في عام 1948 زار الشاعر السوداني محمد سعيد العباسي، وهو أحد قمم الابداع الادبي في السودان، مصر بعد غيبة دامت اكثر من أربعة عقود من الزمان، كان خلالها دائم التشوق الى مصر وأهلها. كان العباسي زار مصر لأول مرة في مطلع القرن، حينما التحق طالباً بالكلية الحربية، ثم زارها مرة أخرى في عام 1907. ولكن الظروف السياسية، ممثلة في انفجار ثورة 1919 في مصر، وثورة 1923 - 1924 في السودان، وما وضعه البريطانيون بعد ذلك من عراقيل في طريق أي سوداني يود زيارة مصر، حرما الشاعر العباسي من تحقيق أمنيته العزيزة: العودة الى مصر. وظلّ العباسي، مثله مثل عامة الطبقة المثقفة في السودان، يتطلع بشوق الى مصر، محطّ آمال الوطنيين المتطلعين الى التحرر من الاستعمار، وقِبْلَة طلاب العلم، وعشاق الثقافة، والرمز الحي للمناضلين. وانعكس هذا في قصائده، اذ يقول في احداها، نظمها في أواخر العشرينات: آه لو كان لي بساطٌ من الريح أوافيه أو قوادمُ نسرِ فأطيرنَّ نحو مصر اشتياقاً إنها للأديبِ أحسنُ مصرِ حيث روضةُ الهنا ومجتمعُ الأهواءِ ودرُّ السرورِ للمُسْتَدر هل الى مصر رَجْعةٌ وبِنا شرْخُ شبابٍ غضٍّ وزهرةُ عمرِ؟ ويرتبط التعلّق بمصر بالأمل في أن يلتحم السودان معها ليتقوى الشعبان على الاستعمار وويلاته. هذا التدفق الجيّاش من العاطفة، وهذا الحب الجارف الذي يؤكد أن روعة مصر لا تَخْفى الا على من عَمِيَ بصره، والسعي اليها أشبه بالحج الى طيبة أو ام القرى، يبر عن القطاع الأكبر من الرأي العام السوداني، الذي تلقى هذه القصيدة بحماس جارف. ولكن هذا الود الطامح لم يكن بغير غيوم تلبِّد سماءه؟ فالتشكيك في مصر، والتوجس منها، لم يكن فقط يأتي من جانب الانكليز. ذلك أن الحكام البريطانيين نجحوا في مطلع العشرينات في تكوين تيار سوداني قوي معادٍ لمصر، إلتفّ حول شعار "السودان للسودانيين" الذي كانت تنادي به صحيفة "حضارة السودان" التي كانت أول صحيفة سودانية سمح الانكليز بإنشائها، وكان يملكها الزعماء الدينيون الكبار الثلاثة: السيد علي الميرغني زعيم الطائفة الختمية، والسيد عبدالرحمن المهدي زعيم طائفة الانصار، والسيد الشريف يوسف الهندي، زعيم الطائفة الهندية، وهي طريقة صوفية أيضاً. كان الميرغني ينطلق في معاداته لمصر من ولائه للانكليز الذين أعادوه الى السودان من المنفى، وأعادوا توطيد نفوذه الذي قضت عليه الثورة المهدية. وكان عداء المهدي لمصر يقوم على منطلقات تاريخية وأيديولوجية أعمق، فالثورة المهدية لم تقم ضد الانكليز، وانما ضد الحكم التركي الذي كانت مصر مركزه. وقد حارب الأتراك الثورة المهدية بجنود مصريين، وكانت القاهرة هي عاصمة محمد علي. وحينما اجتاح الانكليز السودان وقضوا على الدولة المهدية، كان ذلك أيضاً باسم مصر وبجيش قوامه جنود مصريون. وعليه، لم يكن من الصعب استثارة العداء التاريخي الذي يكنه المهديون لمصر. تيار الوحدة عندما قامت ثورة 1924 السودانية ضد الحكم البريطاني، ورفعت شعار الاتحاد مع مصر، قاومها أنصار تيار "السودان للسودانيين" وتضامنوا مع البريطانيين ضدها، ووصفت "حضارة السودان" الثورة بأنها انتفاضة "رعاع". لكن تحولات السياسة السودانية في الثلاثينات أدت الى تصدّع الحلف