لا غنى عن قراءة كتاب "مقاتل من الصحراء"، ليس لمجرد انه تحليل لحرب الخليج عام 1991 فحسب، بل لأنه ضرورة للذين يريدون التعرف الى طبيعة الحياة داخل البناء الهيكلي للسلطة في المملكة العربية السعودية. فالكتاب عمل فريد لأنه أول سرد شخصي يقدمه أمير من الأسرة السعودية المالكة. وربما كان أقوى انطباع يخرج به القارئ هو ان المملكة لم تكن أقل اهمية على الاطلاق من الولاياتالمتحدة في تنفيذ تلك الحرب. وفي معرض شرح الأمير خالد بن سلطان قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات لهذه النقطة يلقي ضوءاً جديداً على العلاقة الاميركية - السعودية، اذ من السهل جداً على المرء ان يعزو الفضل الى الاميركيين في ادارة تلك العمليات لأنهم أرسلوا الجزء الأعظم من القوات الى المنطقة واستخدموا أحدث أنواع التكنولوجيا، لكن الحقيقة هي، كما يثبت الأمير خالد بكل وضوح، انه ما كان في الوسع تحقيق ذلك المجهود الحربي للتحالف من دون المرافق والتسهيلات والثروة السعودية الهائلة، ما كان يعني بالطبع استخدام البنية الأساسية السياسية والمادية للبلاد لخدمة ذلك الهدف. ولما كان الأمير خالد أرفع قائد عسكري ونداً للجنرال شوارزكوف فإن مسؤوليته لم تقتصر على الجانب العسكري فحسب، وهو يقارن بين دوره ودور نظيره الاميركي فيعترف بأنه كان يشعر في بعض الاحيان بأن مهمته كانت أكثر صعوبة وتعقيداً، وانه كان أمام السعودية من المشاكل التي تقتضي المعالجة أكثر مما كان لدى الولاياتالمتحدة، وبعد قراءة سرده الصريح والجريء لما كانت تعنيه الحرب بالنسبة الى السعودية يصبح من السهل معرفة ما الذي يعنيه الكاتب. إن كتاب الأمير خالد الذي ساعده في تأليفه باتريك سيل الكاتب البريطاني الذي وضع كتباً عدة عن الشرق الأوسط، يعطي نظرة داخلية عميقة عن عدد من الوقائع الرئيسية في تطور التفكير السعودي ازاء الدفاع عموماً والدفاع الجوي خصوصاً. وفي هذا ما يجعل الكتاب أكثر من مجرد دراسة لحرب الخليج أو مجرد مذكرات شخصية. ومع ذلك فإن جوهر الكتاب يتناول الأزمة التي نجمت عن الغزو العراقي للكويت في آب اغسطس 1990 والحرب التي تلت الغزو من اجل تحرير الكويت. ويروي الكاتب دوره في تلك الأحداث التاريخية بصراحة وعفوية وخفة ظل. ويعزو الفضل الى مستحقيه ويسهب في مديح عدد من الشخصيات التي يذكرها بالاسم من الجانب السعودي وجانب الحلفاء. لكنه مع ذلك لا يألو جهداً لكي يسجل الحقيقة في عدد من النقاط الاساسية التي أهملتها الروايات الغربية للاحداث أو أساءت تفسيرها. فهو يرسم خصوصاً صورة لشوارزكوف تقلل من صورة التهويل والتضخيم للأهمية الذاتية التي نقلتها الروايات الأخرى للضابط الاميركي، كما ان الأمير خالد يتناول رواية شوارزكوف الخاصة عن الاختلافات في الرأي بين القائدين، فيعطي في معرض سرده للاحداث وممارسته مهمته كقائد للقوات المشتركة، معلومات جديدة عن طريقة صنع القرارات على مستوى القيادة السياسية السعودية وطريقة ارتباط ذلك بالبناء الهيكلي للقيادة الاميركية والقيادة الحليفة. العبء الضخم وربما كان أكثر الفصول الذي يبعث على الاستنارة هو ذلك الفصل المتعلق بالأرزاق ووسائل الدعم والمساندة "جيش يزحف على معدته". اذ ان هذا الفصل يضع أمام القارئ ضخامة العبء الذي تحملته السعودية بتنظيم "درع الصحراء" ثم "عاصفة الصحراء". ويشرح الأمير