انتهت معركة الانتخابات البرلمانية في الكويت التي اختار أهلها، من الذكور فقط، خمسين ممثلاً لهم إلى مجلس الأمة. فيما اعتصمت نسوة يوم الاقتراع، الاثنين السابع من الجاري، مطالبن بحقوقهن والسماح لهن بالمشاركة في الاقتراع والترشيح. وهي حقوق كفلها لهن الدستور وحرمهن منها قانون الانتخاب. انتهت معركة كانت ملامحها بدأت إثر انتهاء انتخابات العام 1992 وتصاعدت وتيرتها وحرارتها في الأشهر الخمسة الأخيرة، مما قاد أحد السياسيين الكويتيين إلى القول إن الإعداد للاستحقاق النيابي العام 2000 سيبدأ قريباً، فور الانتهاء من تشكيل الحكومة الجديدة وانتخابات رئاسة المجلس وهيئة مكتبه واللجان النيابية، وريثما تصطف الوجوه البرلمانية الجديدة في قوى ومحاور وتكتلات واضحة. وأضاف: "انه جمال الديموقراطية، على رغم مثالبها وسلبيات تطبيقها أحياناً، تبدأ حيويتها مع إقفال باب الصناديق وترتفع حرارتها تدريجاً إلى حين فتحها مجدداً بعد أربع سنوات". وجديد مجلس الأمة الجديد متنوع وذو دلالات هذه المرة قياساً على المجالس السابقة، إلى حد يسمح باعتباره انقلاباً، كأن الكويتيين قالوا كلمتهم، ولم يتأثروا بالضجيج السياسي الذي رافق العلاقة بين المجلس السابق والحكومة، أو بحملات التعبئة والتراشق بالاتهامات التي رافقت المعركة الأخيرة. وحكّموا قاعدة الثواب والعقاب، استناداً إلى عملية حسابية لحصيلة نشاطات النواب السابقين المرشحين. انقلاب... ورسائل الانقلاب ليس في تغيير الوجوه بنسبة 50 في المئة، إذ فقد 16 نائباً مقاعدهم، فيما لم يترشح أصلاً تسعة نواب لأسباب شتى، أي أن 25 نائباً من أصل 50 غابوا عن المجلس الجديد. كل المجالس المنتخبة السابقة كانت عرفت نسبة من التغيير تراوح بين 40 و60 في المئة. لذلك يتجلى الانقلاب في جملة من الرسائل التي لا يحتاج المرشحون الفاشلون أو القوى والكتل والتيارات التي شعرت بأنها هزمت، إلى جهد كبير لقراءة معانيها ودلالاتها. بل كان على هؤلاء أن يقرأوا باكراً، منذ سنتين على الأقل، كيف كانت رياح التغيير تعتمل في نفوس الكويتيين الذين لم يتركوا مناسبة، لا في الديوانيات ولا في وسائل الإعلام المكتوب، إلا وعبروا فيها عن عدم رضاهم عن أداء شريحة واسعة من النواب. كان من الحكمة ألا يتعامى بعض المرشحين المهزومين عن حال الإحباط وخيبة الأمل التي سادت الشارع الكويتي حيال نشاطهم الاشتراعي طوال أربع سنوات، فينصرفوا إلى إيجاد مكامن الخلل وإصلاحه بدل اللجوء إلى الدفاع والإكتفاء بالتغني بمنجزات "مجلس 92". من هنا يرى بعض المراقبين ان الانقلاب لم يكن مفاجئاً، على رغم المفاجآت الكثيرة المتمثلة في غياب رموز وإضعاف كتل وقوى في المجلس الجديد. والعودة إلى الأجواء التي رافقت انتخابات 1992 وعمل المجلس الذي انبثق منها طوال أربع سنوات ومقارنة ذلك بالأجواء التي رافقت الانتخابات الأخيرة، تدل إلى العوامل والمؤثرات التي تحكمت بخيارات المقترعين، وعددهم نحو 107 آلاف موزعين على 25 دائرة انتخابية يمثل كل منها نائبان. أجواء 1992 جاءت انتخابات 1992 في ظروف لم يعرفها الكويتيون من قبل. جاءت بعد تحرير بلادهم من الغزو العراقي الذي خلف جروحاً عميقة وقلب معطيات ومفاهيم وزعزع