شهدت الشهور الماضية تصعيداً ملحوظاً للمواجهة بين السلطة في مصر وجماعة "الاخوان المسلمين"، المنحلة منذ عام 1954، اتخذت شكل حملات اعتقال متتالية لقيادات وأعضاء الجماعة، بتهمة احياء التنظيم المحظور للجماعة، كما أعلنت السلطات المصرية عن كشف معسكرات صيفية للتدريب على العمل المسلح تابعة للاخوان في بعض محافظات الجمهورية تهدف الى تشكيل مجموعات مدربة ومسلحة للعمل على مناهضة الحكم القائم. وليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها الكشف عن مثل هذه الأنشطة، فقد سبق الكشف عن مخططات واسعة للاخوان من خلال اختراق احدى الشركات التي تعمل في مجال الحاسب الآلي تدعى "سلسبيل"، والتي أمكن من خلالها الحصول على معلومات مهمة عن أنشطة احياء منظمة الجماعة، بهدف مناهضة النظام. ولا تزال هذه القضية منظورة أمام القضاء المصري حتى الآن. وبعيداً عن تفاصيل الأحداث اليومية، فإن المواجهة الجارية الآن والتي تنذر بوصول العلاقة بين السلطة والاخوان الى حد الأزمة أو نقطة اللاعودة، لها جذورها وأسبابها التي تتجاوز حدود اللحظة الراهنة، وبعبارة اخرى، فإن فهم أبعاد العلاقة الراهنة يسلتزم تتبع مسارها منذ بداية الثمانينات أي منذ ان تولى الرئيس مبارك الحكم في 1981، والمنحنيات المختلفة التي مرت بها من ناحية، وتبين الطبيعة الخاصة التي تحكم الحركة السياسية لجماعة "الاخوان المسلمين" على وجه التحديد من ناحية اخرى. فقد عاد الاخوان المسلمون الى ساحة العمل السياسي في بداية الثمانينات ضمن باقي القوى السياسية من مختلف الاتجاهات والتيارات، والتي أتيح لها قدر كبير من حرية التعبير والنشاط السياسي بعد الأزمة التي تعرضت لها هذه القوى في علاقتها بالنظام في أواخر عهد الرئيس السادات في ايلول سبتمبر 1981. ورغم ان النظام بقي على موقفه الرافض للاعتراف القانوني بالاخوان كجماعة سياسية مستقلة، اذ يحظر الدستور تشكيل أحزاب سياسية على أسس دينية، الا انه سمح لهم بقدر كبير من حرية العمل وممارسة النشاط والمشاركة في العملية السياسية، بما فيها الانتخابات. وقد تمثلت هذه السياسة عملياً في القانون الانتخابي في 1983 الذي أتاح لهم المشاركة في الحياة السياسية والتشريعية تحت مظلة الأحزاب السياسية الأخرى من خلال نظام القائمة الحزبية النسبية. وبناء على ذلك تحالف "الاخوان" مع حزب الوفد في 1984، وحزبي العمل والأحرار في 1987. وفي الحالتين خاضوا الانتخابات البرلمانية وقبلوا في مجلس الشعب بسبعة مقاعد في الحالة الأولى وبپ34 مقعداً في الثانية، ولم يقتصر الأمر على الساحة الحزبية والبرلمانية بل امتد الى مختلف مؤسسات المجتمع المدني وعلى رأسها النقابات المهنية التي سيطر "الاخوان" خلال عقد الثمانينات على أغلب مقاعد مجالس ادارات العديد منها، فضلاً عن توسيع مجال نشاطهم داخل أوساط الحركة الطلابية والجمعيات الأهلية. لقد كان ظهور الاخوان بقوة على مسرح العمل السياسي هو النتيجة المنطقية للسياسة. التي اتبعها معهم النظام طوال العقد الماضي، والتي عملت على ادماجهم من خلال الممارسة الديموقراطية في الحياة السياسية وربما عملت هذه السياسة على تحقيق هدفين رئيسيين: الأول هو التفرقة بين جناحي الحركة الاسلامية، أي "الاخوان" وجماعات العنف، واتاحة الفرصة للقوة الأولى للعمل من خلال القنوات السياسية والشرعية بهدف احتواء وتهميش الجماعات الأخرى التي شكلت تحدياً رئيسياً للاستقرار منذ قيامها باغتيال رئيس الدولة السابق في 1981، وكان الهدف دفع الاخوان من خلال العملية الديموقراطية لتعديل اهدافهم وأفكارهم بما يتلاءم مع المقومات الأساسية لمفهوم الديموقراطية المعاصرة، الا ان انقضاء عقد الثمانينات لم يفض الى تقليل مساحة العنف التي تنتهجها الجماعات الاسلامية، بل شهدت السنوات الأولى من التسعينات تصاعداً ملحوظاً لهذه الظاهرة - دون ان يكون للاخوان موقف واضح وصريح منها مما أظهر محدودية الرهان على الاخوان كقوى قادرة على احتواء ظاهرة العنف أو اتخاذ موقف رافض لها أو الاندماج الفعلي في العملية الديموقراطية. ولقد أوضح كثير من الممارسات تمسك الاخوان بالمنطلقات الايديولوجية الرئيسية التي حكمت حركتهم السياسية منذ قيام الجماعة والتي تتناقض جذرياً مع مفاهيم الديموقراطية والتعددية السياسية والفكرية. فأحد أوجه القصور التي عانت منها جماعة الاخوان هو استمرار تمسكها بطابعها السلفي والابقاء على فكرها التقليدي دون أي تطوير أو تحديث يتواءم مع التغيرات المعاصرة، بحيث بدا ان سمة الاعتدال التي اتسمت بها في مجال العمل السياسي لم تتجاوز حدود الوسائل المرحلية والأهداف القصيرة الأمد، التي تتيح لها فرصة أكبر لتحقيق أقصى مكاسب سياسية مع الابقاء على أهدافها النهائية في اقامة "دولة ثيوقراطية" وما تستلزمه من تغيير جوهري في طبيعة الدولة والمجتمع القائم. وانعكس ذلك في استمرار تمسكها بفكرة استعادة الخلافة الاسلامية كما صاغها حسن البنا مؤسس الجماعة ومرشدها العام الأول حين اعتبرها رمزاً لوحدة "الأمة الاسلامية" وركناً أساسياً من أركان الاسلام، وكانت هذه الفكرة وراء دعوته الى عالمية الحركة والى رفضه لمفهوم "الوطنية" و"القومية" بالمعنى الحديث، وهي الأفكار التي بنت جماعة الاخوان حركتها عليها. ويشير البنا في "الرسائل الثلاث" الى ان "الوطنية" تتحدد بالعقيدة وليس بالحدود الجغرافية، وان الاخوان لا يؤمنون بالقومية الا بصفة مرحلية ترتبط بمهمة محددة وهي العمل من اجل اقامة حكم اسلامي في كل قطر على حدة حتى تتحقق الوحدة الاسلامية. وظلت فكرة "العالمية" هي أحد المنطلقات الكبرى لفكر الاخوان المسلمين وأدت بهم الى انشاء تنظيم عالمي بدأت أسسه تتشكل في أواخر الثلاثينات حين قامت الجماعة بإنشاء فروع لها خارج مصر خاصة في المشرق العربي في سورية ولبنان وفلسطين، ثم تبلور التنظيم في الستينات من خلال ما عرف بالمكتب التنفيذي للاخوان في البلاد العربية. الا ان هذه التجربة تعرضت للفشل في 1969، ولكن تم احياء التنظيم مرة اخرى وتكوين مجلس الشورى العام الذي يضم ممثلين عن الاخوان في مختلف البلدان العربية والاسلامية فضلاً عن ممثلين عنهم في أوروبا وأميركا، وقد نصت هذه اللائحة على ان "الاخوان في كل مكان جماعة واحدة يجمعها النظام الأساسي، وأهدافها تحرير الوطن الاسلامي بكل اجزائه من كل سلطان غير اسلامي، وقيام الدولة