بعد معاناة مع المرض دامت فترة من الزمن، وآلام مبرحة رافقت الأيام الأخيرة من حياته، توفي الأسبوع الفائت، الموسيقي المصري الكبير محمد الموجي عن عمر يناهز الثانية والسبعين، وعن ألف أغنية وخمس أوبريتات، وجهاد تواصل منذ أواسط سنوات الأربعين من اجل احداث ثورة عصرية في الأغنية العربية تمركزت أولاً من حول عبدالحليم حافظ، رفيق العمر والطريق، ووصلت لتفرض حضورها على العمالقة من محمد عبدالوهاب الى أم كلثوم، التي قدم لها الموجي بعض أجمل الحانه. لم يكن محمد الموجي من الذين يحبون الكلام الكثير، كان يفضل أن يمضي وقته في القراءة والاستماع الى الموسيقى، وفي التلحين، خاصة في التلحين. ولولا ذلك لما تمكن من أن يضع في حياته ما تقدره الأوساط الصحفية بألف لحن وأكثر. ومع هذا حين كان محمد الموجي يتحدث خلال السنوات الاخيرة، كان لا يكف عن التعبير عن مرارته ازاء الانحطاط الذي تعيشه الموسيقى العربية، وبالتحديد الموسيقى الغنائية العربية، في ايامنا هذه. وكان لا يفوته أن يلفت انظار مستمعيه الى الملحنين - الظواهر، الذين قد يضع الواحد منهم عشرة ألحان في الأسبوع، من دون أن يكون ثمة أمل في أن يعيش أي لحن من تلك الألحان اكثر من شهور قليلة، هي عمر ايقاعه لا جُمَله اللحنية بالطبع! وترى هل كان محمد الموجي ظالماً لأحد حين قال هذا الكلام، هو الذي انتمى الى جيل العمالقة، الجيل الذي تلى مباشرة جيل محمد عبدالوهاب وسبق الجيل التالي الذي برز منذ الستينات وكان من رموزه الأخيرة بليغ حمدي وفؤاد حلمي وحلمي بكر بين آخرين؟ ترى هل كان من قبيل المصادفة ان يكون محمد الموجي، اضافة الى سيد مكاوي من آخر الذين لحنوا لكوكب الشرق أم كلثوم، هي التي عاصرت، منذ ابو العلا محمد وحتى رحيلها، كافة المدارس والتيارات الموسيقية التي عاشت تحت شمس سيد درويش وتفيأت ظلال مدرسته التطويرية الهائلة؟ طبعاً لم نكن بحاجة لانتظار رحيل محمد الموجي عن عالمنا، بعد صراع طويل مع المرض، حتى نكتشف كم كان فناناً اساسياً في مسيرة الموسيقى العربية الحديثة هذا الموسيقي الذي تميز دائماً بالابتكار المشبع بالحساسية، وبالتواضع الجم، وبتكريس حياته كل حياته للموسيقى التي عاش فيها وعشقها منذ كان فتى في أول سنوات مراهقته لا يكف في قريته الصغيرة عن ترديد أغنية لعبدالوهاب كانت شائعة وثورية في ذلك الحين هي "ياما بنيت قصر الأماني". والحال ان محمد الموجي ظل طوال حياته يقول أن هذه الأغنية ولحنها المبتكر لعبا دوراً أساسياً في تحوله من الهندسة الزراعية الى الموسيقى. فمحمد الموجي الذي ولد العام 1922 في محافظة كفر الشيخ كان نال ديبلوم الزراعة في شبين الكوم في العام 1944، غير ان هوى الموسيقى استبد به في ذلك الحين تحت تأثير محمد عبدالوهاب وألحانه الجديدة المبتكرة. وهكذا في الوقت الذي راح محمد الموجي يخطو خطواته الأولى في عالم الوظائف الحكومية، راح يحلم بالألحان التي سيضعها والتي كانت احلاماً تقول له أنه سوف يغنيها بنفسه. الثلاثي الثائر