ذات حزيران مرير مفعم بالهزائم، وكان الجنود الاسرائيليون على أبواب بيروت، أطلق الشاعر خليل حاوي صرخة احتجاجه الأخيرة التي تلاحقنا إلى اليوم كاللعنة وتعذّب ضمائرنا. ببندقية صيد وضع صاحب "الناي والريح" حدّاً لحياته، وترك لنا أن نعيش الهزائم المتلاحقة، برؤيويته عرف أنّه هذا التاريخ المفصلي هو بداية تحوّلات حاسمة لا قدرة له على معايشتها. واليوم بعد ثلاثة عشر عاماً على هذا الرحيل المدوّي، نسلّط الضوء على جانب منسي في مسيرة حاوي. فهذا الرائد البارز الذي ترك بصماته على القصيدة الحديثة، بدأ حياته الأدبية شاعراً بالعامية. ولو أنّه لم يتألق إلا لاحقاً، حين خاض غمار الشعر بالفصحى. قبيل الحرب الأهلية في لبنان، تعرفت بعامل دهان يدعى كريم الكركي، ففاجأني مرتين: الاولى حين اخبرني انه شاعر وأسمعني بعض قصائده العامية. والثانية، عندما قال انه كان يعمل وخليل حاوي في "البناء"، وان الاخير كان مثله ينظم الشعر العامي. وعلى رغم مناقبية كريم وبساطته وتواضعه الشديد، فاني بقيت أشكّ في أن يكون الشاعر الرائد دشّن حياته بالقصائد العامية التي كانت ترادف "الزجل" وكان يطلق على ناظمها لقب "الزجال". في حين كان الزجل بنظر شعراء الفصحى ظاهرة ثقافية وضيعة. اضافة الى انه لم يسبق لأي من شعراء الفصحى في لبنان، أن بدأ حياته الادبية بكتابة قصائد عامية. صحيح ان الشاعر سعيد عقل نظم شعراً عامياً. ولكنه فعل ذلك بعد ان نظم "بنت يفتاح" و"قدموس" والعديد من القصائد بالفصحى، وبعد ان بدأ يدعو الى اعتماد "اللغة" المحكية بدل الفصحى في الكتابة. علماً أن سعيد عقل يميز، أسوة بشعراء العامية في لبنان أمثال ميشال طراد ويونس الابن وموريس عواد وايليا أبوشديد، بين الشعر العامي والزجل. وعلى الرغم من عثوري على قصيدة بالعامية لحاوي في أحد أعداد مجلة "الصياد" الصادرة أواسط الاربعينات، بقيت مشككاً في علاقة حاوي بالشعر العامي حتى صيف 1994، حين عثرت بالمصادفة على مجموعة كبيرة من قصائده العامية ومقالاته التي تتناول الشعر العامي في مجلة أدبية اسمها "العرائس". وفي مجلّة "الدبور" عثرت على بعض قصائد حاوي العامية أيضاً. هل كان شعر حاوي بالعامية ذا قيمة كما كان حال شعره بالفصحى؟ واذا كانت قصائده العامية جيدة فلماذا توقف عن كتابتها، ولم يصدر ديواناً يحتضن مختارات منها؟ ومقالاته في الزجل والشعر العامي، هل تضمنت نقداً عميقاً كما هو حال نتاجه النثري فيما بعد، وخصوصاً أطروحته حول جبران؟ ويقول الباحث الادبي ايليا الحاوي في مقدمة كتابه "مع خليل حاوي" ان شقيقه "يأبى ان يعترف إلا بالشعر الذي باشره في اناشيد "نهر الرماد" وما بعده دون ما تقدمه… كان ينوي ان يتصرّف بتلك القصائد تصرفاً ما. ومثل ذلك شعره العامي. فقد جمع معظم ما كان منه في المرحلة الثانية، وكانت له قيمة فنية بيّنة. ولكنه كان يأبى ان ينشره". طبعاً، من حق الكاتب ان يعترف ببعض نتاجه ويلغي البعض