الاسلامية"، وهو ما يبرر استمرار التنسيق والتعاون بين حركة الاخوان في مصر ومثيلاتها في العالمين العربي والاسلامي، فضلاً عن اهتمامها بخلق مراكز للعمل والنشاط على مستوى العالم العربي أيضاً. أفكار الجماعة عن الخلافة كشكل للحكم، ورفضها لمفهوم الوطنية والقومية تقودها الى موقفها الرافض للحكومات القائمة والمؤسسات السياسية الحديثة من هيئات وأحزاب والتي رأى فيها البنا تكريساً للتنافر والتناحر الذي لا يتفق مع "أهداف الاسلام ودعوته"، ولكن ذلك لم يمنعه من قبول التعامل معها مرحلياً اذا ما دعت الظروف العملية والسياسية لذلك. ويقول في رسالة المؤتمر الخاص "ان على الهيئات والأحزاب ان ينضموا الينا وان يسلكوا سبيلنا، وان يعملوا معنا، ويتوحدوا تحت لواء القرآن ويستظلوا بمنهاج الاسلام"، وهو ما يعكس رفضاً صريحاً للتعددية السياسية والحزبية. ولا شك ان الجماعة لا تزال - من حيث الجوهر - تتبع هذا المبدأ نفسه الذي صاغه حسن البنا في الأربعينات. ففي واحدة من أحدث وثائقهم والتي صدرت في 1995 تحت عنوان "موجز عن الشورى في الاسلام وتعدد الأحزاب في المجتمع المسلم" يردد الاخوان الأفكار نفسها، وتقول الوثيقة "إننا نؤمن بتعدد الأحزاب في المجتمع الاسلامي، وانه لا حاجة لأن تضع الدولة من جانبها قيوداً على تكوين ونشاط الأحزاب، ما دامت الشريعة الاسلامية هي الدستور الأساسي، وهي القانون الذي يطبقه قضاء مستقل، وفي ذلك ما يكفي لضمان سلامة المجتمع واتخاذ الاجراء الشرعي المناسب تجاه من يخرج على المبادئ الأساسية التي لا خلاف عليها بين علماء وفقهاء المسلمين". وبداهة فإن هذه الآراء تنطوي على تفريغ لمفهوم التعددية السياسية والحزبية من أي مضمون حقيقي، اذ لا تقرها الا في اطار مرجعية احادية ذات صبغة دينية، مما ينفي أي أساس للتعددية السياسية والفكرية. كما ان الحديث عن الشريعة الاسلامية يعكس موقفاً جامداً ينصرف الى رفض التشريعات المدنية الحديثة والدعوة لتطبيقها كمطلب في ذاته دون تقديم أية اجتهادات للمواءمة بين مبادئها وبين القوانين الحديثة التي تتماشى مع روح العصر. لذلك كان تركيز الاخوان المستمر على مسألة تطبيق "الحدود"، كما ظهر من خلال مشاريع القوانين التي طرحوها في مجلس الشعب من خلال الدورات السابقة التي كان لهم تمثيل في اثنائها، والواقع ان ذلك الموقف نفسه الذي سبق ان أيده البنا حين أشار في "الرسائل الثلاث" الى ان تطبيق "الحدود" هو المدخل الأساسي لسيادة الشريعة الاسلامية وتغيير المجتمع. وبالمنطق نفسه الذي ينطلق من مرجعية احادية صاغ الاخوان موقفهم من الحريات العامة والفردية وفي مقدمها حرية الفكر والرأي والتعبير. ووقف الاخوان طوال السنوات الماضية وراء العديد من القضايا التي امتلأت بها ساحات القضاء المصري ووجهت ضد العديد من المفكرين والأدباء والفنانين بسبب آرائهم وأفكارهم. وكما ظلت الجماعة على أفكارها الرئيسية، كما صاغها مؤسسها ومرشدها الأول، والتي حددت موقفها من طبيعة الدول والمجتمع والأفراد وبالتالي الأهداف النهائية للحركة، دون مراجعة أو تجديد، فليس هناك أيضاً ما يشير الى أي تغيير جوهري في موقفها من العمل المسلح أو العنف وموقعه