خالد كيف أدت الفلسفة الحربية الاميركية التي تطورت بعد حرب فيتنام، وهي الفلسفة القائمة على الحشد الهائل للقوات والمعدات على أرض المعركة، الى تحميل الموارد السعودية قدراً هائلاً من الاعباء والمطالب. اذ يبدو ان البنتاغون حاول، في مرحلة مبكرة، المداهنة بتحميل السعودية نفقات نقل القوات الاميركية جواً وبحراً الى المملكة، مع ان خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز لم يوافق إلا على دفع نفقات تلك القوات بعد وصولها. وقد اكتشف السعوديون هذا التجاوز وغيره من التجاوزات الاميركية، لكنهم دفعوا على رغم ذلك 14 مليار دولار للولايات المتحدة و3.500 مليار دولار للدول الاخرى، في مقابل مساهمتها، اضافة الى تحمل نفقات القوات الاميركية والسعودية وقوات الحلفاء في المملكة طوال فترة الأزمة. ويورد الأمير خالد احصاءات لكي يوضح حجم المساهمة السعودية بما في ذلك تأمين وجبات الطعام اليومية لثلاثة أرباع مليون عسكري وتأمين مليوني غالون من مياه الشرب يومياً للقوات الاميركية وحدها، و4.5 مليون غالون من الوقود للفيلقين الاميركيين اللذين اشتركا في "عاصفة الصحراء". ونادراً ما يحظى تأمين المعيشة والمساندة والدعم بالاهتمام الكافي في تاريخ أي حروب. لكن الأمير خالد بتكريسه حيزاً لهذا العامل الحاسم في نجاح "عاصفة الصحراء" يجبر القارئ على تغيير نظرته الى المساهمة السعودية في حرب الخليج. اذ ان الحياة في المملكة شهدت تحولاً شاملاً خلال فترة الأزمة. والحقيقة هي أنه لو لم يستثمر السعوديون على ذلك النطاق الهائل في إقامة بنيتهم الاساسية قبل الأزمة لما كان في وسع التحالف ان ينجز ما أنجزه أبداً. أما بالنسبة الى العلاقة مع شوارزكوف فإن الأمير خالد يعتمد الصراحة والصدق. اذ يقول ان شوارزكوف "لم يكن رجلاً يسهل التعامل معه، ولكن التعامل معي أنا لم يكن سهلاً أيضاً". وهكذا كانت النتيجة محبة صادقة بين الرجلين ومشاحنات أيضاً. اذ ان نظرة كل منهما كانت تتفق كلياً مع نظرة الآخر في بعض الأحيان، ولكن يبدو انهما كانا على طرفي نقيض في أحيان أخرى. فالأمير خالد الذي تخرج من الاكاديمية العسكرية البريطانية في ساندهيرست ثم من فورت ليفينويرث وماكسويل كلية الطيران الحربي في الولاياتالمتحدة، كان على معرفة واطلاع على الغرب ومعاييره وقيمه العسكرية الى درجة تفوق كثيراً كل ما كان لدى شوارزكوف من معرفة عن الشرق الأوسط عموماً والسعودية خصوصاً. وفي رواية كل من الجنرالين لأيام طفولتهما ما يوضح بجلاء التباين في تقاليدهما الوطنية. فبينما يعترف شوارزكوف في مذكراته بخلفيته العائلية المشتتة الكئيبة نجد ان الأمير خالد لا يسمح لنفسه بتوجيه أي انتقاد الى أفراد الأسرة المالكة أو التراث السعودي. اذ يحاول عوضاً عن ذلك، ومن اجل تنوير القراء الغربيين، ان يشرح تقاليد الاحترام العائلية لمن يكبرونك سناً، وهي تقاليد يلتزمها جميع أبناء العائلة، والتزام أحكام من هم أكبر منك سناً، حتى ولو كانوا لا يكبرونك سوى ببضعة اشهر. وفي معرض تأمل الأمير لعلاقته مع شوارزكوف يعترف بأنه فوجئ حين اكتشف مدى جهل الجنرال الأميركي بالشرق الأوسط. ويقول الأمير خالد: "بالطبع كان الجنرال شوارزكوف على اطلاع جيد على الجوانب الاستراتيجية والعسكرية للمنطقة. أما شعوب المنطقة والشخصيات الرئيسية في السياسة العربية، والعائلات