أفكار قوى محلية وتوجهاتها وتحالفاتها، وغيّر في الاهتمامات وأولوياتها في الداخل والخارج. وجاءت بعد تعليق الحياة النيابية إثر حل المجلس السادس منتصف العام 1986 قام مجلس وطني في 19 حزيران / يونيو 1990، أي قبل الغزو بنحو شهرين وقاطعته المعارضة. لذلك ركزت المعارضة حملتها على الداخل وهمومه في ما يشبه الانكفاء على الذات، فأغدقت وعوداً بالتحقيق في قضية المسؤولية عن الغزو وتعزيز الحياة الديموقراطية وحقوق الإنسان والسعي إلى تطبيق الشريعة والحفاظ على المال العام... بعدما كان انشغالها يذهب بعيداً ليشمل كل القضايا العربية والاسلامية. وفازت المعارضة بكل تشكيلاتها الليبيراليون والاسلاميون والمستقلون ب 35 نائباً، وهو أكبر عدد تحققه منذ انطلاق الحياة النيابية وإقرار الدستور في العام 1962. وكانت الكفة الراجحة فيها للإسلاميين، أي الحركة الدستورية الاسلامية الاخوان وتجمع السلف والشيعة الاسلاميين. وكان طبيعياً أن تعقد السلطة والمعارضة صفقة تجنب البلاد العودة إلى تجارب ما قبل الغزو ومراحل الشد والجذب والاتهامات المتبادلة بين السلطتين التنفيذية والاشتراعية بأن كلاً منهما تريد إلغاء الأخرى والاستئثار بالحكم. وهكذا تشكلت حكومة ضمت في صفوفها، للمرة الأولى في تاريخ البلاد، ستة نواب خرج أحدهم لاحقاً في تعديل جرى ربيع 1994. غياب التوازن ولكن تبين في الممارسة السياسية والعمل الاشتراعي لاحقاً أن الصفقة لم تراعِ التوازن المطلوب، إذ بدت العضلة البرلمانية أقوى من التنفيذية وأصلب، ولأن تركيبة المجلس ليست حزبية أو ائتلافاً تسقط الحكومة بمجرد انفراط عقده، سرعان ما دب الخلاف بين صفوف المعارضة المتنوعة المشارب والاتجاهات والأولويات، خصوصاً بين الليبيراليين والاسلاميين الذين مارسوا ضغوطا في محاولة للسيطرة على المجلس والتحكم بالعمل الاشتراعي. فيما غاب التضامن بين الوزراء، وكثيراً ما اقترع وزراء نواب ضد سياسة الحكومة أعضاء الحكومة من غير النواب النتخبين يصبحون نواباً بحكم مناصبهم. ويرى مراقبون سياسيون انه "لولا غياب التضامن بين أطراف الكتل المعارضة في المجلس، وغياب التفاهم بين الحكومة والبرلمان، وعدم الانسجام أحياناً بين أعضاء الحكومة أنفسهم لما بدد مجلس 92 وقتاً طويلاً في مسائل جانبية، وتخبطت السياسة الداخلية والخارجية ودخلت متاهات كادت أن تهدد المصلحة العليا للبلاد، خصوصاً في مجال إعادة النظر في علاقات الكويت بكثير من الدول التي وقفت إلى جانب العراق، مما أصاب الشارع بحال من الاحباط". لكن بعض أقطاب "مجلس 92" يعددون الكثير من انجازات، ومنها انه اختار نوابه إلى الحكومة مرشحاً بعضهم ومعترضاً على آخرين. ونظر في عشرات المراسيم الأميرية التي صدرت أثناء تعطيل العمل الاشتراعي نحو أربع سنوات ونيف. وأصدر تقرير اللجنة الخاصة بتقصي الحقائق عن الغزو والمسؤولين عنه. وفتح ملف الاختلاسات وأقر قوانين لحماية المال العام وتعزيز عمل ديوان المحاسبة. وحقق في صفقات وعقود عسكرية ودخلت لجنة منه وزارة الدفاع للمرة الأولى... انجازات... ولكن ومع تقدير الناخبين لهذه الانجازات، إلا أن كثيرين منهم يلفتون إلى سلبيات جمة في أداء المجلس السابق الذي يحملونه