في حركتها السياسية. فقد اعتبرت الجماعة العنف منذ البداية ركناً أساسياً وأصيلاً لحركتها تحت مسمى "الجهاد"، ولخص البنا هذا المعنى بكلماته قائلاً "ان الاسلام دين ودولة، روحانية وعمل، وصلاة وجهاد، وطاعة وحكم، ومصحف وسيف، لا ينفك من هذين عن الآخرين". وظل شعار الجماعة الذي يحمل كلمة "أعدوا" وخلفها صورة المصحف والسيف رمزاً مستمراً على محورية "الجهاد" أو العمل المسلح في حركتها. ولقد كان النظام الخاص أو الجناح العسكري لجماعة الاخوان الذي انشئ في أواخر الثلاثينات هو الترجمة العملية لهذا المبدأ والذي اعتبر احدى الوسائل الأساسية لتحقيق أهدافها السياسية وصولاً للحكم، الذي أشار البنا في رسالة المؤتمر الخاص الى انه "من منهاجهم وسيعملون لاستخلاصه من أيدي أي حكومة لا تنفذ أوامر الله". وقد تشكلت البدايات الأولى للنظام الخاص من فرق الرحلات والكشافة التي نظمها الاخوان في المعسكرات الصيفية لتدريب الأجيال الجديدة على العمل المسلح. وأصبحت هذه الفرق نواة لتشكيل "الخلايا" السرية التي يرأس كل منها "أمير" يدين له أعضاؤها بالطاعة بعد البيعة. وقد لعب العنف من خلال النظام الخاص والذي اتخذ اشكالاً عدة من اعتقالات سياسية وتفجيرات وتخريب واعتداء على مخالفيهم من التيارات السياسية الأخرى خاصة في أوساط الطلاب في الجامعة، دوراً محورياً في استراتيجية الجماعة خاصة منذ النصف الثاني من الأربعينات، وقد شكَّل النظام الخاص مركز قوة كبيراً داخل الجماعة خاصة بعد وفاة مرشدها الأول حسن البنا، وارتبط باسماء العديد من قيادات الجماعة التي نافست في كثير من الأحيان القيادة العليا متمثلة في المرشد العام، ورغم الأزمات التي تعرضت لها جماعة الاخوان في علاقتها بالسلطة بسبب الدور الذي لعبه النظام الخاص، والذي عرضها للحل في 1948، الا ان ذلك لم يحل دون اقدام الجماعة على اعادة تشكيله بعد قيام ثورة تموز يوليو 1952 تحت اسم الجهاز السري، حتى انتهى الأمر بحل الجماعة مرة اخرى في 1954. ثم كانت المواجهة الدامية الثانية بين نظام تموز والاخوان عام 1965 عقب اكتشاف محاولة احياء هذا الجهاز مرة اخرى. ولا شك ان تقليد "النظام الخاص" لم يكن بعيداً عن تكريس مبدأ العنف السياسي لدى الحركات الاسلامية المعاصرة بل واعطائه شكلاً تنظيمياً ومؤسسياً. وربما تطلبت الظروف السياسية في بعض مراحل علاقة الجماعة بالسلطة افساح المجال لنمو الدور السياسي للجماعة، مثلما جرى لدى عودتها الى الحياة السياسية منذ بداية السبعينات ثم في الثمانينات، الا ان ذلك لم يرتبط في أي من هذه العقود بمراجعة أو تحديد واضح لموقف الجماعة من العمل المسلح وموقفه في ايديولوجيتها السياسية، وهو ما يجعل موقفها منه مشوباً بالغموض، ولذلك تبقى جميع الاختيارات مفتوحة لتقييم الموقف الراهن للاخوان خاصة من هذه المسألة على وجه التحديد. وبالتالي فإن المواجهة القائمة حالياً بين السلطة والاخوان لا تتعلق فقط بمصير العلاقة بين الجانبين، وانما تطرح تساؤلاً لا يزال معلقاً حول امكان استيعاب هذه الحركات السياسية في اطار ديموقراطي اذا ما بقيت على أفكارها وممارستها التي تبتعد عن جوهر الديموقراطية الحديثة.