الآخر، ومن حقه ان يعدّل وينقّح شعره كما يشاء. وهذا أمر يبرره نضجه والتطور او التغيّر الذي طرأ على مفاهيمه السياسية او الفكرية. ولكن، بالمقابل، من حق بل من واجب الباحث والصحافي والناقد، العودة الى اصول الشاعر او الاديب، حتى يقدم صورة كاملة وحقيقية عنه، تلقي ضوءاً على مراحل تطوّره. ويقتصر اهتمامنا في هذه العجالة على بدايات خليل حاوي في الزجل او "الشعر الطليق" على حدّ تعبيره. والبدايات تشمل قصائده ومقالاته النقدية التي حدّد فيها مفهومه للشعر الجيد والشعر الرديء، مع تسميته لأبرز شعراء العامية المبدعين والفاشلين في لبنان. نظم قبل العشرين بدأ حاوي نشر اولى قصائده ومقالاته في العام 1939 في مجلة "العرائس" لصاحبها عبدالله حشيمي الذي اصدرها في مصيف بكفيا المجاور للشوير مسقط رأس الشاعر. ولكنه، في الوقت نفسه، نشر ايضاً قصائد في مجلة "الدبور". والطريف ان بعض القصائد قد نشرت في الدوريتين معاً. و"العرائس" تلفت النظر إلى أنها "كانت اولى الصحف التي اهتمت بنشر هذا النوع من الشعر باللغة العامية بدليل انها هي التي عرّفت الشاعر ميشال طراد لقراء العربية… وها هي بعد، تعرّف الشاعرين حسّون الجبل وخليل حاوي لقرائها بنشرها كل ما يصوغه خيالهما الصحافي كجو لبنان في قالب من الشعر الموسيقي الأخاذ" "العرائس"، 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 1940. كان خليل حاوي في العشرين من عمره عندما بدأ ينشر في "العرائس" و"الدبور". فهل نظم شعراً قبل العشرين، وراح يخزّن نتاجه في انتظار فرصة للنشر؟ يقول ايليا الحاوي في كتابه "مع خليل حاوي": "عام 1933 حين تزوّج أحد أقاربنا وهو وديع الحاوي، وكان خليل في نحو الخامسة عشرة من عمره، أُقيمت الافراح على غرار اهل الجبل في ذلك الزمن ودامت اسبوعاً كاملاً بين غناء ولهو وقول زجل. وكان يجتمع هناك قوالون كثيرون. وكان خليل يردّ عليهم… مثيراً الاعجاب الباهر بين اهل البلدة لصغر سنّه وتألب اولئك القوالين وصموده في وجههم منفرداً". ص 75 ولكن اذا كان حاوي قد نظم شعراً طليقاً في السنوات الخمس التي سبقت ظهور قصائده في "العرائس". قصيدة "لبنان" المنشورة في "العرائس" بتاريخ 16 ايار 1940 ، اهداها حاوي "الى ندوة الاثني عشر" حلقة ادبية تضم عددا من الادباء المتحلقين حول دار المكشوف لصاحبها فؤاد حبيش اعجابا منه بالجميعة التي ادت خدمات ادبية جلى للبنان ما يضاعف من رسالته الحضارية الى العالم كما توحي القصيدة التي يستهلها الشاعر بالأبيات التالية : "وديان مخبا الليل وقوافل جبال بتبات فيها الشمس بعشوش النسور وتلال فيها لوان بيموج الجمال زوارق خضر عمتسبح بموجات نور". يضيف الشاعر في سياق وصفه للبنان: "غيضة ربيع وحلم وسواقي لحان وبمبسم النسمات لَهْتات الطيوب ونغمة شموخ وعزم علسان الزمان وحلم اخضر رف بفكار الشعوب" ولكن اذا كان كلام الشاعر ينطبق على التاريخ القديم، فهو غير منسجم مع حالة اللبنانيين في العام 1940. الا اذا كان المقصود بلبنان جمال الطبيعة فهل كان خليل حاوي زجّالاً، ينظم زجلياته العنترية كما يفعل سائر الزجّالين؟ تحت عنوان "الشعراء والقوالون" نشر حاوي في "العرائس" بتاريخ 22 حزيران 1940 مقالة نقدية تناول فيها القوالين اي الزجّالين ومنهم وليم صعب، وقد ميّزهم عن "الشعراء" الذين يفتخر بالانتماء اليهم. ومما يقوله في مقالته ان "وليم صعب يسعى دائماً ان يقلّد المتنبي، ويبث القوة في شعره ولكنه لم يوفق الى ذلك. فالقسوة تكون في عزم اعصاب اليد وليس في خشونة ملمسها". وبعد أن يستشهد بنموذج من نظمه، يتساءل: "هل هذا شعر؟ وكيف ينادي بنفسه أميراً من انحطّ الى هذه الدركة من المبالغة الفارغة والسطحية والهوس والابتذال والاسفاف المخجل؟". نقرأ في قصيدة غير معنونة نشرها في "الدبور" بتاريخ 23 كانون الاول ديسمبر 1940، يخاطب فيها اللبنانيين مؤنباً: "والحق كلمة ضعف علسان الضعيف وما انوجد تنقول عنو اليوم ضاع انتو دجاج بتفزعوا بعز الرغيف وهَلْهَمّ ما بيخطر على بال السباع... رح تموتو من الفزع، كفتا؟ العمى؟ شو راح يجيكم بس من طول الطريق حاجي تقولوا دربكم صوب السما ومطيشرين بأسفل الوادي العميق ... يا ريتكم ارزي غصونا مقصّفي ولا عشاب بلزاقي القناعة غارقا عا روسكم لا تفزعوا، بالعاصفي ما بتنكلخ الاّ الغصون الشامخا". في معرض حملته القاسية على وليم صعب يكتب حاوي تحت عنوان "الشعراء والقوالون": "وليم صعب خلق ليكون كاتباً في الجرائد السيارة، وقد اعتدى على الشعر اعتداء، فجاء شعره معقداً جامداً، وعبارته عربية تقليدية جافة، لا تحمل الطابع اللبناني القروي الرشيق. فالبلاغة في الشعر العامي هي، كما حددها الاستاذ عبدالله غانم في مجموعته الشعرية "العندليب" ان يبتعد الشاعر عن كل لفظة لا تتبناها الجدّة صاحبة المغزال". وفي مقالة أخرى عن "فاضل سعيد عقل والزجل" يضيف: "لو لم يكن سائر ما ينظمه وليم صعب على هذا النمط لما اكترثنا له. ولا اعلم لماذا هو يدعو ما يكتبه بالشعر الشعبي اللبناني ما دام لا يكتب بلغة شعب لبنان، حتى انه غالباً ما يلتقط ألفاظاً اهملها شعراء الفصحى العصريون، اما لثقلها وخشونتها، او لتكرارها وابتذالها. فإما ان تكون لغة الشعر شعبية بحتة، واما ان تكون لغة عربية فصحى. اما الشعر الذي يقف حائراً بين الاثنين، يأخذ صاحبه لفظة من هنا ويستعير عبارة من هناك، فهو شعر ممسوخ مرقع. ولا يحسب وليم نفسه انه أدخل على الشعر الشعبي قاعدة جديدة. فالياس الفران وجميع القوالين القدماء، ساروا قبله بالزجل على هذه الطريق الملتوية، فأبعدوه عن فطرته وجردوه من اسلوبه المستحب". ولكن قصائد حاوي العامية لم تخلُ من كلمات وعبارات فصيحة. ألا تنتمي عبارته "بقمة الوادي العميق" في القصيدة غير المعنونة، الى قاموس الفصحى؟ وقصيدة "ليلة عيد الميلاد" المنشورة في "العرائس" بتاريخ 11 كانون الثاني يناير 1941، لا تخلو بدورها من الكلمات والعبارات التي لا "تتبناها الجدة صاحبة المغزال". أما قصيدة "أيشنا انت وانا" المنشورة في الدبور بتاريخ 27 ايار مايو 1940، فتنتمي من حيث المبنى، الى "الشعر الذي يقف حائراً بين الاثنين"، بل ان كفّة كلماتها وعباراتها الفصيحة ارجح من كفة العامية اللبنانية: "ليكي الشفق بهتان"، "لعبات بكفوف القدر"، "فجر الحياة قريب من ليل الفنا"، "من صحاري اليأس لمروج الأمل"، "ومن دروب الشوق لظلال الملل"! هذا لا يعني ان كل قصائد حاوي صيغت بلغة مناقضة او مغايرة لما ابدى ايمانه به. بل ان معظم تلك القصائد كانت مصوغة بعبارات ومفردات عامية، وبعضها محلي جداً أي "شويري" متين. هناك مثلاً قصيدة "شمس نيسان" المنشورة في "الدبور" بتاريخ 5 ايار مايو 1941. "الفجر فاق وفتح جفونو ونبّز من الطاقا تسمعي في تزقزق سنونو جايي من رواقا"" ف "نبّز" تعني ظهر فجأة، وقد لا يعلم معناها ابن عكار او مرجعيون او زحلة. وال "رواقة" هي الشرفة، وربما هي غير معروفة المعنى لدى جميع اللبنانيين. ولكن حاوي يرفض هذا المبرر، ويصرّ على استعمال الكلمات المحلية. ورفضه لا ينطلق من ايديولوجية سياسية لبنانية منغلقة، بل من اعتقاده أن الشعر العامي اللبناني وتالياً اللهجة العامية اللبنانية، ليسا مغلقين على أبناء العالم العربي. يكتب في مقالته "فاضل سعيد عقل والزجل" رداً على وليم صعب الذي يدعي "انه يكتب لسبعين مليوناً من البشر، وان اللهجة اللبنانية لا يستسيغها الا اللبنانيون": "لدي الدليل على خطأ ادعائه. فهذا "الدبور" يقرأ ويفهم في مختلف الاقطار العربية، ومثله روايات فريد مدوّر التي مثّلت في حلب وفي غيرها من بلاد العرب ونالت استحساناً هائلاً، على الرغم من ان شخصياتها لا تتكلمون الا اللغة اللبنانية الصرفة. وكلنا نذكر رحلة شحرور الوادي الموفقة الى مصر. فلماذا لم يرغمه المحيط المصري على ابدال اسلوبه اللبناني؟". قصة حب فاشلة كان خليل حاوي في العشرين من عمره حين نظم هذه المجموعة من القصائد العامية ونشرها في "الدبور" و"العرائس". لذلك تمحور معظمها حول الغزل والحب والمرأة. ومن خلال بعض القصائد وخصوصاً "الوداع" يمكن الاستنتاج ان الشاعر كان يحب فتاة معينة. هذا يعني ان شعره كان نتيجة تجربة، وثمرة حب خيالي. الا ان الغزل لديه لم يصل الى حدّ الاباحية كما كان الحال مع نزار قباني في بداياته الشعرية خلال الفترة الزمنية نفسها اي في نهاية الثلاثينات واوائل الاربعينات. وبالمقابل، لم تكن قصائد حاوي عذرية تماماً. باعتبار ان مسرح الحب كان مصيف الشوير بينابيعه وصنوبره وسنديانه والجلول المغطاة بالأزهار. هذه البيئة الجميلة العطرة كانت القاموس الذي استقى الشاعر منه الكلمة الغزلية الشعرية. في قصيدته "هدية نوار" المنشورة في "العرائس" بتاريخ 23 تموز يوليو 1939، يخاطب الشاعر حبيبته على النحو التالي: "بكرا الربيع بيروح وبياخذ تيابو والحور يبقى يلوح وممرشقه حرابو وغير الرياح تنوح ما يضم في غابو وغير القصب مبحوح وغير صيحة غرابو قومي قبل ما ينفخو رياحو وما زال هلّق بعدنا بنوار"... هل استجابت الحبيبة لنداء الشاعر؟ قصيدة "الوداع" المنشورة في "العرائس" بتاريخ 24 تشرين الاول أكتوبر 1940، تعطي صورة قاتمة عن تتمّة الحكاية. يخاطب حاوي تلك التي يرمز الى اسمها ب أ. س. أ: "الوداع يا رفيقتي الحلوي الوداع يا مونسي قلبي الشقي في غربتو وان ما رجعنا لا تقولي الحب ضاع بعدك بتتفرفط عا إمّا زهرتو ... ولبنان رح بيكون بكرا مدري كيف بستان مقفر لا زهور ولا طيور والشباب وزهوتو، ليالي خريف وعالكون كلو مخيمي وحشة قبور...". والظاهر ان الحبيبة ميسورة الحال، أو ان أهلها يرغبون في تزويجها بغني على غرار ما كان يحصل لدى العديد من العائلات اللبنانية... فيقول لها حاوي كما كان يقول جبران الذي تأثر به الشاعر في مطلع حياته: "حلوي وبكرا بيشتريكي شي غني وبيدفنك في بيت متل المقبرا وبتودعي غيضة حياة الولدني وفيها رفوف العاشقين مطيرا ... القدر مارد حسود عليه طباع قهار بيحب النكايي شي عجيب الوداع يا رفيقتي الحلوي الوداع ضمي اذكري وتذكري هاك الغريب". ويورد شقيق الشاعر في كتابه "مع خليل حاوي" ما يعزّز حقيقة وجود فتاة معينة أحبّها الشاعر، و"كانت ذات جسد فصيح التعابير وناهد وطافر ومتموج ومتحرك وله خصر منقطع وله ارجوحة مريبة بنوع من الريب تخطف عبر أعضائه كلها. ولقد كان لخليل ما لسواه منها. اللقاء الخاطف في الكرم، حين تذهب لقطف العنب صباحاً او انه يراها قادمة، فيهرع للقائها ويتكلمان بكلمات عابرة مخنوقة لا تمثل حقيقة ما في نفسيهما بل ربما في جسديهما". ص 243 وما ان ودّع الشاعر الفتاة الحبيبة التي تشبه علاقته بها العلاقة التي قامت بين جبران وسلمى كرامة حتى تزوجت من "رجل شبه كهل يفوقها عمراً" بكثير وقد انجبت له واستكانت بكنفه وما عاد يبين لها أثر". ص 248 وفي مقالة نقدية أخرى، بعنوان "الأجنحة العارية" "العرائس"، 8 آب/ أغسطس، تهاجم المسرحية الشعرية التي اقتبسها وليم صعب عن "الاجنحة المتكسّرة" لجبران، يتوقف حاوي عند الزجل والزجالين ليميّزهم عن الشعر الطليق ورموزه. وربما تكون هي المرة الاولى التي يتم فيها التمييز بين الزجل والشعر العامي. ذلك ان الخلط بينهما قد استمر، جزئياً، حتى يومنا هذا. وان الاصوات التي انطلقت من بعض شعراء العامية في لبنان لتميّز بين قصائدهم والردات الزجلية "المرتجلة" على المسرح والمعاد نشرها في مجلات خاصة بالزجل، "كالأدب الشعبي" و"البيدر"، قد جاء بعد اكثر من ربع قرن من ظهور مقالات حاوي. ضدّ المنهج الوعظي ويأخذ حاوي على الزجالين المنهج الوعظي الذي يتبعونه في شعرهم الاجتماعي. كما يحتقر الزجل لأنه يعتمد على "الارصاد او التعقيد اللفظي" الذي أمسى موضة قديمة باطلة وتعمده سخافة صارخة". ويورد في مقالة "الشعراء والقوالون" بيتين لصعب يقول فيهما: "طلّت بقامة معدّلي فيها الرماح معدلي