قسطاً من المسؤولية عن غياب التفاهم بين السلطتين. ويشيرون إلى تراشق أطراف التحالف المعارض في البرلمان بتهم مالية وغير ذلك، والدخول في قضايا هامشية وجانبية. ولا يخلو الحديث من نقد لاذع لطريقة إدارة المجلس. ويستخلصون "أن كل هذه السلبيات حالت دون نهاية حاسمة لكثير من الملفات الشائكة المفتوحة منذ ثلاث أو أربع سنوات". ويشير بعض الناقمين على المجلس السابق إلى قوانين صدرت لكنها غير قابلة للتنفيذ، مثل قانون الاسكان، وإلى أولويات كان يجب متابعتها مثل الأوضاع المالية والعجز في الموازنة، وانخفاض مردود الاستثمارات الذي كان يوازي العائدات النفطية، وسبل دعم المواطنين. ولاحظوا تراجعاً في هيبة القانون، خصوصاً في مجال عدم محاسبة وزراء تلكأوا في تقديم المعلومات المالية عن وزاراتهم. ويعتقد هؤلاء أن أربع سنوات مرت من دون نتائج عملية، فلا إجراء قضائياً في قضايا الاختلاسات، علما انها كان يجب ان تكون في يد السلطة القضائية منذ البداية، حتى أن قانون محاكمة الوزراء الغي بخلاف دستوري. وأشاروا إلى غياب التنسيق بين رئيسي الحكومة والمجلس، وفقدان التنسيق بين مكتب المجلس والنواب، وهو ضروري لعدم وجود حزبين أو أحزاب. ولا يرحم هؤلاء الحكومة في انتقاداتهم، فيشيرون إلى أنها لم تكن قوية وفاعلة، على رغم ما يقال عن دورها في إبراز سلبيات مجلس الأمة. ويعتقدون بأنه كان عليها ألا ترضى بتمرير قوانين غير قابلة للتنفيذ، بل كان عليها أن تتخذ المواقف الحاسمة، لأن البلد كان المتضرر من هذه الأوضاع. احباط وخيبة هذه الأجواء جعلت الكويتي يشعر بأن المشكلة الداخلية ما زالت قائمة، كأن الاحتلال العراقي لم يتم أو كان مجرد أزمة عابرة: السلطة الاشتراعية تريد ممارسة صلاحياتها والتنفيذية تريد ممارسة سلطاتها، وكثير من النواب يتحرك بهاجس العودة إلى البرلمان ويعمل من أجل التجديد له. وشعر المواطن العادي، في ظل هذا التجاذب، بالاحباط والخيبة وزادت معاناته بسبب تدني الخدمات، وتعقد البيروقراطية، والمتاعب الاقتصادية التي كان نتاجاً لنفقات التحرير بعد نفقات الحرب العراقية - الإيرانية، والغلاء وتدني القيمة الشرائية للدينار في ظل فرض بعض الضرائب وجمود سلم الرواتب... فضلاً عن أن الهاجس الأمني لا يزال شبحه مخيماً في بلد صغير تحيط به قوى اقليمية عظمى لا يمكن إلا أن ترخي بتأثيراتها على أوضاعه الداخلية... وحتى الانتخابية! ولعل من مظاهر عدم رضا المواطنين على أداء "مجلس 92" ما واجهه أعضاؤه من انتقادات واتهامات بعد رفع الحصانة عنهم بانتهاء ولايتهم قبل يومين فقط من الاقتراع آخر جلسة كانت يوم السبت السابق للإثنين التالي، يوم الانتخابات. ومن الاتهامات أن المجلس سجل رقماً قياسياً في الانفاق على السفر والمهمات الخارجية. لذلك بدا كأن إطالة ولاية المجلس هدفها إبقاء النواب تحت الأضواء أطول فترة ممكنة وتجنيب بعضهم فتح ملفاتهم ومخالفاتهم... إلى حد أن النائب السابق علي البغلي الذي فشل في العودة الى "مجلس 96" قال في إحدى ندواته قبل الانتخابات إن الموازنة التي أقرها النواب عشية الانتخابات "تم اقرارها بطريقة اسفاف وكلفتة لا تزال تعاني من عجز...". وفي هذا الانتقاد إشارة إلى أن الموازنة