"بستان أسود" لهاديا سعيد "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" - بيروت 1996 ليس رواية لافتة تنهج نهجاً حداثياً فحسب، بل هي تقدم نموذجاً متفرداً ومفعماً بالجرأة. فالتجربة تدلّ على ما يمكن أن تسهم فيه الحداثة العربية من ابتكارات نوعية ناجحة، ونابعة من تصور اجرائي مفاده أن الرواية جنس أدبي مفتوح وقابل لأن تلعب فيه اللغة دوراً استثنائياً تستعيض فيه وحدها عن عناصر الأداء الأخرى. تعتمد الرواية أسلوباً في البناء يتنامى عبر المزاوجة بين السرد والحوار، وعلى نحو يكاد يمحو تقنيات الحوار كلها، محاولاً اخضاعها لسياق روائي ذي وتائر مشحونة باستمرار، بحيث يغدو الاجراء الروائي مؤشراً مناسباً إلى ما يدعوه جاك دريدا بپ"بروتوكولات القراءة". ف "بستان أسود" لا تكتفي بمحاولة ايصال مضامينها إلى القارئ، وإنما تشير كذلك إلى بروتوكولات قراءتها، إلى طرق كتابتها وقراءتها في آن. وهي بهذا المعنى، تحتفي بعملية الخلق نفسها وتعتبرها احتفالاً يكاد يكون مقصوداً لذاته. بل ان اشتغال الكاتبة اللبنانيّة على النص الروائي، ينطوي في جوهره على رصد مكهرب، من مواقع حركة وثبات، لطريقة تنامي النص واللعب على قواعد السرد والحوار، ومحاولة تدميرها واختزالها في أداء لغوي يستعير بعضاً من حيويته من لغة السينما، ويستجيب استجابة مدهشة لهواجس الخلق في لحظة وقوعها. إن كتابة الرواية، في حد ذاتها، هي التي تشغل الصدارة. وبالتالي يستحيل الاهتمام بالجنس الروائي، والاحتفاء به، شرطاً من شروط قراءته. كما تستدعي عملية القراءة نفسها، رصد علاقات النص بالنصوص الأخرى التي سبقته، سواء من حيث نقضه لتقنياتها، أو من حيث قيامه باستدعائها وإخضاعها لضروب من اللعب الفني الحر. وكل ذلك يمنح الكاتبة فرصة لرصد وسبر ذبذبات علاقة غرامية صريحة ومتعددة الصبوات والنزوات والأهواء. وهي تفعل ذلك بجرأة، وبلا مداورة، في اطار الانهيار الكبير الذي أعقب الاقتتال الطائفي والاجتياح الاسرائيلي للبنان. غير أن تلك الجرأة في الرصد والسبر، لا تبدو مقصودة لذاتها، أو معبرة عن تمرد ذي طبيعة وجودية واستعراضية مفضوحة، على غرار ما فعلته مثلاً ليلى بعلبكي وكوليت خوري في الستينات، وإنما هي جرأة مغايرة وخاضعة لبراعة ومكر وقدرة متميزة على مراوغة اللغة وتحويلها إلى تعبير. فاللغة هنا ليست أداة التعبير بل هي التعبير نفسه. ولهذا، فالمسافة في هذا الفضاء من اللعب الحر، بين الدال والمدلول، الواقع والحقيقة، الأدب والتاريخ، كثيراً ما تتلاشى لتوهم بوجود تطابق مدهش بين الواقع والخيال.وتلجأ هاديا سعيد، من أجل تحقيق ذلك، إلى التأثير الايهامي الذي يحدثه ادخال الواقع التسجيلي، بل العبث به أحياناً، في صميم عملية التخييل نفسها. وأحد الأمثلة على ذلك اضافة اسم واثق حازم، أحد أبطال الرواية إلى وثيقة خبر محاولة اغتيال تعرض لها الصحافي المعروف طلال سلمان. والهدف هنا هو الايحاء، بواسطة عملية الاختلاق المعلنة هذه، بوجود واقع وثائقي لا يشير إلى امكان الحدوث كما هو الشأن في عملية التخييل الروائي عادة، وإنما يؤكد عن طريق ابراز تاريخية الحدث، وتحويله إلى تاريخ موثق في جريدة، أن