وفي كل عين معدلي وفي كل لفته خرطشي" ويذيّلهما بالتعليق الساخر التالي: "لو لم يفاجئنا بكلمة قامة لحسبناه يصف لنا عصابة مسلّحة". ويسخر حاوي ايضاً من منصب "امارة الزجل" وسعي وليم صعب ورامز البستاني إلى هذا اللقب، كما كان أحمد شوقي أميراً للشعراء. فيقول في مستهل مقالته "الشعراء والقوالون" ان الزجالين بمحاولتهم تتويج احدهم اميراً للزجل "يأتوننا بدليل جديد على انحطاطهم ورجعيتهم". فها هو وليم صعب ينادي بنفسه "أميراً في جريدته "بلبل الارز" مالئاً صفحاتها بأسماء المبايعين". كذلك "بايع بعض قوالي العاصمة زميلهم رامز البستاني اميراً". وهنأ حاوي الزجالين "بهذه الامارة الصبيانية". وردّ صعب متهماً حاوي بإحدى تهمتين: إما "تحطيم تاج الامارة" او لأنه طامع بها لنفسه أو "لأحد شعراء المتن". فردّ حاوي على الرد في مقالة معنونة "جلد عيسو وصوت يعقوب... الى أمير الشعر الميكانيكي" متكلماً باسم "الشعراء المجددين" الذين يسمي منهم ميشال طراد وعبدالله غانم وحسون الجبل". ويبرر تقديره للفرسان الثلاثة في مقالة "الشعراء القوالون" بما يلي: "ما يعجبني ويقربني من ميشال طراد وعبدالله غانم هو ذاك الترفع والاستخفاف بسياسات القوالين واماراتهم الوضيعة. وكذلك حسّون الجبل بعد ان تحرر من اساليبهم واوزانهم الرثة البالية وسما الى أجواء الشعر الطليق". ويورد بيتين لحسون الجبل كان ارتجلهما في وصف بكفيا ونال على القصيدة التي احتضنتهما الجائزة الأولى: "شمّ الورود وقول آه وخي وسراح بكروم العنب والتين ومدّ ايدك بالطلوع شوي بتطال شقفة ثلج من صنين" رد حسّون الجبل على تحية حاوي بتحية اجمل منها، عندما أهداه قصيدة "زهر القمر" المنشورة في "العرائس" بتاريخ 23 تشرين الثاني نوفمبر 1940. قال الشاعر في قصيدته التي تعتبر افضل من كل ما نظمه حاوي في تلك الآونة، لجهة ضبط الاوزان والقوافي، والتقيّد بمفردات وعبارات قاموس الشعر العامي: "نحنا بعش الفجر تنهيدة حمام ورفة بشاشير ونعومة حفيف ونحنا بحرج الليل مرجوحة غرام بتهزنا رجفات عاشفاف الخريف وعرزالنا المسقوف بوراق الكروم من طاقتو عالحافنا تدلى التمر وسريرنا الأخضر معرّق بالنجوم ومشنشل تريات من زهر القمر ونسمة تليعب شعرنا وعاكتافنا تنشلح وتموج عافراش الحرير وتلال من نور القمر عالحافنا والورد ينقح ضو احمر عالسرير". ولكن من هو حسون الجبل؟ يروي ايليا حاوي في كتابه إن صداقة نشأت في تلك المرحلة بين خليل وأحد شعراء الزجل، وكان يدعى كريم الكركي ولقبه حسّون الجبل. خليل كان أثقف من كريم. ولكن كريماً لا يقل عنه موهبة، وقد تطورت تلك الموهبة، في ما بعد، تطوراً ابداعياً ذاهلاً، وصارت قصائده، وان لم تنتشر كثيراً، من أعمق وأصفى ما عرفه الشعر العامي". ص 231 - 232 في الواقع، ظل كريم يتصرف مع شاعر الفصحى الكبير وحامل الدكتوراه من جامعة كمبريدج ورئيس الدائرة في الجامعة الاميركية، كأنه رفيقه في ورشة البناء وفي