الداخلي المعادي لمصر. ذلك ان نفوذ السيد عبدالرحمن المهدي تزايد، وقوي تحالفه مع البريطانيين، مما أدى الى اطلاق اشاعات عن ان البريطانيين يعتزمون تتويج عبدالرحمن المهدي ملكاً على السودان. أدى هذا الى اثارة حفيظة السيد علي الميرغني الذي قرر، نكايةً في الانكليز، التحالف مع الحركة الوطنية التي انبعثت مرة اخرى في الثلاثينات تحت مظلة "مؤتمر الخريجين" 1938، وأصبحت تنادي، مرة اخرى، بالوحدة مع مصر. أدى ذلك الى انقسام حاد في الحركة الوطنية السودانية، اذ كان هناك تيار الوحدة مع مصر، وتقوده مجموعة من الاحزاب، منها حزب الأشقاء، والحزب الاتحادي، ويرعاهما السيد علي الميرغني زعيم الطائفة الختمية. وكانت هناك حركة استقلالية متحالفة مع الانكليز، محورها حزب الأمة بزعامة المهدي، والحزب الجمهوري الاشتراكي، وهو حزب قبلي، وانضم اليهما في الخمسينات الحزب الشيوعي السوداني. ولكن مصر عند اكثر الوطنيين السودانيين لم تكن سوى فكرة ورمز. فأكثرهم لم يزر مصر، ولم يحتك بأهلها. وكانت مصر بالنسبة الى هؤلاء تعيش في مثالياتهم. فهي الحليف ضد الاستعمار، ونضال قادتها، وعلى الأخص حزب الوفد، ضد الانكليز، كان المنارة التي تهدي نضال الحركة القضية السودانية، وهي أيضاً بوابة السودان الى التمسك بهويته العربية الاسلامية التي كان الانكليز جادين في طمسها وقطع الصلة بها. وهي واحة الثقافة والأدب والعلم. وهي موئل الحية وأملها في مقابل عسف الانكليز وطغيانهم. وقد كانت قيمة مصر كرمز تقوى كلما بعدت الصلة بها، وقامت الحواجز. الا ان بعض النذر عن عدم مطابقة هذه الصورة المثالية للواقع كانت تظهر بين الحين والآخر. وكان أول هذه النذر ما وقع في ثورة 1924، اذ كان الثوار السودانيون يتوقعون عوناً مصرياً لكنه لم يأتِ. حدث ذلك في تشرين الثاني نوفمبر 1924، والسودان يغلي بالثورة، والبلاد من أقصاها الى اقصاها تشتعل بالمظاهرات والاضرابات التي كانت تقودها "جمعية اللواء الأبيض" المنادية بجلاء الانكليز عن السودان، والوحدة مع مصر. وفي تلك الأثناء تعرض الحاكم العام البريطاني للسودان آنذاك سير لي ستاك SIR LEE STACK للاغتيال إبان زيارة للقاهرة، فانتهزت بريطانيا الفرصة لتصفية النزاع مع مصر حول السودان، فأصدرت انذاراً للحكومة المصرية باجلاء كل قواتها عن السودان وسحب كبار موظفيها. وكان أن استقالت حكومة سعد زغلول حتى لا تنفذ تلك المطالب المُهينة. وقد حسب ثوار السودان ان ساعتهم حانت، فتمرّدت بعض وحدات الجيش السوداني وتحركت للانضمام الى الوحدات المصرية، أملاً في أن يشترك الجيشان في هبّة تنهي الحكم البريطاني الى الأبد. لكن القوات البريطانية تصدّت للوحدات السودانية وقضت عليها عن بكرة أبيها، قصفاً بالأسلحة الثقيلة. ولم تتحرك الوحدات المصرية لنجدة السودانيين، بل نفّذت امر الاجلاء بهدوء بعد تلقي الأوامر بذلك من الملك فؤاد شخصياً. كان ذلك درساً قاسياً في "الواقعية" لمثاليي الحركة الوطنية السودانية. فالحكومة المصرية لم تكن تمتلك الارادة، ولا تعتقد ان لديها القدرة للدخول في مواجهة شاملة مع بريطانيا كتلك التي كان يتطلع اليها الثوار السودانيون. وكانت هذه صدمة كبيرة للوطنيين الشباب، الذين طالما