يوم أسود جديد أضيف الى سجل الايام السوداء في بورصة تل أبيب، ففي 26 ايلول سبتمبر الماضي، وبعد يوم واحد من الاشتباكات الدامية بين الفلسطينيين والقوات الاسرائيلية، تراجع مؤشر "ميشتانيم" المؤلف من اسهم مئة شركة ممتازة بمعدل 95،7 نقطة، اي بنسبة 04،4 في المئة ليقفل على 188.62 نقطة. ثم استمر التراجع في ظل حالة من الفزع، بدأ معها العد العكسي لهروب الاستثمارات الاجنبية من اسرائيل، ولوحظ ان المستثمرين انقسموا الى ثلاث فئات: فئة أقدمت على بيع الاسهم، وفئة ثانية اشترت مستفيدة من تراجع الاسعار، وهي متفائلة بتجاوز الازمة، وفئة ثالثة آثرت التريث وانتظار نتائج التطورات العسكرية والسياسية، على أمل استئناف مسيرة عملية السلام في المنطقة التي يتوقف عليها مستقبل سوق الاسهم، كما قال سمسار لدى "بنك فرست انترناشيونال اسرائيل". وتقدر بعض المصادر المالية خسائر مؤشر "ميشتانيم" للاسهم منذ انتخابات 29 أيار مايو الماضي بنحو خمسة مليارات دولار. لقد سبق للسوق الاسرائيلية أن شهدت تدفقاً للاستثمارات الاجنبية، اثر توقيع اتفاقية السلام مع الفلسطينيين في عام 1993، وحسب بيانات "هوبو عاليم" بلغ حجم هذه الاستثمارات نحو 604 ملايين دولار عام 1994، ووصل الى 03،2 مليار دولار عام 1995، وخلال الاشهر الثلاثة الاولى من عام 1996، بلغت الاستثمارات الاجنبية الفعلية 354 مليون دولار. مع العلم ان قيمة الاستثمارات الاجنبية في الاصول الثابتة وصلت الى 780 مليون دولار بعدما كان هذا النوع من الاستثمار منعدماً قبل اتفاقية السلام، كما يقول يورام جاباي رئيس احدى شركات ادارة الاستثمار التابعة لبنك "هوبوعاليم". ضياع ثمار السلام لكن تدفق الاستثمارات الاجنبية توقف منذ وصول بنيامين نتانياهو الى رئاسة الحكومة. وقد حذر المستثمرون من ضياع ثمار السلام التي جناها الاقتصاد الاسرائيلي خلال السنتين الماضيتين، بسبب سياسات نتانياهو. ويقول ستيفن ماركوارت عضو مجلس الادارة المنتدب للشؤون الاستثمارية في مؤسسة "ميريل لينش" "ان استمرار عملية السلام يمثل اهمية بالغة بالنسبة الى اسرائيل والاردن والدول المحيطة. وتباطؤ عملية السلام قد يبطئ الاستثمارات الدولية". اما جوناثان كولبر رئيس شركة كلاريدج اسرائيل التي تستثمر من خلالها شركة تشارلز برونفمان الكندية اموالها في اسرائيل فقد اوضح: "اسرائيل في منعطف حساس وعليها ان تحدد الطريق الذي ستسير فيه... أهو الطريق الى اليابان ام الطريق الى البوسنة". وأضاف ان اسرائيل تسير في الوقت الحالي في اتجاه البوسنة على ما يبدو. وقال كولبر: "لا نشعر بحماس شديد في الوقت الحالي لوضع اموالنا في الاقتصاد". وألقى باللائمة على وقف عملية السلام منذ تولي نتانياهو السلطة. ويقول باتريك جورج محلل شؤون الشرق الاوسط في مؤسسة الوساطة المالية "جيمي كيبل" في لندن "ان الاقتصاد الاسرائيلي يعتمد بقوة على نتائج عملية السلام في الشرق الاوسط خصوصاً في اجتذاب الاستثمارات الاجنبية وحتى العربية". ويضيف "ان عملية السلام يجب ان تستمر وإلاّ ستؤدي الى كارثة على اسرائيل والاردن معاً". واضافة الى مؤشر الاسهم، برز مؤشر آخر لفقدان الثقة تمثل في سحب الاسرائيليين الاموال من صناديق التقاعد التي تستثمر قسماً من رساميلها في البورصة، وقد بلغت السحوبات في شهر واحد 330 مليون دولار، وقدر حجم السحوبات منذ حزيران يونيو وحتى ايلول سبتمبر الماضي بنحو 3،1 مليار دولار. وحسب استطلاع اجراه معهد "غالوب" يعتزم 34 في المئة من المدخرين سحب مدخراتهم من صناديق التقاعد حتى نهاية العام الحالي. ومن الطبيعي ان يؤدي هذا النزف الى زعزعة النظام المالي في اسرائيل، لان هذه الصناديق تدير ما مجموعه 33 مليار دولار من الرساميل. ويبدو ان قطاع السياحة كان اكثر القطاعات تأثراً بالتطورات الامنية الاخيرة، حيث خسر 500 مليون دولار. مع العلم ان موجة الغاء الحجوزات في الفنادق بدأت قبل خمسة اشهر. وتشير بعض الاحصاءات الى أن خسارة الفنادق فقط لا تقل عن مئة مليون دولار. وقررت اسرائيل وقف حملة دعائية