لكن أحلامه لم تكن مجرد أحلام، اذ في تلك الآونة بالذات تعرف الموجي الى كاتب أغان يماثله في السن هو سمير محبوب، فراح هذا يكتب فيما راح الموجي يلحن ويغني، وقادهما ذلك الى المرابع، ثم خاصة الى اروقة الاذاعة، حيث تعرفا الى فتى اسمر خجول نحيل يدعى عبدالحليم شبانة كان هو الآخر يحلم أحلاماً لا تقل اتساعاً عن احلامهما، وأسس الثلاثة ذلك الثلاثي الذي قدر له، في بداية الخمسينات، ان يحدث ثورة في الغناء المصري والعربي، تُطوِّر الثورة التي كان عبدالوهاب احدثها في تلك الآونة بالذات حين كان انتقل من تلحين القصائد الكلاسيكية الطويلة، الى الاغنيات "الخفيفة" التي تمتزج فيها الايقاعات المستوردة حديثاً من اميركا اللاتينية ومن أوروبا. عندما اكتمل عقد الثلاثي، كانت الاغنيات الأولى: "ظالم" و"صافيني مرة" وصار عبدالحليم شبانة عبدالحليم حافظ، وكانت استجابة الجمهور سريعة، اذ من المحيط الى الخليج راح عشرات الملايين يتلقفون جديد محمد الموجي بصوت عبدالحليم حافظ، في وقت كان الراديو انجز ثورته وبدأ يحل نهائياً محل الاسطوانة، وكانت فيه الأفلام الغنائية أوجدت لنفسها مكانة أساسية في حياة محبي السينما العربية. والحال ان الظروف السياسية والاجتماعية كانت ملائمة لتلك الثورة الراديكالية التي عرفها الغناء آنذاك على ايدي الموجي، ثم من بعده كمال الطويل ومنير مراد، اللذين لم يلبث بليغ حمدي ان انضم اليهما، في الوقت الذي راح فيه مرسي جميل عزيز يمد المجموعة بأجمل النصوص الشعرية المسايرة لروح العصر يتبعه في ذلك صلاح جاهين وحسين السيد... الخ. في البداية، شعر محمد عبدالوهاب بنوع من الخوف إزاء هذه الثورة التي تستمد من عمله بعض أجمل ما فيها لكنها تحاول ان تتجاوزه في وقت كان صوته بدأ يخضع لعوامل الزمن. وهو الخوف نفسه الذي ساور عمالقة ذلك العصر من أمثال فريد الاطرش وكارم محمود ومحمد فوزي، الذين ما لبثوا ان سايروا تلك الثورة بتطويع الحانهم لمقتضيات الذوق الجديد الذي بدأ يسود. اما عبدالوهاب فانه، لذكائه الخارق، التف على تلك المدرسة عبر استيعاب قطبها المحرك: عبدالحليم حافظ، فراح ينتج له اغنياته ثم أفلامه وهو كله حرص على ان يكون لمحمد الموجي في كل موسم وفي كل فيلم لعبدالحليم أكثر من أغنية واحدة. وهذا المناخ وفّر لمحمد الموجي السبل التي مكّنته من اختبار امكاناته الواسعة ولا سيما في الأغاني ذات النفس الرومانسي العاطفي، وفي الألحان التي تحتاج الى توزيع أوركسترالي كان يؤمنه علي اسماعيل وينفق عليه المنتجون من دون وجل. وعلى هذا النحو ولدت تلك الروائع التي غناها عبدالحليم حافظ من تلحين محمد الموجي ولا يتسع هنا المكان لتعدادها بل نكتفي بإيراد امثلة عليها مثل "بتقولي بكرة قلبك حيعطف" و"يا مواعدني بكره"، وصولاً الى اغنيات من طراز "حبيبها" و"قارئة الفنجان" من تلك الأعمال التي أثبت محمد الموجي فيها انه صاحب مدرسة فريدة من نوعها تسير بالتوازي مع مدرستي محمد عبدالوهاب وكمال الطويل، العملاقين