انتقدوا تلك "الواقعية" لدى كبار الزعماء الدينيين من أنصار تيار "السودان للسودانيين"، ووصفوهم بالانهزامية والعجز. وكانت ردة فعل بعضهم عنيفة، اذ تخلوا عن السياسة كلياً، بينما انضم آخرون الى التيار "الواقعي" المحافظ. وكان أبرز مثال لذلك، الضابط عبدالله خليل، احد قادة التيار الثوري في عام 1923 - 1924، والذي انصرف بعد الثورة الى خدمة الحكومة، حتى وصل الى رتبة لواء أميرالاي في الجيش. وفي الأربعينات انضم خليل الى حزب الأمة، ثم أصبح رئيساً للوزراء في عام 1956. رافق هذا التحول كراهية عميقة في نفسه لمصر والمصريين، طبعت كل تصرفاته في ما بعد. ويروي احد قادة الحركة الطلابية في الخمسينات ان وفداً من اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، زار رئيس الوزراء خليل عقب العدوان الثلاثي على مصر في تشرين الأول اكتوبر 1956 ليطالبه باعلان التضامن مع مصر ضد السودان. وكان من ضمن المطالب التي رفعها الاتحاد قطع العلاقات مع بريطانيا، واغلاق المجال الجوي في وجه الطيران البريطاني، ومنع الطائرات البريطانية من استخدام المطارات السودانية. يقول الراوي: "نظر الينا الرجل ملياً ثم اجاب في نبرة حاسمة: أما عن قطع العلاقات مع بريطانيا، فقطع الله عنقي هذا ان قطعتها. وأما عن منع الطائرات البريطانية من الهبوط هنا، فلنفرض انها أرادت ان تهبط، فهل تريدونني أن أقول لهم ان اتحاد طلاب الجامعة يعارض هبوطكم وسيتخذ ضدكم اجراءات حاسمة؟!". وختم رئيس الوزراء حديثه ينصح الطلاب بالانصراف الى دروسهم. ومن المؤكد ان أحداً لا يستطيع المزايدة على "واقعية" من هذا القبيل. خيبات سودانية هناك آخرون تعرضوا لخيبة الأمل أيضاً، ولكن بصورة أخف، وبنتائج أقل درامية. بعض الطلاب الذين تحدوا السياسة البريطانية ضد السفر للدراسة في مصر منذ عام 1923 وما بعده، صدموا بما واجهوه في مصر من إهمال رسمي وشعبي، وما واجهوه من المجتمع المصري من عنصرية وتعالٍ عرقي وثقافي لم يكن له مكان في صورتهم المثالية عن مصر وأهلها. وقد اضطر بعض هؤلاء الى العودة الى السودان، وانضموا بسرعة الى التيار الاستقلالي، والى أهل "الواقعية". لكن تيار الهجرة الى مصر استمر، وظل المثاليون يغالبون الواقع. ويروي احد هؤلاء في مذكراته: "أكثر ما كان يصدمنا في ايامنا الأولى، ونحن نتعرف على مجتمع القاهرة، نظرة المصريين للسودان، وما كانوا يحملونه في أذهانهم من صور شوهاء، يرفضها شعورنا، وتأباها كرامتنا. وكم كنا نثور ونضطرب... ونحمل على المصريين حملة شعواء، ونحمّلهم المسؤولية. ولكننا عندما تقدمنا في معرفة الأحوال ومذلة المشاكل، تبين لنا أنه من الضروري ان نشرع في اتخاذ وسائل عملية لازالة ما نشكو منه. فالمصريون قد ترسبت في اذهانهم افكار قديمة عن السودان، فالسودان من قرون يصدِّر لهم العبيد، كما تصدر لهم بيئاته الفقيرة المُجْدبة من يقوم بخدمتهم في البيوت..." مذكرات عبداللطيف الخليفة، الخرطوم، 1988 - ص43. هكذا نشأ نوع جديد من "الواقعية - المثالية" التي تعترف بالحواجز وتسعى الى تجاوزها، بعدما كان السودانيون لا يرون في مصر الا الصورة المثالية. وصلت العلاقات بين الشعبين الى منعطف أخير بعد معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا، التي أعادت الى مصر شيئاً من نفوذها على السودان. صدمت هذه المعاهدة السودانيين لأنها لم تذكر لهم أي دور، ما أعاد بعث الحركة الوطنية التي وإن كانت تتطلع الى مصر، الا انها أدركت ان مصر لا يمكن الاعتماد عليها كلياً لتعبر عن صوت السودانيين. المنعطف الثاني كان ثورة 1952 في مصر، وبروز اللواء محمد نجيب زعيماً لها. وكان نجيب يتمتع بشعبية واسعة في السودان، ويعتبر "نصف سوداني". وأعطت الثورة دفعة قوية لتيار الوحدة، بعد ان كان هذا التيار تراجع بسبب استغلال اعداء الوحدة اتفاقية 1936 وإهمالها للسودانيين، ولقرار النحاس باشا عام 1951 الغاء الاتفاقية من جانب واحد، واعلان فاروق ملكاً على السودان، مرة اخرى من دون استشارة السودانيين، أو تحديد دور لهم في دولة الوحدة. كانت الثورة بشعاراتها في التغيير متجاوبة تماماً ومتناغمة مع مثاليات الوحدويين السودانيين. وكان نجيب وبقية قادة الثورة على قدر كبير من التفهم لمطامح الحركة الوطنية السودانية، وعلى قدر كبير من المهارة في التعامل مع الواقع، بل بلغ بهم الحذق انهم تمكنوا من طمأنة حزب الأمة والاستقلاليين الى نيّات مصر، ولم يترددوا في توقيع اتفاقٍ مع كل الاحزاب السودانية العام 1953، منح السودان حق تقرير المصير. وفي الانتخابات التي أعقبت اتفاق الحكم الذاتي عام 1953، حصل الحزب الوطني الاتحادي على الغالبية المطلقة في البرلمان، وظهر ان الاستفتاء المزمع حول تقرير المصير سيؤيد الوحدة مع مصر. فاعترض الاستقلاليون على النتيجة، محتجين بأن مصر تدخلت لدعم الاتحاديين اعلامياً وسياسياً ومادياً. وكان هذا صحيحاً، ولكن بريطانيا قدمت دعماً مماثلاً للاستقلاليين، وكانت الدلائل كلها تشير الى ان مكاسب انصار الوحدة مع مصر كانت حقيقية. غير ان التطورات الداخلية في السودان ومصر، والتطورات الدولية، رجحت كفة الاستقلاليين. فمن جهة كانت دعاوى الوحدة وأحلامها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنضال ضد الاستعمار البريطاني، وبدور مصر مؤيداً لهذا النضال. ولكن اتجاه بريطانيا لمنح السودان استقلاله قلل من شأن هذا الدور. اضافة الى ذلك فإن قيام ادارة الحكم الذاتي بقيادة وزارة اسماعيل الازهري رئيس الحزب الاتحادي، واضطلاع السودانيين بادارة شؤونهم، وتولي مظاهر السيادة في البلاد، جعل خيار التخلي عن هذه السلطات للقاهرة أمراً غير ذي جاذبية. مثلاً: شارك الزعيم اسماعيل الازهري في مؤتمر باندونغ لدول عدم الانحياز العام 1955. وعومل هناك على قدم المساواة مع الرئيس جمال عبدالناصر. ولم يكن من المتوقع ان يتنازل بسهولة عن هذا الدور. لكن العامل الأهم في تقوية الاتجاه الاستقلالي لم يكن ينحصر في تلك الاعتبارات، بل الاحتكاك المباشر مع مصر وقياداتها، والاطلاع مباشرة على عدم معرفة تلك القيادات بالسودان وأوضاعه. وظهر هذا جلياً بعد الاطاحة باللواء نجيب، وما أعقب ذلك ورافقه من ضربات وجهت الى الاخوان المسلمين، وحظر الاحزاب المصرية. استثمر الاستقلاليون هذه التطورات الى أقصى حد، واستثاروا الرأي العام ضد اقالة نجيب، وشاركت قيادات حزب الأمة في مظاهرات مؤيدة للاخوان المسلمين، وأخذت صحف الاستقلاليين تحذّر