تهدف الى جذب السياح من اوروبا والولاياتالمتحدة خلال فصل الخريف. وقال وزير السياحة موشي كاتساف ان الحملة الدعائية التي تبلغ كلفتها ستة ملايين دولار تتعارض مع المواجهات التي شهدتها الاراضي الفلسطينية. وهكذا قتل نتانياهو كل الفرص التي كان يحلم بها الاسرائيليون لجعل بلادهم "نمراً اقتصادياً" مثل "النمور الآسيوية"، على أساس ان ظهور اسرائيل "كنمر" اقتصادي يرتبط بصورة قوية بعملية السلام في الشرق الاوسط وتغيير صورتها من بلاد معزولة ذات اقتصاد حرب، الى بلاد تعتمد على التكنولوجيا السلمية المتقدمة. لذلك تدفقت الشركات المتعددة الجنسيات من اميركا واوروبا واليابان على الدولة اليهودية للاستفادة من ردود الفعل العربية الايجابية، لكن التفجيرات الأمنية الأخيرة وعدم صدقية القيادة الاسرائيلية، طرحت تساؤلات جديدة حول مستقبل اسرائيل. لقد حقق الاقتصاد الاسرائيلي نسبة نمو بلغت 7 في المئة عام 1995 غير انه تباطأ منذ فوز الليكود في الانتخابات الاخيرة وجمود عملية السلام، لذلك يتوقع الخبراء ان يسجل عام 1996 نمواً لا يزيد عن 4 في المئة. ويشير المكتب المركزي للاحصاء الاسرائيلي الى ان العجز التجاري بلغ 6،5 مليار دولار خلال النصف الاول من العام الحالي، وبارتفاع 3،14 في المئة عن النصف الاول من عام 1995، وقد بلغ حجم الاستيراد 8،14 مليار دولار بزيادة نسبتها 7،8 في المئة، وحجم التصدير 2،9 مليار دولار بزيادة 6،5 في المئة. ولا يستبعد المراقبون ان يتضاعف التضخم خلال العام الحالي ليبلغ 15 في المئة، في مقابل نحو 8 في المئة في العام الماضي. وكان صندوق النقد الدولي نصح اسرائيل في تقرير رسمي بوضع التضخم تحت السيطرة، ودعاها الى اعتماد سياسة نقدية تتفق مع معدل التضخم الذي تستهدفه الحكومة بحيث يصل الى مستواه لدى شركاء اسرائيل التجاريين. ولوحظ ان اسرائيل حققت منذ تشرين الاول اكتوبر 1991 استقراراً يتسم بنمو اقتصادي جيد لا يرافقه نمو في معدلات التضخم. ويلاحظ الفارق الكبير بين نسب التضخم في اسرائيل وبلدان العالم، اذ يبلغ 4،2 في المئة في الدول الصناعية. مثال على ذلك 6،2 في المئة في الولاياتالمتحدة، 7،0 في المئة في اليابان، و 3.1 في المئة في المانيا، و9،10 في المئة في اليونان. وكانت اسرائيل غيرت في منتصف العام 1995 نظام صرف العملات الاجنبية الذي تتبعه لكي تسمح للشاقل بالتقلب ضمن هوامش اوسع. ووصف البنك المركزي الاسرائيلي هذا التغيير بأنه جزء من الجهود التحريرية، وقال حاكم البنك يعقوب فرنكل: "ننظر الى التعديل الذي أدخلناه على نظام صرف العملات الاجنبية كجزء لا يتجزأ من سياستنا الرامية الى تحرير الاسواق المالية ودمج السوق الاسرائيلية بالاسواق الرأسمالية الدولية...". وعلى رغم تفاؤل فرنكل بنجاح مهمته في الاصلاح الاقتصادي فإن ديفيد كلاين رئيس قسم صرف العملات الاجنبية والقسم المالي في البنك المركزي الاسرائيلي كان حذراً لجهة نجاح ترتيبات جعل الشاقل قابلاً للتحويل التام، نظراً الى ان الاسرائيليين يملكون من الموجودات المالية حوالى 150 مليار دولار، وقال كلاين: "لا نريد ان نصحو صباح يوم من الايام لنجد ان كل ما لدينا من عملات اجنبية طار الى خارج اسرائيل. نريد ان نسمح للشركات بأن تقوم بما تحتاج اليه من تحويلات مع الحد الادنى من تدخلنا، لكننا نريد ان نتأكد من وجود سقف على المقدار الاجمالي الذي يحق للشركات ولغيرها ان تخرجه من اسرائيل". لقد حاول رئيس الحكومة الاسرائيلية نتانياهو، غير مرة، طمأنة المستثمرين الاجانب وتأكيد أنه ملتزم مزيداً من التحرير الاقتصادي والمضي في عمليات التخصيص، لكن هؤلاء لم يطمئنوا الى تطور سياسة الحكومة الاسرائيلية معتبرين انه لا يمكن للاقتصاد الاسرائيلي ان يسجل اي نمو في ظل جمود عملية السلام، وان كل تأخير في تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة من شأنه ان يعرقل المسيرة الاقتصادية ويجعل الاقتصاد الاسرائيلي بحاجة اكثر فأكثر الى المساعدات الاميركية التي تؤمن حالياً 600 دولار سنوياً لكل اسرائيلي.