الحدث وقع فعلاً. لذا يمكن أن نتحدّث هنا عن وجود ضرب من "الوقائعيّة" يحلّ مكان الواقعيات الجديدة والمألوفة. ولا تقتصر عمليات الإحالة على الوثائق التاريخية وحدها، ممثلة بالأخبار الصحافية أو عناوين التقارير السياسية، وإنما تتعدى ذلك إلى إلماعات أو إشارات إلى أعمال روائية أخرى. هذه الاحالات تستثمرها الكاتبة التي اختارت أن تُخضِع النص للعب اللغوي الحر، لإضفاء قدر آخر من الوقائعيّة، مستمد هذه المرة من روايات لافتة، تتعامل معها على أساس أن صدورها، ووجود قراء لها، يجعلها مصدراً من مصادر الواقع الذي تستمد منه الرواية مادتها وقوامها. والرواية التي تستثمرها الكاتبة عنوانها "الحمار"، وهي من تأليف كاتب الماني اسمه غونتر ديبرون، عرّبها الروائي المصري صنع الله ابراهيم. هذا الحمار - حسب الكاتب الألماني - هو الزوج أو العاشق الحائر بين كومتين من القش: الزوجة والعشيقة. والحقيقة أن حمار بوريدان الذي ينسب إليه عنوان الرواية يتعلق بفيلسوف من القرن الرابع عشر، بلور ما سمي بدليل الحوار، وهو قوله: لو وضعنا حماراً على مسافة واحدة من الماء والعلف وكان عطشه مساوياً لجوعه، لما استطاع أن يرجّح جانباً على الآخر. ولهذا فالحيرة هي بين العطش والجوع. وأما الاشارة إلى هذا الحمار في "بستان أسود"، بحنكة ودراية، ومن دون أن تبدو مقحمة على النص، فإنها تتعلق بحيرة العاشق نفسها التي تحاول هاديا سعيد تبريرها عن طريق مراجعة لرواية الكاتب الألماني المذكور تظهر في جريدة "السفير" البيروتيّة، وتتيح ليارا - راوية الرواية - فرصة اللعب على الفكرة بمكر ودهاء. وعندما يقرأ زوجها واثق حازم المراجعة، تتحوّل الإلماعة هذه أداة إجرائية ذات شأن. وهكذا تعتمد الرواية ضروباً من الاشارات التي يفترض أن توهم بأنها تقدم واقعاً موثقاً. بل تنتهي في وقت لاحق، بإحالة إلى ما تدعوه الكاتبة بپ"صندوق واثق" الذي يشتمل على أوراق وقصاصات صحف، وكاسيت لحديث إذاعي، ورسائل من واثق الذي قُتل في حادث اغتيال طلال سلمان، وقصاصات ووثائق تاريخية من ضمنها العدوان الثلاثي على مصر، وإعلان انهيار الجمهورية العربية المتحدة في شباط فبراير 1958... في الحقيقة تشير الكاتبة إلى أن هذا هو تاريخ انهيارها، بينما الحقيقة هي أن هذا هو تاريخ الاعلان عن قيامها. فمن الذي أخطأ الحساب: كاتبة الرواية أم ذاكرة واثق حازم؟... وهناك اشارة إلى اغتيال كامل مروة في 16 أيّار مايو 1961، وأخرى إلى أن ربع ضحايا صبرا وشاتيلا هم من اللبنانيين... كل هذه الإلماعات تذكرنا بسيطرة هاديا سعيد اللافتة على تقنيات روائيّة تنتمي إلى رواية "ما بعد الحداثة". فنحن هنا ازاء رواية تشتمل عمداً على احالات يحتفي كل منها بالكولاج والباستيش، بهدف الإيحاء بوهم الحدوث عن طريق ترصيع السياق الروائي باشارات تتصل بالتاريخ المباشر، وتدشن فكرة إبراز عملية كتابة الرواية، أو قل الاشتغال على نصها. بل ان الرواية تبدو، بمعنى من المعاني، نصاً احتفالياً بعملية كتابتها المرجأة إلى حين العثور على وثائقها. وهذه الوثائق موجودة في صندوق خلّفه بطل الرواية، لكن الحصول عليه يصبح متعذراً، كتعذر الاستحواذ على الحقيقة نفسها