من "الديكتاتورية المصرية"، و"القمع السائد هناك ضد الاحزاب". وبالطبع أصبح من الصعب حتى على الاتحاديين القبول بوحدة مع مصر في ظل الاوضاع السائدة آنذاك. هكذا اجمع السودانيون على الاستقلال. لكن التداخل مع مصر استمر. وبعد ستة اشهر من الاستقلال سقطت حكومة الازهري في وجه تحالف "السيدين" عبدالرحمن المهدي وعلي الميرغني، وتولى رئاسة الوزارة عبدالله خليل، المعروف بعدائه لمصر، وولائه لبريطانيا. وفي تلك الظروف اشتعلت قضية حلايب للمرة الاولى. اذ اعترضت حكومة خليل على دخول موظفي الاستفتاء المصريين الى المثلث للبدء في اجراءات الاستفتاء على رئاسة الجمهورية العربية المتحدة الاتحاد بين مصر وسورية في عام 1958. وهدد خليل باعلان الحرب على مصر، ورفعت حكومته شكوى لمجلس الامن. وكان طبيعياً ان تقف بريطانيا وفرنسا وبقية الدول الغربية الى جانب السودان، بسبب العداء لعبدالناصر. وبما ان الانتخابات السودانية كانت ايضاًً وشيكة، فقد استمع عبدالناصر الى نصيحة حلفائه من الاتحاديين السودانيين، وتراجع عن المواجهة مع السودان. وهكذا تركت حلايب تحت الادارة السودانية. اتفاقية مياه النيل وكانت الخلافات مع مصر سبباً مباشراً في سقوط حكومة خليل، وتولي الجيش السلطة. اذ ارتاب خليل في اجتماعات عقدت في القاهرة، بين الحزب الوطني الاتحادي المعارض، وشريكه في الائتلاف الحاكم حزب الشعب الديموقراطي الموالي لطائفة الختمية تحت رعاية الحكومة المصرية، وخشي ان يكون الحزبان تآمرا لاسقاط حكومته، فاتفق مع قائد الجيش الفريق ابراهيم عبود لتولي السلطة في 17 تشرين الثاني نوفمبر 1958. وكان ابرز اولويات الحكم العسكري التي حددها بيانه الاول "ازالة الجفوة المفتعلة مع مصر". ونجح الحكم العسكري في تسوية الخلافات مع مصر، ووقّع العام 1959 "اتفاقية مياه النيل" التي سمحت لمصر بسحب 55 مليون متر مكعب من المياه في مقابل 18 مليوناً فقط للسودان. وحدث تقارب ملحوظ بين البلدين توج بزيارة الرئيس عبدالناصر للسودان العام 1961. لكن التقارب مع مصر كان عاملاً مهماً في سقوط ذلك النظام العسكري في تشرين الاول 1964، ذلك ان الحكومة السودانية كانت وافقت على مشروع انشاء السد العالي الذي ادى الى ان تغمر مياه بحيرة ناصر مساحات واسعة من الاراضي الزراعية والقرى والمدن في شمال السودان، ما ادى الى تهجير مجموعات سكانية كاملة من تلك المناطق الى جهات بعيدة في وسط السودان وشرقه. وادى ذلك الى ثورة اهالي منطقة وادي حلفا من النوبة، وتسييرهم مظاهرات واحتجاجات كانت من اعنف ما واجهته السلطة. وصارت هذه الانتفاضة فيما بعد نواة للثورة الشعبية التي اطاحت الحكم العسكري العام نفسه. وادى برود مصر الرسمية تجاه ثورة 1964 خصوصاً التحليلات التي نشرتها "الاهرام" حينها حول التغيير الى ازمة موقتة في العلاقات بين البلدين. لكن العلاقات عادت سريعاً الى شيء من طبيعتها، ثم شهدت تطوراً سريعاً نحو الافضل بعد حرب 1967 ومؤتمر القمة العربي الذي عُقد في الخرطوم والدور الذي لعبه السودان في التقريب بين مصر والسعودية. كرّس مجيء الرئيس السابق جعفر نميري الى السلطة في عام 1969 التقارب الرسمي بين البلدين ووصل الى قمته بإبرام اتفاقية الدفاع