كان يمكن إقرارها قبل شهرين من موعد الانتخابات، بدل أن تتحول مصالح المواطنين جزءاً من اللعبة السياسية. خلاصة القول، كما يعتقد مراقبون، إن "مجلس 92" شكل منعطفاً في الحياة البرلمانية، لكنه لم يرسخ تجربة سياسية واشتراعية يمكن أن تشكل نموذجاً للمجالس اللاحقة. من هنا كان خيار الكويتيين طبيعياً، فجاء حكماً صادقاً وصريحاً على المجلس ورموزه وقواه، فخذل من خذل وقدم وجوهاً جديدة سيبدأ محاسبتها ومراقبتها منذ اليوم الأول. وهذا هو التغيير الكبير الذي كان على بعض الخاسرين أن يتوقعوه. الخاسرون تغيرت صورة مجلس الأمة، وتراجعت كتل وقوى بسقوط رموز كثيرة. ففشل وزيران من أصل أربعة في الاحتفاظ بمقعديهما هما الدكتور أحمد الربعي الذي بدا في معاركه الأخيرة مع الاسلاميين، وهو على رأس وزارة التربية والتعليم العالي رأس حربة التيار الليبيرالي والمستقل في مواجهة التيار الذي توعده نوابه في المجلس بالاقتصاص منه لوقوفه ضد مشاريع قوانين كثيرة توافق توجهاتهم وما وعدوا به ناخبيهم. لذلك جهدوا لحشد قواهم في دائرته حيث ساهم في إضعافه أيضاً وجود ثلاثة مرشحين محسوبين على التيار الليبيرالي حصدوا من صندوقه عدداً من الأصوات، فضلاً عن تأثير الاصطفاف المذهبي بين السنة والشيعة الذي ترك اثاراً في أكثر من دائرة ودفع ثمنه مرشحون معتدلون. وربما ساهم في إضعافه أيضاً دخوله الوزارة التي تفرض عليه تقديم الخدمات اليومية، خصوصاً أن وزارة التربية أكثر الوزارات التصاقاً بهموم المواطنين، تلامذة ومدرسين، وهو يرفض النزول عند رغبات الكثيرين ضناً بالقوانين والمصلحة العامة. ومثله كان مصير وزير العدل مشاري العنجري القريب من رئيس المجلس السابق أحمد السعدون. وقد دفع ثمن هذا القرب، فضلاً عن وجوده في وزارة تمس أيضاً مصالح المواطنين على كل المستويات. مما قد يدفع النواب الجدد إلى إعادة النظر في جدوى هذه التجربة، أي دخول النواب الحكومة وما قد تتركه من آثار سلبية في المستقبل السياسي للنائب في أوساط قاعدته. وفشل أيضاً نائب رئيس المجلس صالح الفضالة، ومرشح آخر قدمه أحمد السعدون إلى جانبه في دائرته، مثلما فشل آخرون قريبون من رئيس مجلس الأمة. ويعتقد مراقبون أن وراء فشل المحسوبين على السعدون، اعتراض شريحة واسعة من الناخبين على أداء المجلس. فضلاً عن موقف القوى الاسلامية التي لم تنس للرئيس السابق للبرلمان وقوفه ضد حملتها لإسقاط وزير التربية الدكتور الربعي. ويأخذ خصوم السعدون عليه تزمته في مسائل كثيرة، خصوصاً حيال سياسة الانفتاح في السياسة الخارجية وسعي الحكومة إلى تطبيع العلاقات مع دول وقفت مع العراق أثناء الغزو. ويأخذون عليه تصعيده الخطاب السياسي أثناء الحملة الانتخابية، عندما تحدث عن مجلس مقبل يعمل على استجواب رئيس الوزراء. علماً أن الدستور يصون "ذات" ولي العهد صونه للذات الأميرية، كأن الرئيس السابق يذِّكر مداورة بالدعوة إلى فصل ولاية العهد عن رئاسة الحكومة، وهي دعوة تراجعت في الحملة الأخيرة بعدما كانت شعاراً في حملة 1992. ومن الرموز الخاسرة الدكتور اسماعيل الشطي، أحد أبرز القيادات الإسلامية الاخوان، وجاء سقوطه مفاجئاً في الدائرة نفسها التي ترشح فيها خصمه الرئيسي