيريز. فكما كان يتعين على الأخير اقناع الإسرائيليين بأن السلام على طريقته لن يكون بأي ثمن وليس على حساب الأمن، يتعين على رئيس الحكومة الحالي أن يعمل على اقناع الجميع بأنه لا ينوي التراجع عن السلام أو الخروج عن هدف التوصل إليه". تفادي الكارثة قد يعكس هذا التحليل حقيقة مشاعر الإسرائيليين ودوافعهم وقد لا يعكسها، لكنه يظل مؤشراً لافتاً على عمق "المأزق" الذي وصلت إليه سياسة الحكومة الحالية. وكما علق مصدر ديبلوماسي عربي على كلام المسؤول الإسرائيلي، فإن "مشكلة نتانياهو لا تقتصر على اقناع الآخرين، بل اقناع نفسه أولاً بأن السلام ضرورة حتمية لا بد منها وأن البديل عن العملية السلمية لا يمكن أن يكون سوى الكارثة التي ستطال الجميع". والواقع ان أياً من المؤشرات التي توافرت حتى الآن حول النهج الذي يبدو نتانياهو مصراً على اتباعه في مواجهة الوضع المتفجر في الأراضي الفلسطينية، خصوصاً وعلى صعيد عملية السلام في صورة عامة لا يدعو إلى التفاؤل، بل أنها كانت جميعها كفيلة بتعزيز الشعور العميق بالتشاؤم من امكان أن تكون لديه الرغبة أو حتى القدرة على ادخال أي تعديل فعلي على البرنامج الذي جاء إلى الحكم على أساسه. وهذا الشعور بالتشاؤم لم يعد مقتصراً على الأوساط الفلسطينية أو العربية فحسب، بل أنه بات سائداً في العواصم الأوروبية وحتى في أوساط الإدارة الأميركية نفسها، اضافة إلى قطاعات لا يستهان بها من الرأي العام الإسرائيلي. وكان لافتاً إلى حد كبير ما طلعت به نتائج استطلاع للرأي أجري في أعقاب المواجهات في القدس والأراضي الفلسطينية واشتمل على عيّنة من اليهود الإسرائيليين، إذ أظهرت أن نسبة 57 في المئة من هؤلاء لا تؤيد سياسات نتانياهو وغير راضية عن أدائه منذ أن أصبح رئيساً للحكومة، وأن نسبة 5،79 في المئة منهم تؤيد اتفاقات أوسلو وتريد المضي قدماً في تنفيذها. وبعد مرور مئة يوم على توليه السلطة، لن يشعر نتانياهو بالارتياح أمام نتائج استطلاعات الرأي العام، وهو المعروف باهتمامه إلى حد الهوس بالاعلام والصورة التي يكونها عنه الرأي العام، حتى ولو كان ذلك على حساب المواقف السياسية الفعلية. لكنّ الأخطر من ذلك بالنسبة إلى زعيم "ليكود" هو الاحتمال الذي أضحى جدياً بفقدانه الصدقية كرئيس فعال للحكومة، وكرجل دولة قادر على اتخاذ القرارات والتراجع عن الأخطاء والتحلي بما يستلزمه ذلك من مرونة وخبرة وحنكة. وتعكس المواقف الحادة التي أعرب عنها زعماء المعارضة العمالية الإسرائيلية حجم الأزمة التي تعانيها الدولة العبرية حالياً في ما يتعلق برئيس حكومتها. فعوضاً عن التمسك بالتقليد السائد منذ قيام الدولة، والذي ينطوي على تضامن المعارضة عادة مع الحكومة في مواجهة "أزمة وطنية" أو قضية شائكة لها علاقة بالسياسة الدفاعية والأمنية، لم يتردد رئيس الحكومة العمالية السابق شمعون بيريز وغيره من أركان الحزب في تحميل نتانياهو وسياساته مسؤولية الأزمة التي بلغتها العملية السلمية والوضع الدامي الذي تفجر في الأراضي الفلسطينية. وبلغ الأمر بوزير الدفاع اسحق موردخاي نفسه ان ينتقد ضمنياً قرار فتح النفق في القدسالشرقية الذي شكل الشرارة المباشرة للمواجهة عندما اعتبر ان "توقيته كان سيئاً"، في الوقت الذي تحدثت فيه مصادر عدة عن شعور عام بالاستياء في أوساط المؤسسة العسكرية، وترددت معلومات عن تهديد رئيس الأركان الجنرال أمنون شاحاك بالاستقالة أو الاعتكاف احتجاجاً. وكأن كل ذلك لم يكن كافياً حتى أدلى رئيس الدولة عازر وايزمان الذي لا يفترض فيه أن يتدخل في الشؤون السياسية رسمياً أو علانية بتصريحات مثيرة من حيث الصراحة التي اتسمت بها، إذ حذر الإسرائيليين من أنهم "سيواجهون خطر حرب جديدة" إذا فشلت المساعي الحالية لإعادة الحياة إلى عملية السلام، ودعا الحكومة إلى ضرورة "التحلي بالحكمة" من أجل استئناف هذه العملية