المشترك عام 1976، واتفاقات التكامل بين البلدين، لكن هذا التقارب الرسمي قابلته جفوة شعبية. وشن رئيس الوزراء السوداني السابق محمد احمد محجوب هجوماً عنيفاً على الرئيس عبدالناصر في مذكراته، واتهمه بأنه طعنه في الظهر، وساعد في اسقاط الديموقراطية في السودان. الانصار وقوى المعارضة غضبت ايضاً من دور مصر المزعوم في قصف الجزيرة أبا - معقل الانصار - في عام 1970. المعارضة ايضاً تحالفت مع ليبيا واثيوبيا في وقت كانت علاقات هذه الدول مع مصر سيئة. بعد سقوط نميري تجدّد التوتر بين البلدين بسبب مطالبة الحكومة السودانية بتسليمه، وقيام مظاهرات في السودان هاجمت مصر، واساءت الى رموزها. كان هناك ايضاً توتر بسبب توجس مصر من علاقات رئيس الحكومة السابق الصادق المهدي الحميمة مع كل من ليبيا وايران. لكل هذه الاسباب رحّبت مصر بانقلاب حزيران 1989، واذ اطمأنت الى النظام الجديد لأنه اتجه نحوها طلباً للمساعدة. وبدا لأول وهلة ان مصلحة النظامين والبلدين تطابقتا كما كان الامر على عهد نميري، وان التعاون اصبح ممكناً على كل الاصعدة. لكن التوتر سرعان ما بدأ يشوب علاقات البلدين. كان يغذي هذا التوتر توجس مصر من دور للاسلاميين في الحكم في السودان، ثم جاء الخلاف حول حرب الخليج، ثم الخلاف الحدودي، ثم الاتهامات المتبادلة حول الارهاب. ولكن يبقى السؤال: هل هذه الخلافات هي اساس المشكلة، ام انها من اعراضها؟ قبل اكثر من عامين ناقشت هذا الموضوع مع ديبلوماسي اميركي مختص بملف السودان في الادارة الاميركية. كان تحليله انه ليس الخلاف: مياه النيل. واوضح ان المصريين يعتقدون ان النيل ملك لهم، ويرون وجودكم هنا بمثابة اغتصاب. وعليه فأنا لا ارى اي احتمال لوجود علاقات حميمة بين البلدين، مهما تغيرت الانظمة". واضاف محدثي: "لو كنت مكان المصريين لكنت اسعد الناس بوضع السودان اليوم. السودان اليوم ضعيف تمزقه الحرب الاهلية، ويعاني ازمات اقتصادية خانقة، وعدم استقرار سياسي، ومشاكل مع جيرانه والقوى الكبرى. ولو كنت مكان الحكومة المصرية لما حركت ساكناً وتركت السودان لمشاكله". واضاف "ان مشكلة حسن الترابي انه ولد في بلد مثل السودان في ضعف موارده، وطوفان المشاكل الذي يواجهه. وهذا يحتم ان يكون تأثيره على الاحداث في المنطقة محدوداً. اما لو وجدت شخصية بالمؤهلات نفسها في مصر او اي دولة اخرى افضل حالاً فكان بالقطع سيؤثر في المنطقة". كان هذا الحديث جزءاً من نقاش طويل ليس هذا مكان تفصيله، ولكن يكفي ان اشير هنا الى انني رفضت تحليل الرجل للمشكلة. فقد كانت لديّ أدلة قاطعة على مشكلة المياه لم تكن محور الخلاف، بل بالعكس ان الحكومة الحالية عرضت على مصر استيعاب اكثر من خمسة ملايين مصري في مناطق زراعية في السودان، مما كان يعني ان هؤلاء كانوا سيستفيدون من حصة السودان في مياه النيل. الرفض جاء من جانب مصر وقتها، والحجة، على ذمة المسؤولين السودانيين، ان الولاياتالمتحدة، المصدر الاساسي لواردات مصر من الحبوب، لم تكن تقبل ان تتحول مصر الى مصدر بديل للقمح. قضية الحدود ايضاً لم تكن مشكلة، فقد عرض السودان على مصر عروضاً عدة منها اقتسام موارد المنطقة، ومنها التحكيم الدولي. وكانت كل الادلة تشير الى