الدكتور الربعي. كأن الذين عملوا على إسقاط وزير التربية لم يفلحوا في إنجاح مرشحهم الذي سجل عليه بعضهم مهادنته الحكومة أحياناً. وخسر "الاخوان" قطباً آخر هو جمال الكندري. السيد القلاف وسقط رمزان اسلاميان شيعيان هما عبد المحسن جمال والدكتور ناصر صرخوه. وعزيت هزيمة الأول الدائرة الخمسة إلى الاستقطاب المذهبي الذي سيطر على الدائرة الرابعة حيث فاز السيد حسين القلاف. ورافقت حملة ترشيح القلاف الذي كان ترشح عام 1992 ولم يحالفه الحظ حركة اصطفاف مذهبية غير معهودة في دائرة يتقاسم فيها الشيعة والسنة عدد الأصوات، مع أرجحية ضئيلة للشيعة. ولجأ السنة في دائرته الدعية إلى انتخابات فرعية هي الأولى تجرى في مناطق الداخل من أجل حصر المنافسة في مرشحين سنيين القبائل في الدوائر الخارجية يعتمدون الانتخابات الفرعية. وخلف هذا الوضع بعض الشحن في النفوس، ودفع الشيعة إلى الالتفاف حول القلاف... فخسر الشيعي الليبيرالي علي البغلي الذي شغل لمدة منصب وزير النفط. لكن هذا الشحن وما نجم عنه لقي رفضاً من معتدلين كثيرين اعتبروا وصول "السيد" إشارة إلى تعددية المجتمع الكويتي الذي يعرف كيف يستقبل بعضه بعضاً، السني والشيعي، الاسلامي والليبيرالي والمستقل، تحت عباءة الديموقراطية والتسامح وقبول الآخر. علما أن أوساطاً أبدت تخوفها من انتماء القلاف إلى التيار الإيراني. في حين نفى القلاف ل "الوسط" أن يكون ولاؤه لغير الكويت، رافضاً ما قيل عن عضويته في "حزب الله"، معتبراً أن الهدف من إلصاق هذه الأوصاف به محاولة للقول إنه "إرهابي"، وهي تهمة تلصقها دوائر غربية وغير غربية بالحزب وطهران. لماذا تراجع الاسلاميون؟ وفي حين حافظ الشيعة عموما على نسبة المقاعد التي كانت لهم في السابق خمسة، فإن الحركة الدستورية الاخوان تراجعت، وحقق التيار السلفي تقدماً. ويعزو مراقبون تراجع "الاخوان" وسقوط رمزين من رموزهم، إلى إخفاق هذا التيار في تحقيق ما وعد به ناخبيه العام 1992 من أسلمة القوانين. فقد فشل منذ البداية في تعديل الدستور لتصبح الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع. وفشل في معركة اسقاط وزير التربية الدكتور الربعي. فضلاً عن أن شرائح واسعة من المجتمع رفضت توجهات هذا التيار، وخاضت صحف معركة مواجهة مفتوحة معه. ومعروف أن أمير البلاد شكل لجنة عليا العام 1993 لإكمال تطبيق الشريعة. وكان لتشكيلها أثر في تراجع المواجهة بين الطرفين التي كادت أن تؤدي إلى تقسيم المجتمع وتهديد وحدته. وحافظ المنبر الديموقراطي على مقعديه بفوز عبد الله النيباري وسامي المنيس الذي عوض خسارة مرشح المنبر في الدائرة التي ترشح فيها الدكتور أحمد الخطيب، أحد أبرز الوجوه البرلمانية، الذي قرر اعتزال العمل النيابي، مثله مثل جاسم الصقر. وكلاهما من رموز المجالس السابقة. التوازن بين السلطتين كانت خسائر الاسلاميين و"تكتل 85" لحساب نواب الخدمات والنواب المستقلين وبعضهم من أنصار الحكومة. مما يعني أن ولي العهد الشيخ سعد العبدالله المكلف تشكيل الوزارة الجديدة لن يواجه المصاعب والعقبات التي اعترضته يوم تشكيل وزارته المستقيلة على أثر انتخابات 1992، ذلك أن ضعف الكتل المعارضة وتخاصمها سيضعفان