شاه إيران، وليس غيره، أفصح يوماً أنه يدخل العاصمة طهران على متن سيارة مكشوفة للمرة الأولى. كان برفقته الملك الراحل الحسن الثاني في زيارة دولة لبلاد فارس في عام 1968. وحين استفسر منه حول تبرمه من إجراء بروتوكولي صرف لتحية مستقبليه، رد رضا بهلوي بأنه يخشى على نفسه من الاغتيال. هل كان يدرك أن المسافة التي تفصله عن الإحساس بالمشاعر المناهضة لنظامه الاستبدادي، تجعله يحتمي من الخوف بسيارة مصفحة؟ أم أن حالات التصفية الجسدية لمعارضيه عنوة ومن دون رأفة دفعته لأن يرى فوهات البنادق موجهة ضده في أي مكان؟ لم تتغير الصورة كثيراً، والذين يمتطون السيارات المكشوفة استبدلوها بالتخطيط في جنح الظلام لاغتيال آخرين من منطلق حسابات تروم زرع الفتن. إنهم أبعد عن استيعاب أن منطق العصر لم يعد يسمح بارتكاب حماقات من نوع «لوكربي»جديدة. وكما للمكان دلالاته، إذ يتم اختيار واشنطن لتجريب طبعة الغدر، فإن وضع اسم السفير السعودي هناك على قائمة المطلوب إزاحتهم من حق الحياة، لا يعني سوى أن العملية أريدت لخلط الأوراق، كي تتوزع الاتهامات بين قبائل متطرفة. الأميركيون أدركوا أن نقل الصراع، بهذه الطريقة المنافية للأعراف الديبلوماسية والقوانين الدولية إلى العاصمة واشنطن، لا يخلو من نيات مبيتة في إشعال الحرائق. وأقربها تحويل الأنظار عما يحدث في الشرق الأوسط، وتحقيق اختراق أمني يعيد عقارب الساعة إلى أجواء الهجمات الإرهابية في (أيلول)سبتمبر الأسود. ولأن إيران لم تفلح في أن تجد لنفسها مكاناً تحت شمس الوفاق الدولي الذي ينبذ الإرهاب ويشجع الاعتدال، وباتت تعاني من تضييق الخناق أكثر، في ضوء ما يلف تحالفاتها الإقليمية من انكسارات، فقد تكون لجأت إلى هذا الأسلوب، لإشعار الأميركيين تحديداً أن معادلاتها باقية ولم تتأثر. غير أن اختيارها رمزية السعودية استناداً إلى تأويلات وحسابات خاطئة أسقطها في بؤرة الخطيئة التي لا تغتفر. عندما أقر المغرب قطع علاقاته الديبلوماسية مع نظام الملالي في طهران، ارتفعت بعض الأصوات التي رأت أن بعد المسافة بين البلدين يحول دون انتقال بعض النفوذ الإيراني إلى أقصى الغرب الإسلامي. وقتها ردت الرباط أنها ترفض التدخل في شؤونها الداخلية. وأبدت المزيد من الاستغراب إزاء ردود الفعل الإيرانية حيال مواقف مغربية ساندت مملكة البحرين. المغامرة الإيرانية التي أحبطت في المهد، أبانت أن بعد المسافة بين طهرانوواشنطن لم يكن حاجزاً أمام محاولة ترويع الرياض من واشنطن، أو ترويع واشنطن من خلال استهداف السفارة السعودية لديها. فالأمر سيان، طالما أن الأهداف واحدة، لا تفرق بين أقرب نقطة إلى إيران في منطقة الخليج أو أبعدها في شمال إفريقيا، أو أقصاها في الولاياتالمتحدة الأميركية. هكذا معطيات تقلص المسافات تبرهن أن إيران تتدثر وراء نيات صريحة في محاولات زعزعة استقرار دول عربية عدة. فقد اتخذت من عدائها لبلدان عربية تتسم بالاعتدال والوسطية سياسة قائمة بذاتها. وفي مقابل ذلك، لم يحدث أن سجل ضد أي دول عربية أنها تخوض في الشأن الداخلي لإيران. بل إن أكثر الدول العربية التزاماً بالشرعية الدولية مارست سياسة الأيدي الممدودة نحو إيران، لمساعدتها على الخروج من نفق أوهام الحروب الدينية والمذهبية، ومطبات تصدير الثورة. إيران أو غيرها، لا يمكن أن تكون أكبر من حجم قامتها الإقليمية. وبالقدر نفسه لا يمكن أن تطمئن إلى أن سجلها في الشغب الذي ليس من سياسات الدول الوازنة، يمكن أن يبقى من دون عقاب. ليس في مصلحتها أن يكون الجوار العربي مكرهاً على التزام الحذر واليقظة في مواجهة مشاريع الهيمنة. فالعالم العربي له قضايا أكثر حيوية من الانشغال بتوترات كان في الإمكان تعويضها بالتفاهم وحسن الجوار واحترام إرادة الشعوب في اختيار توجهاتها العامة. وما تفعله لا يزيد عن محاولات تعميق الجراح. ربما تتناسى إيران أن السعودية كانت أول من دعا إلى التئام قمة إسلامية استضافتها الرباط، من أجل حشد جهود العالمين العربي والإسلامي لإقامة تكتل قوي لإسماع الأصوات الخالصة في الدفاع عن القضايا المصيرية للأمة. ومن المفارقات أنه في الوقت الذي شكل ذلك التحالف المرجعي قوة سياسية واقتصادية يحسب لها في أصقاع العالم، تأبى طهران إلا أن تضرب هذا التوجه الاستراتيجي في العمق. فأي مصلحة هذه التي تجعلها تغرد خارج سرب الوفاق العربي الإسلامي، إن لم يكن زرع الألغام على طريق، ما فتئت المبادرات السعودية تعبده بمزيد من الحكمة والصدقية ورباطة الجأش.