ان الحكومة السودانية ما كانت لتتمسك بحلايب لو وجدت مخرجاً مشرفاً من الازمة، ليس لأنها لا تعتقد ان حلايب سودانية، بل لانها على يقين من ان الخلافات الحدودية بين دول عربية يجب الا تكون لها اولوية. ولعل الحكومة السودانية ما كانت لتعترض، بل ستشعر بالارتياح لو ان التحكيم الدولي كان لصالح مصر في قضية حلايب. ولكن الوضع الحالي، المتمثل في رفض التفاوض مع استخدام القوة لتشديد القبضة المصرية على حلايب يترك الحكومة السودانية بلا خيار سوى المقاومة. في موضوع الارهاب كانت هناك ايضاً حلول معقولة مطروحة على المائدة، مثل تشكيل لجان امنية مشتركة، ودوريات حدود مشتركة، وذلك للتحقيق في الاتهامات، وضبط تهريب الاسلحة، وغيرها، عبر الحدود. فلو كان الارهاب هو المشكلة لكانت هذه فرصة ذهبية للطرفين لحسم الخلاف حوله. مصر الثورية اذن ينبغي البحث عن جواهر الازمة خارج هذه الاعراض. ولعل السبب الرئيسي للخلاف يكمن في انعكاس الادوار بالنسبة الى مصر والسودان. فطوال الفترة التي سبقت حزيران 1989 كان السودان يقع تحت قبضة ادارات يمكن تصنيفها في خانة "الواقعية" والمحافظة. هذه الادارات كانت محدودة الاهداف، تريد فقط البقاء في السلطة، وتحرص في غالب الوقت، على علاقات حميمة، ان لم نقل تابعة، مع الدول الغربية، كما تحرص على التقارب مع مصر. من الجهة الاخرى فان مصر ظلت لفترة طويلة تحت قبضة حكم ثوري، برنامجه يتعدى حدود مصر الى المنطقة والعالم. الفترة الوحيدة التي قام فيها نظام يساري ثوري في السودان 1969 - 1971 تمتع فيها ذلك النظام بانسجام وتناغم كامل مع الوضع في مصر، بل في المنطقة كلها، اذ تزامن ذلك مع ثورات ليبيا وسورية، وكاد ينتهي بوحدة رباعية بين هذه البلدان. وناتج ذلك انه لو كانت هناك اي تأثيرات ثورية، فانها كانت تأتي من مصر، وكان السودان يحتمي من هذه التيارات عبر علاقاته مع الغرب، او يسايرها ما امكن. الآن تغير الوضع تماماً. اذ اصبحت مصر رائدة تيار الواقعية في المنطقة في الوقت الذي تواجه فيه ضغوطاً من التيارات الاسلامية المتشددة، تسعى الى احتوائها بمختلف الاجراءات. وفي هذه الظروف فان قيام نظام في السودان له علاقة، مهما كانت بعيدة ولا تتعدى نطاق الافكار، مع التيارات الثورية المحلية، يقلب الوضع الذي ساد المنطقة رأساً على عقب، ويجعل السودان للمرة الاولى في تاريخه في موقع تأثير محتمل على الاوضاع في مصر. وظهر هذا جلياً في حرب الخليج، وموقف السودان منها، فقد تخوّفت مصر، وحتى الدول العربية من ان يشكل هذا الموقف خطراً على التحالف الدولي. واتضح بعد ذلك ان تلك المخاوف لم تكن في محلها، اذ لم يكن للسودان وموقفه اي اثر يذكر، فيما عدا العودة بالضرر على السودان نفسه. في بادئ الامر كان امل مصر ان تفصل بين "التيار" والسلطة بحيث ينسجم الوضع في السودان مع التيار "الواقعي" الذي اصبح مهيمناً على التفكير في المنطقة. وكان التطبيق العملي لهذه السياسة، التي اضحت ايضاً مقبولة دولياً، محاولة لدق إسفين بين الحكم ممثلاً في الجيش وقيادته، والتيار الاسلامي الذي يرمز له حسن الترابي وقيادات الجبهة القومية الاسلامية سابقاً. جدير بالذكر انّ هذه السياسة جربت من قبل مع الرئيس السابق