بين النشاطات الثقافية التي شهدتها جدّة أخيراً، هناك معرض لا يزال النقاش مستمراً حوله في أوساط الجمهور وأهل الفن. إنّه المعرض الفنّي اللافت الذي أقامه المركز السعودي للفنون التشكيلية، تحت اشراف الرئاسة العامة لرعاية الشباب. فتحت عنوان "الجنادرية والتراث"، استضافت قاعات "غاليري كرا"، أعمال اكثر من 120 فناناً من شتّى المجالات التشكيلية والفوتوغرافية والخزفية، اضافة إلى فنّ المجسمات. جديد هذه التظاهرة الفنيّة تمثل في تخصيص عدد من الجوائز المادية والتقديرية للمتميزين، منحتها لجنة تضمّ بعض اساتذة قسم التربية الفنية في جامعة أم القرى الدكتور أحمد عبدالرحمن الغامدي، الدكتور أحمد رملي فيرق، الدكتور محسن محمد خضراوي.... ومنحت اللجنة جوائزها في مجال الفن التشكيلي لثمانية فنانين هم: يحيى الشريف، محمد حيدر، محمد سيام، عبدالعزيز بوبي، صلاح باشراحيل، الشيخ ادريس، عبدالفتاح جميل، باسم فلمبان. وفي مجال التصوير الفوتوغرافي فاز هانز أوتو، نبيل ابراهيم جميل، فيما ذهبت جوائز الخزف إلى حسن جابر وابراهيم مكاوي. وحصد ثلاثة فنانين جوائز المجسمات وهم هاجر موسى الهوسة ونهلة تركستاني ووليد طيار. وتميز معرض "الجنادرية والتراث" بشكل عام، بمستوى فنّي رفيع، على رغم اقتصاره على التراث كمنطلق لأعمال الفنانين، ما جعلهم يدورون ضمن الاطار نفسه. ولعلّ هذا التحديد لم يسمح لمخيلاتهم بالانعتاق، مع أن موضوع التراث - أو كل ما له صلة بهذا المفهوم - يظل حياً ومتفاعلاً في حياة الناس. إلا أن كثيراً من المشاركين تقدموا بأعمال تم عرضها من قبل، أو قاموا بتنفيذها "خصيصاً" للظهور في كاتالوغ التظاهرة، وهذا ما ساهم إلى حدّ كبير، في طغيان عناصر مشتركة عدّة على مختلف الأعمال. إذ يقع المتفرّج على شيء من التشابه في المرموزات والاشارات التراثية، خصوصاً في اللوحات حيث لم يتغيّر إلا الاداء المتفاوت بين فنان وآخر، والتعامل اللوني الخاص، وال "بصمة" المختلفة. لكن عناصر كالخيل والبيوت القديمة والزخارف الشعبية، اضافة إلى كثرة الأهلّة والاقمار "الرومانسية"، كانت قاسماً مشتركاً للوحات عدّة، كما طغت البداوة و "مناظر" الصحراء غالباً، على الرؤى. ولا بد من الاشارة إلى ظهور البحر وعالمه وصياديه في بعض الاعمال التي لم تخل من اشارات، يبدو بعضها مقحماً وغير مبرر. فهناك بين الفنانين المشاركين من لا يمتلك قدرة على التجاوز او اختزال التجربة، أو وضع عمله على محك الاختبار لبناء النص الآخر الموازي لنصه الفني المعلن. واذا كانت تلك هي الحال على مستوى الفن التشكيلي، فإن الأمر اختلف بعض الشيء في أعمال الفنانين الفوتوغرافيين على رغم دورانهم في الفلك نفسه. ذلك أن الكاميرا استطاعت - بما تملك من تقنيات متطورة ومساعدة - أن تخرج عن الأطر التقريرية، مركّزةً على جماليات المكان وفرادته، سامحة لكلّ مبدع أن يمضي في انتخاب الظل والنور في جماليات التكوين الفني للِقّطة. فمن وقفة رجل أمام فخاريات، إلى آخر يصنعها، إلى لقطات جبلية من عسير، إلى محاولة "تركيب" لقطات اكثر فرادة واختلافاً في خروجها على المألوف، إلى احتفال قاطع بالافنية القديمة التي يعرش فيها تاريخ المكان وينسحب عليها التمايز... ولكن بعض الأعمال الفوتوغرافية لم يتخطَّ ظاهرها، كما في لقطاتٍ لجزئية من سباق الهجن الشهير، أو الدلالات "الموضوعية" التي يحملها العمل، إلى اهتمام بما وراء "المناظر" الطبيعية الجاهزة التي تصلح للكارت بوستال السياحي، أو كمحطة للذكريات. معمار القرن الماضي فن الخزف كان له وجوده الخاص من خلال أعمال جيدة عدّة، لكنها عادية وغير متجاوزة للمألوف البصري. ولا بدّ هنا من التوقف مليّاً عند الإداء العالي للفائزين حسن جابر وابراهيم مكاوي. أما المجسمات فحظيت باهتمام الحضور خصوصاً مفردات البيوت القديمة التي جاءت على شكل نماذج دقيقة نقلت للمتلقي مشهداً متكاملاً للفنون القديمة. كما احتفى الحضور بأحد النماذج المعمارية التي سادت خلال القرن الماضي في مدينة جدة، وتعكس مدى اعتماد البنائين القدامى على الخشب خصوصاً في اقامة الشرفات الفسيحة، والنوافذ الطولية والاهتمام بالمشربيات والمساقط الهوائية التي كانت تساعد على تلطيف الجو الحار، في وقت لم يكن فيه لأجهزة التكييف وجود. وقدّم بعض الفنانين نماذج لأبواب البيوت القديمة المصنوعة من جذوع الشجر والحديد والصلب. ويسعنا القول إن المعرض كان، بشكل عام، فرصة ثمينة لالتقاء فروع فنيّة عدّة، مختلفة ومتكاملة، ضمن فضاء واحد، وسينوغرافيا تسهّل تقاطع الرؤى والأساليب. وهو مكسب ايجابي جعلنا نتجاوز أحادية الموضوع المفروض على الأعمال المشاركة. فهذا الحاجز لم يتوصّل إلى تكبيل مخيّلة الفنّان كليّاً، بل كان فرصة سانحة - في المحصلة الأخيرة - لتقديم ابداعات مختلفة ومواهب يميل بعضها إلى التفرد وتجاوز المحلية.