حتماً العضلة البرلمانية، ويحولان دون قيام معارضة فاعلة ومؤثرة. ويعني ذلك احتمال قيام توازن بين السلطتين يضعف أول ما يضعف فرص السعدون في العودة إلى رئاسة مجلس الأمة، خصوصاً أن منافسه الرئيسي جاسم الخرافي يغرف أصوات المؤيدين من الساحة نفسها، فضلاً عن علاقاته الطيبة مع كل التيارات، بما فيها التيار الاسلامي الذي حصل بينه وبين السعدون نفور بسبب وقوف الأخير مع الربعي في مواجهتهم. كذلك يدرك الاسلاميون معنى التغيير الكبير في "مجلس 96" وتوجهات المواطنين وميلهم إلى التجديد، ويعرفون كيف ينحنون أمام العاصفة... ولطالما مارسوا هذا "الانحناء" في مواجهات كثيرة سابقاً، ما جعل بعض الناخبين يصفهم بالضعف والتلون وعدم الثبات. السعدون والخرافي في أي حال كانت معركة رئاسة المجلس مفتوحة مع معركة الانتخابات، فكانت للسعدون امتدادات خارج دائرته دعماً لمرشحين مثلما كانت للخرافي، وهو وزير سابق للمال، امتدادات مماثلة. وتقول أوساط قريبة من الخرافي إن فرص فوزه بالرئاسة كبيرة، على رغم المكانة التي يتمتع بها الرئيس السابق، كونه رمزاً قديماً من رموز العمل الديموقراطي والبرلماني. وتضيف هذه الأوساط ان وزير المال السابق يؤمن بوجوب بقاء رئيس المجلس حَكَماً على الحياد في إطار لعبة التجاذب بين القوى والكتل وبين النواب والحكومة، من أجل قيام نوع من العمل النيابي الجماعي بدل الفردي، يؤسس لتفاهم لا بد منه بين السلطتين "يحل محل الصراخ السياسي فلا يظل هذا هو القاعدة". ويؤكدون أن الخرافي "ليس من هواة المعارضة من أجل المعارضة، كما أنه ليس في حاجة إلى إن يبصم من أجل أن يكون البديل الأفضل للحكومة". ويلفتون إلى التغيير النوعي في "مجلس 96"، باعتباره مؤشراً إلى تطلع الأكثرية الصامتة إلى حلول لمشاكلها الاقتصادية وإجراءات تطمئنها إلى مستقبل آمن بعيداً عن الهواجس الأمنية، أي أنها تريد من المجلس الجديد انجازات ملموسة في المسائل المعيشية والاقتصادية، مثلما في كل الحقول... لئلا تصاب باليأس فتقع الكارثة. وثمة من يلفت إلى دور الحكومة ونوابها في معركة رئاسة المجلس، فإذا كانت توجهات الخرافي تشجع على التفاهم معه ومساندته، فإن تجربتها مع رئاسة السعدون والمواجهات معه لم تكن لمصلحته على مستوى الشارع الذي خذل مؤيديه في الانتخابات الأخيرة، لذلك قد لا تجد ضرراً من تكرار التجربة خصوصاً إذا بدا لها أن الرئيس السابق قد يسبب لها مواجهات أقسى في حال انتقاله إلى تشكيل تكتل معارض... علماً أن مثل هذا الاحتمال يظل أمراً ضعيفاً نظراً إلى الخسارة التي مني بها "تكتل 85". في أي حال إن مهمة الرئيس المقبل لن تكون سهلة، إذ عليه أن يثبت الرقابة على المال العام ويعيد النظر في قوانين ثبت أن لا مجال لتنفيذها، مثلما عليه تحقيق توافق على سياسة خارجية تساعد الحكومة على التحرك في المجال الخارجي بما يتوافق والمصالح العليا بعيداً عن ضغط الشارع ومشاعره. تغيير حكومي وتشير التوقعات، في ضوء التغيير الكبير في وجوه المجلس الجديد، إلى أن الشيخ سعد لن يجد صعوبة في التعامل مع البرلمان كتلك التي واجهها مع سابقه، على رغم انه عرف كيف يجاري المجلس في لعبته السياسية حتى آخر لحظة من ولايته، فلم يتدخل