الآخرين اللذين لحنا لعبدالحليم حافظ، وتمهد للثورة التالية التي سيقوم بها بليغ حمدي، الذي كان لحّن لعبدالحليم أيضاً واشتهر حينها كثيراً، انما كان الكثيرون ينسبونه، خطأ، الى محمد الموجي وهو لحن "تخونوه" الذي كان ينتمي، حقاً، الى مدرسة الموجي، قبل ان يوجد بليغ لنفسه مدرسة خاصة به قادته هو الآخر الى ذروة أخرى. ولكن لئن كان محمد الموجي ارتبط لعقدين من الزمن وأكثر بعبدالحليم حافظ وشاركه صنع عصره الذهبي الذي كان، كذلك، العصر الذهبي للأغنية المصرية والعربية، فانه لحن أيضاً لعدد كبير من اشهر وأهم مغنّي تلك المرحلة، من فايزة أحمد التي لحّن لها أشهر اغانيها "انا قلبي اليك ميال"، الى شادية وليلى مراد وصولاً في الآونة الاخيرة الى ميادة الحناوي وسمية قيصر، التي كان من حظها ان تغني آخر أغنية لحنها محمد الموجي وهي أغنية "في عينيك عنواني" التي يقال ان الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب كان بدأ تلحينها، لكنه رحل قبل أن ينتهي منها فأكملها محمد الموجي، ولكن يبدو ان ثمة من يعارض هذه الرواية في القاهرة، حيث يقال ان الأغنية كلها من تلحين الموجي لكنه رضي بأن يوضع عليها اسم محمد عبدالوهاب الى جانب اسمه لأسباب ترويجية! ولكن مهما كانت حقيقة الأمر، فإن ما لا شك فيه ان ثمة بين الحان محمد الموجي، ما يمكنه، حقاً، أن يضاهي العديد من الحان محمد عبدالوهاب. ولعل التنافس، غير المتكافئ من ناحية الفرص المتاحة، الذي قام بين محمد الموجي وعبدالوهاب من حول التلحين لأم كلثوم يتيح لنا الفرصة لعقد المقارنة، اذ من المعروف انه في الوقت الذي لحّن عبدالوهاب لأم كلثوم أغنيتهما الأشهر "انت عمري" أتت هذه الأغنية لتطغى على أغنية كان الموجي لحّنها للست وهي "للصبر حدود" مما أشعر الموجي بمرارة دفعته الى ابداء رأي سلبي في "انت عمري" لم يغفره له عبدالوهاب ابداً. والحال أن مرارة الموجي لم تَخْبُ الا بعد ذلك بسنوات حين حقق ثأره ولحّن لأم كلثوم في العام 1970 أغنيتها "إسأل روحك" التي لا تزال تعتبر حتى اليوم واحدة من أعظم أغاني مرحلتها الأخيرة، ويفضلها الكثير من النقاد والباحثين على معظم الأغاني التي لحّنها لها عبدالوهاب. ماذا تفعل المرارة؟ مهما يكن لا بأس ان نذكر هنا أن أم كلثوم كانت "اكتشفت" محمد الموجي باكراً، منذ العام 1955، وكان لا يزال في بداية شهرته، فلحن لها اغنيتين من مغناة "رابعة العدوية" هما "أوقدوا الشموع" و"هانة الاقدار" اللتان تكشفان، باكراً، عمق موهبة الموجي وتأثره بالتراث الموسيقي العربي في الوقت الذي كان يخوض دروب الحداثة بخطوات واثقة. وقبل ذلك، على أي حال، كانت أم كلثوم غنت من الحان الموجي، ولكن عن طريق مصنفات الاذاعة "انشودة الجلاء"، كما عادت وغنت له، في مجال الغناء الوطني أغنية "محلاك يا مصري" من كلمات صلاح جاهين، كما غنت من الحانه، في العام 1965 "نشيد الجامعة". كان تعاون محمد الموجي مع أم كلثوم محدوداً، على عكس تعاونه مع عبدالحليم حافظ الذي