نظم الشعر العامي والنشر في "العرائس". وحين طلب من حاوي كتابة مقدمة لديوانه اليتيم لب الشاعر الطلب بتواضع غير مصطنع، فكانت مقدمته بلسماً لجراح صديقه القديم الذي بقي في الظل، إذ أهمل النقاد موهبته الشعرية. واذا كانت وطنية خليل حاوي هي التي دفعته الى الانتحار قبل ان يشاهد الجيش الاسرائيلي يصل إلى شارع المكحول في بيروت حيث كان يسكن، فان رقة كريم الكركي وبساطته وطيبته ورهافته عجّلت في رحيله في منزله المتواضع في انطلياس بعد سنوات قليلة من رحيل صديقه القديم. شاعر واعد المهم ان قصائد حاوي تلك كانت واعدة، ولكن الأداء الشعري فيها كان دون مستوى مضمونها. فأدوات التعبير كانت تحتاج الى كثير من الصقل. وفي هذا المجال كان كريم الكركي وسائر شعراء العامية من مثل اميل مبارك واسعد السبعلي فضلاً عن ميشال طراد وعبدالله غانم، متفوقين عليه. ثم ان الشاعر كان حائراً في بعض قصائده بين العامية والفصحى على صعيد العبارات والكلمات. وقد انعكست حيرته على جمالية الأداء. طبعاً، هذا لا يعني خلو القصائد من اللمعة الابداعية، لذلك تنطبق عليها صفة "الواعدة". إلا ان الوعد الذي انطوت عليه، تحقق في ما بعد شعراً بالفصحى. كأن حاوي بدأ حياته الشعرية بقصائد عامية، لأن ثقافته العلمية كانت متواضعة، ولأنه تأثر بخاله الذي "كان يحرص على ان يعلّمه اشعاراً نظمها، وكان يقولها ويرددها حينما يطلب منه ذلك. ثم ان خاله كان يدعه يحفظ اشعاراً زجلية لأئمة ذلك الشعر في زمنه" مع خليل حاوي - ص 73. وعندما دخل الجامعة في سنّ متأخرة وأصبح حاملاً لقب الدكتوراه من جامعة بريطانية شهيرة، انصرف الى قصائد الفصحى، لأن هذه تتناسب والثقافة الرفيعة، كما هو الاعتقاد السائد. أما مقالات حاوي في تلك الفترة، فكانت تجمع بين الصياغة المتمكنة والمضمون العميق، توحي أن كاتبها ناقد محترف وخبير بالشعر العامي أمضى سنوات في الجامعة ونال في نهايتها دكتوراه هي ثمرة معلومات وتحليلات لا حدّ لها. والحقيقة ان حاوي كان في بداية رحلته النثرية، ولم يكن قد وطئ بعد أبواب الجامعة. كانت مقالته بمثابة دراسة مكثّفة، وقد حقّق فيها الهدف الرئيسي الذي قصد منه اقناع القراء والنقاد والشعراء بأن الزجل غير الشعر العامي. واطلق حاوي مقولة الشعر العامي الذي كان النقاد يخلطون بينه وبين الزجل، فيما كانت قصائد شعراء العامية مزيجاً من الزجل والشعر الطليق. ولكنه اخفق في ابداع شعر عامي على مستوى ما نظّر له. وبعد تحديد حاوي لمقولتي الزجل والشعر العامي في العام 1940، بدأ الفرز بين الشعراء والزجالين حتى اصبح واضحاً ومعترفاً به على مستوى النقاد والقراء، ناهيك بالزجالين والشعراء. وفيما استمر الزجل عبر المساجلات المقامة بين فرقتين او شاعرين على المسرح او من على الشاشة الصغيرة... اصبح للشعر العامي حضور قوي مماثل للشعر الفصيح، في الأمسيات الشعرية وعبر الدواوين والصفحات الثقافية في الدوريات اللبنانية.