مثلاً لتقصير هذه الولاية التي استمرت إلى ما قبل يومين من موعد الانتخابات، مما جعل النواب يحمل بعضهم على البعض الآخر على صفحات الصحف. ولن يكون في مقدور المجلس بتركيبته الجديدة أن يفرض على ولي العهد تحديد عدد النواب الوزراء وتعيين أسمائهم ينص الدستور على وجوب إشراك نائب على الأقل في الحكومة. لكن الوزارة ستشهد تغييراً في الوجوه. ويتردد ان وزارات السيادة سيعاد النظر في توزيعها على أعضاء الأسرة الحاكمة. كما أن الوزيرين الربعي والعنجري لن يعودا إلى حقيبتيهما بعد فشلهما في الانتخابات، إذ يقضي العرف ألا يُوزَّر نائبان لم يجدد الناخبون الثقة بهما. المثير في مسيرة تشكيل الحكومة ما يتردد عن رغبة النائب الأول لرئيس الوزراء وزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد في الاعتزال، علماً أنه عبر في مناسبتين وأكثر، في العامين الماضيين، عن مثل هذه الرغبة. وتقول أوساط مراقبة، في تحليل أسباب رغبته، إنه تحمل الكثير من جراء انعدام الثقة بين رئاستي الحكومة والمجلس الذي قاطع الشيخ سعد جلساته، مما جعل نائبه الأول في موقع الرد على سهام النواب دفاعاً ليس عن سياسة الحكومة فحسب بل دفاعاً عن بعض الوزراء الذين لم يكونوا على مستوى المسؤولية. فضلاً عن شعوره أحياناً بغياب التضامن والتنسيق في الشؤون الخارجية، أو ان سياسته لا تحظى بالدعم المطلوب. لكن سياسياً قريباً من الأسرة يعتقد بأن القرار النهائي للشيخ صباح رهن بموقف الأمير الشيخ جابر الأحمد الذي تظل رغبته فوق رغبات الجميع. ويتردد أن الشيخ سالم الصباح قد يخلفه في منصبه إذا كان عزوفه نهائياً ولم تحقق بعض "امنيات ومتطلبات" عبرت عنها افتتاحية مجلة "الزمن" التي يملكها أحد أعضاء الأسرة. فهي كتبت في عددها الأخير تحت عنوان "الحكومة التي تحتاجها الكويت": "...إن الحاجة اليوم ملحة أكثر من أي وقت مضى لتشكيل حكومة تكون بمستوى التحديات الكبرى التي تواجه البلاد، وبمستوى الطموحات المنشودة لتحقيق الإصلاح والنهضة بالبلاد وصولاً إلى التنمية الشاملة ... كما أن الأمر يتطلب حكومة تضم أشخاصاً قادرين على اتخاذ القرار ومتابعة تنفيذه دونما تردد، عندما يكون هذا القرار في مصلحة المجتمع والدولة، ولا يكون مبنياً على مصالح ذاتية آنية. ولعله لم يعد مقبولاً تحميل المسؤولية لمن أثبت عجزه وقصوره، وهذا لا يعني تغييراً في الوجوه فحسب بل تغييراً في الممارسة الحكومية وفي العقلية وفي أساليب التفكير وطرق التعامل مع التحديات، بعيداً عن ردود الأفعال الوقتية والمواقف الشخصية...". يبقى السؤال هل يحصل هذا التغيير على مستوى السلطة التنفيذية؟ إنها أيضاً مسؤولية الكويتيين الذين عليهم، كما قال أحد المسؤولين الحكوميين ل "الوسط"، الخروج من قوقعة الداخل بهمومه الصغيرة والالتفات إلى المنطقة والعالم. فالتهديدات كثيرة لبلد صغير حكمت عليه الجغرافيا بموقع بين دول اقليمية كبيرة لها نفوذها ومصالحها وطموحاتها، ويجب ألا يظل الكويتيون يتلهون بالتفاصيل المحلية الهامشية لئلا تفاجئهم التطورات... كما حصل يوم الغزو. وهذه شؤون تتطلب سياسات إجماع وإجراءات تجعل المواطن يطمئن إلى أمنه ومستقبله في عالم سريع الحركة والتغير.