رافقه منذ سنواته الأولى، وواكب تطور اغانيه، من الألحان الرومانسية الراقصة والقصيرة اغاني الأفلام الى الأغاني الطويلة التي ميزت آخر سنوات العندليب الأسمر. ولعل هذا التعاون الطويل، هو الذي كمن وراء المرارة التي كانت تعيب محمد الموجي بين الحين والآخر، في علاقته مع عبدالحليم حافظ، ولربما كانت ايضاً وراء تشجيع محمد الموجي لهاني شاكر عند بداياته، في لحظة كان عبدالحليم يكثر من تعاونه مع بليغ حمدي على حساب وفائه لمحمد الموجي، فما كان من هذا الأخير الا ان قدم لهاني شاكر الحاناً متميزة تنتمي الى المدرسة الحليمية. فكان ذلك التعاون بين الموجي وشاكر مدعاة لمخاوف حقيقية أصابت عبدالحليم وأعادته، وإن لفترة، الى الحظيرة الموجية. اليوم، اذ يرحل محمد الموجي عن عالمنا وهو في الثانية والسبعين من عمره، تصبح الحكايات الصغيرة وقصص التنافس جزءاً من الماضي سرعان ما تنسى، اما ما سيبقى فهو تلك الألحان الكثيرة والرائعة التي وضعها محمد الموجي وطبعت مرحلة بأسرها بطابعها، الحان استظلت مناخات محمد عبدالوهاب ورياض السنباطي، واستعارت من فريد الاطرش همسه الرومانسي وتركيزه على التوزيع الاوركسترالي وعلى اعادته آلة العود الى مجدها، الحان كانت، في حركة معاكسة، ذات أثر حاسم على المرحلة التالية من مراحل محمد عبدالوهاب، مرحلة النصف الثاني من الخمسينات، المرحلة التي وجد عبدالوهاب نفسه، مضطراً خلالها للتماشي مع حداثة استقطبت ملايين المستمعين من حولها. ولئن كان محمد عبدالوهاب يرى ان محمد الموجي ملحن كبير وموسيقي مبتكر وأن "جماله كملحن يتجلى في الصنعة. فهو صانع مثل صنّاع تطعيم الصدف. نجد عندهم كل ألوان الصنعة، وهذا سر تعدد الاشكال اللحنية التي يلحنها، ولهذا يبدو محيّراً ففيه الجديد وفيه القديم". فإن محمد الموجي قال عن محمد عبدالوهاب: "ان عبدالوهاب هو استاذ المدرسة الحديثة، تعلمنا فيها جميعاً، من السنباطي الى بليغ حمدي الى كمال الطويل. اسمه يرتبط بذكريات لا انساها، ولن أنساها مدى عمري، وهي عزيزة وغالية على قلبي. فقد كنت أسمع عبدالوهاب في قريتنا وأنا واقف على قدمي، احتراماً لهذا الفنان الكبير. كنت أقول عيب جداً أن أستمع اليه وأنا جالس... وكنت أتمنى ان يأتي يوم لأقترب منه. لأتعرف عن كثب على هذا الفنان العبقري. ولقد تحقق حلمي والحمد لله بلقائه مرات عديدة. إن عبدالوهاب كان لنا الأب الروحي الذي نستلهم منه القدرة على العطاء والاستمرار، وموسيقاه وأعماله المتجددة كانت القدوة التي تحقق لنا النجاح. وبوفاته فقدنا المعلم والرائد والبوصلة التي كنا نهتدي بها في رحلة الموسيقى والغناء". اليوم، اذ يرحل محمد الموجي بعد بليغ حمدي وبعد محمد عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش، يزول بالتدريج عصر بأكمله، تاريخ ذهبي عرفت فيه الأغنية العربية واحداً من أزهى عصور ازدهارها، عصر كان فيه محمد الموجي من أبرز عناصره، رغم تواضعه الجمّ وإيثاره الصمت والعمل على إثارة الصخب من حوله.