عمال التراحيل او العمال الموسميين مشكلة تؤرق وزارة القوى العاملة كما تشكل هاجسا لوزارات مصرية اخرى بعد ان سجلت احصاءات المجالس القومية المتخصصة ارتفاعا في عددهم خلال السنوات الخمس الاخيرة، اذ قفز العدد من 4 الى 5 ملايين عامل لا يجدون فرص عمل منتظمة وانما يعملون بقانون "الصدفة". وينحدر معظم هؤلاء العمال من اصول ريفية، ونسبة كبيرة منهم وافدة الى القاهرة ومحافظات وسط دلتا النيل من المحافظات الجنوبية، ويمثلون ظاهرة اجتماعية واقتصادية قديمة، نجحت حكومات ثورة 1952، لا سيما في عقد الستينات، في مواجهتها، غير انها عاودت الظهور منذ منتصف السبعينات واكتسبت ابعادا اجتماعية وسياسية خطيرة في النصف الثاني من الثمانينات. وينظر خبراء الاقتصاد الى ظاهرة عمال التراحيل باعتبارها انعكاسا للتحولات العشوائية في بنية الاقتصاد المصري كما يقول الخبير الاقتصادي الدكتور محمود عبدالفضيل، فيما يراها الدكتور محمد مندور الخبير الزراعي بأنها تجسد الخلل في السياسات التنموية الزراعية، اذ من دون استصلاح مزيد من الاراضي الصحراوية لا أمل في حل مشكلة العمال الموسميين. غياب التخطيط العلمي ويميل الدكتور عبدالفضيل الى ربط تنامي عدد العمال الموسميين وانتشار البطالة بينهم بالتغيرات السياسية والاقتصادية المترتبة على ازمة الغزو العراقي للكويت والتي ادت الى عودة ما لا يقل عن مليون عامل غير مهني ولا حرفي من دول الخليج والعراق مع عجز اسواق العمل الجديدة، ومنها ليبيا، عن استيعاب الاعداد الكبيرة من القوى العاملة غير المدربة، ما أدى الى تكدسهم في سوق العمل المزدحمة. اما الدكتور محمد مندور فيؤكد ان غياب التخطيط العلمي وعدم درس حاجات سوق العمل الزراعية ساهما في تعقيد المشكلة. ففي حين تعاني محافظة مثل الفيوم من فائض العمالة فان محافظة البحيرة تشكو من نقص العمالة ولا تتوافر جهة حكومية قادرة على اعادة تسكين العمالة وتوطينها في اسواق العمل المحلية، اضافة الى ان حلم العمل في الخارج ما زال يداعب خيال هؤلاء العمال، لذا هم يوجدون في العاصمة سعيا للحصول على فرصة عمل في الخارج عن طريق الاقارب. ويرصد الدكتور مندور "ان الشريحة العمرية لعمال التراحيل تقع بين 18 و48 عاما، وهي الشريحة المرشحة لاعطاء اقصى جهد في عمر الانسان. ولو كانت الدولة واصلت مشاريعها التنموية والصناعية لكان من المتاح استيعاب هذه الطاقات في مشاريع انتاجية. ويمكن القول ان ازمة هؤلاء العمال بدأت في العام 1968 عندما تم تخصيص القسط الاكبر من الموازنة لازالة آثار حرب 1967 والاستعداد لحرب جديدة، وأثَّر ذلك على برامج التوسع الزراعي الافقي كما عطل بناء مصانع ومشاريع خدمية جديدة كان عمال التراحيل يقومون بدور كبير في تنفيذها". ومن جانب آخر يرى خبراء الاجتماع ان عمال التراحيل يمثلون جيش "الهامشيين" اجتماعيا باعتبار انهم يقعون في سفح الهرم الاجتماعي، على حد قول علي فهمي الخبير في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، الذي يؤكد "ان نسبة الجريمة في هذه الفئة اعلى بكثير منها في فئات اجتماعية اخرى، وهم يمثلون قنبلة اجتماعية موقوتة، اذ لوحظ ان اعمال العنف التي رافقت احداث انتفاضة الخبز والكيروسين عام 1977 واحداث تمرد بعض وحدات الامن المركزي عام 1986 كان وراءها عمال التراحيل واطفال الشوارع الذين مارسوا اعمال سرقة ونهب المحلات التجارية الكبرى في القاهرة". ويؤكد علي فهمي "ان التطرف الديني مقترنا بالانخراط في منظمات ارهابية تسلل الى عمال التراحيل الذين يعملون فترات قليلة من العام ولا يحصلون على عائد مالي يغطي حاجاتهم المعيشية ما اصاب كثيرين منهم بنوع من الاحباط، وليس صدفة ان التطرف والارهاب ولدا في المناطق العشوائية وفي الاوساط الاجتماعية الفقيرة". خطة مبارك ويضيف فهمي "ان عددا كبيرا من المقبوض عليهم في قضايا الارهاب والتنظيمات المتطرفة أمي لم يحصل على فرص عمل منتظمة، ومعظمهم يعاني من البطالة مع انهم في سن العمل، من هنا فان خطة الرئيس مبارك للقضاء على الاحياء العشوائية وتنمية قرى الصعيد وادخال المشاريع الاستثمارية فيها تكتسب ضرورة وأهمية لمواجهة هذه المشكلة المزمنة". ومن جهته يعترف الدكتور سمير طوبار رئيس اللجنة الاقتصادية في الحزب الوطني الحاكم بمشكلة عمال التراحيل ويرى "انها جزء من مشكلة البطالة التي تمثل اهم التحديات المطروحة على العقل الرسمي في مصر، ولمواجهة البطالة تحتاج مصر الى استثمارات تقدر بحوالي 200 مليار دولار بهدف توفير ما يقرب من 5 ملايين فرصة عمل خلال السنوات الخمس المقبلة على اساس ان تكلفة فرصة العمل تراوح بين 40 و60 ألف جنيه في المتوسط". ويؤكد الدكتور طوبار ان "ليس من السهل على الحكومة توفير هذه الاستثمارات في ظل انخفاض معدل الادخار الى 11 في المئة ومعدل الاستثمار الى 20 في المئة من الدخل القومي علاوة على الاتجاه العالمي لتقليص المنح والقروض المقدمة الى الدول النامية". كيف يرى خبراء القطاع الخاص هذه المشكلة؟ سؤال وجهته "الوسط" الى محمد فريد خميس رئيس اتحاد الصناعات المصرية، فقال: "عمال التراحيل موجودون في كل بلاد العالم والفرق بين دولة واخرى هي في قدرتها على اتاحة الفرصة امام القطاع الخاص لتوظيف هذه الطاقات. فبناء مصنع او مستشفى يستلزم وجود هؤلاء العمال، والقطاع الخاص المصري لديه القدرة على مواجهة مشكلة البطالة عموما ورفع معدل نمو الدخل الوطني الى 2،7 في المئة، شرط عدم دخول الحكومة منافساً للقطاع الخاص في المشاريع الانتاجية وان يقتصر دور الحكومة على اعمال البنية الاساسية والخدمية مع تقديم تسهيلات ضرائبية بالنسبة الى المستثمرين في المناطق العشوائية وفي قرى صعيد مصر.