وتجنب المواجهة، وكشف النقاب في المقابل عن أنه أبلغ الرئيس حسني مبارك بأن "لا يتوقع" أن يلتزم نتانياهو أي جدول زمني لتنفيذ خطة إعادة انتشار القوات الإسرائيلية المتفق عليها مع الفلسطينيين في شأن مدينة الخليل، أو تقديم أي تنازلات حقيقية أخرى. شروط الحد الأدنى وربما لم يكن الرئيس المصري في حاجة إلى تحذير نظيره الإسرائيلي للاقتناع بأنه لن تكون هناك جدوى أو فائدة ترجى من مشاركته في القمة الطارئة التي دعا إليها الرئيس بيل كلينتون في واشنطن لمعالجة الوضع المتفجر والتوصل إلى صيغة لاستئناف المسار الفلسطيني قبل انهياره بالكامل. فذلك الاقتناع تكوّن أصلاً لدى القاهرة من محصلة الاتصالات والمشاورات التي جرت قبل القمة وأكدت للديبلوماسية المصرية ان نتانياهو "ليس في وارد ادخال أي تعديل يذكر على سياساته أو مواقفه". وتقول مصادر مصرية رفيعة المستوى إن "شروط الحد الأدنى"، التي وافق الرئيس مبارك على حضور قمة واشنطن على أساسها، تضمنت ضرورة موافقة رئيس الحكومة الإسرائيلية على النقاط الأساسية الآتية: 1- إقفال "النفق - الأزمة" في القدس والانطلاق من ذلك لتأكيد احترام الحكومة الإسرائيلية المقدسات الدينية وحرمتها، والامتناع عن تنفيذ أي خطوات مماثلة من جانب واحد تهدف إلى الامعان في سياسة "تهويد القدس" أو الاخلال بوضعها القانوني والديموغرافي الحالي قبل الاتفاق على الوضع النهائي الذي سيتم التوصل إليه في شأنها مستقبلاً. 2- الالتزام بجدول زمني محدد لتنفيذ خطة إعادة الانتشار العسكري الإسرائيلي في مدينة الخليل حسب الاتفاق الذي تم التوصل إليه في هذا المجال بين السلطة الوطنية الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية العمالية السابقة. 3- تأكيد الالتزام باتفاقات أوسلو وتطبيق بنودها، وتحديد موعد لبدء مفاوضات الوضع النهائي التي طال انتظارها للاتفاق على مستقبل الأراضي الفلسطينية ومدينة القدس وسائر ذلك من الأمور الأساسية التي لا تزال عالقة على هذا المسار. 4- وقف الاجراءات العسكرية الإسرائيلية التي اتخذت في أعقاب اندلاع المواجهة الأخيرة، وإعادة "تطبيع" الوضع تدريجياً، بما في ذلك رفع الحصار المفروض على الفلسطينيين منذ أشهر عدة. 5- اعلان الالتزام، ولو من حيث المبدأ، بالأسس التي قامت عليها عملية السلام منذ مؤتمر مدريد عام 1990 تمهيداً لاستئناف المفاوضات على المسارين السوري واللبناني عندما يصبح ذلك ممكناً. وتقول المصادر المصرية إن القاهرة اعتبرت أنه يجب أن تتوافر لقمة واشنطن الامكانات اللازمة لانجاحها، وأن يتم الاعداد لها بشكل كافٍ لئلا تصبح مجرد "مناسبة لالتقاط الصور ومصافحة الأيدي وتبادل الابتسامات". وأضافت: "كان لا بد لهذه القمة أن تنعقد، لكن نجاحها كان ولا يزال يعتمد على تحقيقها هدفين أساسيين، الأول مباشر وهو وقف أعمال العنف والحؤول دون تجدد المواجهات الفلسطينية - الإسرائيلية. وهذا يستدعي استئناف الحوار بين الجانبين على قاعدة التزام إسرائيل تنفيذ الاتفاقات وتجنب القيام بالمزيد من الاجراءات الاستفزازية التي تؤدي دائماً إلى تصعيد المواقف، مثل فتح النفق، والإصرار على إقفال بيت الشرق في القدس، وتوسيع الاستيطان. أما الهدف الثاني فهو أكثر شمولية لأنه يقضي بعودة الحكومة الإسرائيلية إلى الأسس التي قامت عليها جهود التسوية، أي مبدأ الأرض في مقابل السلام وتنفيذ القرارات الدولية على مختلف المسارات التفاوضية. وعندما أدرك الرئيس مبارك أن شيئاً من هذا القبيل لا يمكن توقعه من نتانياهو، أقله في الوقت الحاضر، ارتأى عدم المشاركة على أمل أن تحقق القمة ولو هدفها المباشر، أي استئناف الحوار الفلسطيني - الإسرائيلي بحضور الراعي الأميركي، والحؤول بالتالي دون وقوع الانفجار الكبير في الأراضي الفلسطينية". ويمكن النظر إلى هذا الموقف المصري من قمة واشنطن، ومن نتانياهو