جعفر نميري، اذ نجحت الضغوط الدولية التي قادها نائب الرئيس الاميركي آنذاك جورج بوش شخصياً في اقناعه بالابتعاد عن التيار الاسلامي ممثلاً ايضاً حينذاك في حسن الترابي وجماعته. ولم يكتف نميري بإبعاد الترابي، بل وضعه في السجن، المشكلة ان نظام نميري انهار بعد اقل من شهر من "الابتعاد" عن الاسلاميين. مصر وحلفاؤها الغربيون اقتنعوا منذ مدة ان الحكم الحالي في السودان لا يستطيع ولا يريد الدخول في مجازفة مثل مجازفة نميري. وكذلك تغيرت الاستراتيجية نحو عزل النظام بكامله، بدلاً من تفكيكه. وتجلّى ذلك في محاولات تجميع المعارضة، وتنسيق الضغوط من جانب الدول المجاورة ضد الوضع في السودان. ويبدو ان الحكم في السودان لم يقدر الاوضاع الدولية والاقليمية حق قدرها، وهو يحفظ سياسته الخارجية. اذ كانت الحكومة السودانية تعتقد ان الوضع العربي والاقليمي الحالي فيه مجال للمثاليات وانصاف الحلول. ففي قضية فلسطين قالت انها "مع خيار الشعب الفلسطيني" دون ان تحدده وامتنعت عن ادانة ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية. لكن مثل هذه المواقف المجردة لم تعد مقبولة من اطراف الصراع. اذ كانت ترى الخطر الماثل اكبر من ان يتم التعامل معه بالحلول الوسط، ورفعت علناً شعار "من ليس معنا فهو ضدنا". وفي الوقت نفسه فإن اطراف النزاع اضحت ايضاً تعتمد حلفاء اقوياء، بحيث لم تعد ترى الحاجة لمداراة القوى الوسط في المنطقة بغضّ النظر عن القوى الهامشية. هذا المزيج غير المسبوق من الهشاشة في الاوضاع العربية، ودخول القوى العظمى لاعباً مباشراً في المنطقة، خلق ظروفاً جديدة، وقواعد جديدة للعبة. فأي عنصر ثوري في الساحة يعامل تلقائياً كخطرٍ داهمٍ على الاوضاع برمتها. النزاع المصري - السوداني الدائر الآن ليس هو في الحقيقة نزاعاً بين بلدين، بل هو انعكاس تحولات كبرى في المنطقة. والسؤال الذي يواجه السودان في سياسته الخارجية اليوم: هل يريد السودان أو يستطيع قيادة مدّ ثوري في المنطقة وهل يريد الدخول مباشرة في صراع مع دول "التيار الواقعي" كما فعل عبدالناصر في الخمسينات؟ الاجابة على السؤالين هي بالقطع: لا. فالسودان لا يريد ان يقود مثل هذه الثورة، على الاقل ليس الآن وهو لن يستطيع ان اراد، على الاقل حسب ما تشير اليه القرائن الموضوعية. فاذا كان هذا هو الحال، فان على السودان ان يعيد صياغة سياسته الخارجية لتعكس هذه الحقيقة، وهذا "الواقع". ولعل افضل طريقة لحسم هذا الامر هي انسحاب السودان كلياً من الساحة العربية في الوقت الحالي. والتطبيق العملي لهذا الانسحاب يتم - اولاً - بحملة مكثفة لطمأنة كل الدول العربية بأن السودان ليس لديه اي طموح او رغبة، في التأثير في اوضاعها الداخلية. وثانياً بالامتناع عن اطلاق اي تصريحات رسمية او شبه رسمية تمسّ اوضاع تلك الدول، وحتى القضايا العربية المشتركة. وثالثاً تحجيم اي مشاركة سودانية في المنابر التي تناقش القضايا العربية المشتركة. هذا سيتيح للسودان التقاط انفاسه، والالتفات الى قضاياه الداخلية الملحة، وعلى رأسها انهاء حرب الجنوب واصلاح الاقتصاد واعادة البناء السياسي. * محاضر جامعي سوداني والملحق الاعلامي سابقاً في السفارة السودانية في لندن.