ومواقفه حيال عملية السلام عموماً، باعتباره أصبح موقفاً عربياً شاملاً تقريباً، بل أنه بات يعكس مواقف الدول الأوروبية وجزءاً على الأقل من الإدارة الأميركية وقطاعات عريضة من الجسم السياسي والشعبي الإسرائيلي نفسه. فالرجل لم يبد حتى الآن أي مرونة واستمراره في السياسة التي اتبعها منذ مجيئه إلى الحكم ستؤدي إلى انهيار عملية السلام برمتها، سواء على مسارها الفلسطيني أم على المسارين السوري واللبناني المجمدين حالياً. وحتى وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر لم يكن أقل تحفظاً من الرئيسى مبارك عندما دعا تكراراً إلى "عدم توقع المعجزات" من القمة، معرباً عما تنتظره واشنطن منها. فالقمة، كما بات متفقاً عليه في صورة شبه اجماعية، لم تعد فرصة حاول الرئيس كلينتون من خلالها "إعادة الوضع إلى زمام السيطرة، وكسب الوقت، وتجنب أي انفجار واسع النطاق، ريثما يتم تقطيع هذه المرحلة وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية الأميركية"، على حد تعبير مصدر ديبلوماسي أوروبي. ويمكن ان يكون تحقيق مثل هذا الهدف في حد ذاته انجازاً كافياً في الوقت الحاضر. وهذا ما ركزت عليه فعلاً أوساط الإدارة الأميركية عندما وصفت انعقاد القمة واجتماع عرفات ونتانياهو على انفراد ساعات عدة بأنه "أول مؤشر على امكانية النجاح". لكن هذه الاجتماعات اثبتت في المقابل "ان هوة الخلافات التي تفصل بين الجانبين لا تزال شاسعة". والواضح ان عرفات لا يحتاج إلى تقديم أي تنازلات، بل أن العكس هو الصحيح، لأن المطلوب بالحاح الآن هو عودة الجانب الإسرائيلي عن التراجعات التي نفذها على صعيد الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين منذ مجيء نتانياهو إلى الحكم. وهذا ما يعني، ببساطة، "اقفال النفق، وتنفيذ إعادة الانتشار العسكري في الخليل، وتحديد موعد لاستئناف مفاوضات الوضع النهائي"، حسب قول مصدر فلسطيني شارك في القمة. وفي هذه الاثناء يستمر "المأزق" في الأراضي الفلسطينية، حيث أخذت تظهر معالم الخطوط التي ستندلع المواجهة عليها، إذا ما وصل الأمر إلى ذلك. فالقوات الإسرائيلية نشرت مئات الدبابات والمدرعات وقطع المدفعية في حصار حقيقي للمناطق الفلسطينية ومواقع الانتشار العسكري الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي المقابل يبني الفلسطينيون خنادق وتحصينات رملية ودشماً معززة حول مناطقهم تحسباً لأي محاولة اقتحام إسرائيلية لها. وإذا كانت هذه "الأوضاع الميدانية" تعيد بقوة إلى الذاكرة وضع المخيمات الفلسطينية في لبنان أبان الحرب هناك، فإنها تبرز في الوقت نفسه صحة كلام المسؤول الإسرائيلي الذي شدد مراراً على "ضرورة عمل كل شيء ممكن لتجنب وقوع الكارثة المتمثلة في مواجهة شاملة تأخذ شكل حرب استنزاف وقتال شوارع وقنص وخطف وفوضى أهلية كاملة بين 40 ألف مقاتل فلسطيني مسلح والجيش الإسرائيلي، وبين المواطنين الفلسطينيين والمستوطنين الإسرائيليين... إن إسرائيل، بكل بساطة، لا يمكن أن تتحمل ذلك... والفلسطينيون بدورهم لا يستطيعون تحمل ذلك... وستكون النتيجة كارثة على الجميع". ربما تمكن نتانياهو من إدراك هذه الحقيقة. ولعل محادثاته في واشنطن مع الرئيس الفلسطيني والعاهل الأردني والرئيس الأميركي قد تساعده في ذلك. لكن الثابت هو أن أي معيار لنجاح "قمة اللاتوقعات" لن يكون في البيانات والتصريحات والمواقف الرسمية، بل في الوضع الميداني الذي سينعكس عنها على الأرض. وكما قال المسؤول الإسرائيلي: "إذا انهار الوضع على المسار الفلسطيني، سيكون ذلك نهاية عملية السلام وبداية الحرب الجديدة التي لن تظل مقتصرة، على الجبهة الإسرائيلية - الفلسطينية". وعند سؤال المصدر الديبلوماسي المصري عن رأيه في هذا التقويم لاحتمالات الموقف، اتسم جوابه بقدر كبير من الاختصار والدقة، إذ قال: "إنه صحيح تماماً...".