والعادات والتقاليد وأساليب التعامل مع الحياة واللغة والتاريخ والدين وطريقة الحياة، بل كل تعقيدات العالم العربي فقد كانت غريبة، وغير مألوفة لديه، مثلما هو الحال بالنسبة الى أي اميركي عادي". شكوك ... واساءة تفسير وفي هذا التقويم الذي يعرضه الأمير خالد ما يعتبر تمهيداً لمناقشة عدد من النقاط التي ترد في مذكرات الجنرال الاميركي "المسألة لا تحتاج الى بطل". اذ ان الأمير خالد يثير الشكوك في دقة بعض الاستذكارات والبيانات التي يوردها شوارزكوف وصوابها. ورسالة الأمير خالد هي ان شوارزكوف اساء تفسير بعض العادات في المملكة، مثل القيود المفروضة على الاجانب والتعامل مع المرأة، بهدف انتزاع اعجاب قرائه من خلال بيان المصاعب التي واجهها الجنرال في تعامله مع السعوديين. والواقع ان الأمير خالد يطور في كتابه عدداً من المواضيع المهمة التي تساعد خصوصاً على استنارة القارئ الغربي. اذ يبين كيف كانت السعودية في وضع مكشوف ومعرض للخطر في الأيام الأولى من أزمة الخليج حين كان هناك احتمال بمواصلة صدام حسين زحفه على الساحل الغربي من الخليج في اتجاه الجنوب. ويعترف بأنه حين عرض قواته على الجبهة قبل وصول القوات الاميركية والقوات الغربية الاخرى، وجد "صدمة رهيبة في انتظاري. اذ ان الدفاع عن الحدود الشمالية للمملكة كان خفيفاً جداً". ولدى عودته الى الرياض أبلغ الجنرال جون يوستوك قائد جيش القيادة الاميركية المركزية الذي وصل للتو الى المملكة: "كأننا خضنا الحرب... وخسرنا!". وما ان انتشرت القوات الاميركية بقوة كافية حتى كانت أحلك لحظات الخطر قد مرت، لأن القوات العراقية لم تواصل زحفها بل قررت بدلاً من ذلك حفر الخنادق والتمركز على الجانب الكويتي من الحدود. ومع ذلك فإن الاميركيين، والجنرال شوارزكوف، كانوا، كما يقول الأمير خالد، لا يتحدثون إلا عن هول الخطر العراقي. وأصرت الولاياتالمتحدة على تهويل القوة العسكرية العراقية وتضخيمها، كما أنها رفضت اطلاع السعوديين على معلوماتها الاستخبارية، أو البحث في خططها الحربية حتى شهر تشرين الثاني نوفمبر 1990. على رغم ذلك، يقول الأمير خالد ان خادم الحرمين الشريفين الملك فهد كان خلص الى الاستنتاج منذ البداية بأن القوة ستلزم لاخراج جيش صدام حسين من الكويت، وان المساعدات العسكرية الاميركية والحليفة ستكون امراً ضرورياً لتحقيق ذلك. وهذه نقطة واحدة فقط من نقاط عدة يهدف الأمير خالد الى توضيحها لدحض المفهوم الغربي للمنظور السعودي. اذ يقول ان الملك فهد كان قرر سلفاً قبل وصول وزير الدفاع الاميركي ريتشارد تشيني الى المملكة لاطلاعه على الصور التي التقطتها الأقمار الاصطناعية الاميركية لمواقع القوات العراقية. فقد كان الهم السعودي الأول آنذاك هو طريقة ادارة وصول القوات الغربية ونشرها بطريقة تقلل الى أدنى حد ممكن أي اساءة محتملة الى طريقة الحياة المحافظة في المملكة ومبادئها الاسلامية. أما بالنسبة الى الحرب نفسها فإن الأمير خالد يعتقد بأن الحرب الجوية هي التي قررت الى درجة كبيرة النتيجة النهائية. سيرة ذاتية وفي سياق قصة أزمة الخليج نجد في الكتاب أيضاً قصة حياة الأمير خالد نفسه. فبعدما بدأ بسرد قصة الأيام الأولى للازمة عقب الغزو العراقي يعود بنا السرد الى الوراء ليشرح كيف وصل المؤلف الى مركز قائد القوات المشتركة في الحرب. اذ يروي تفصيلات طفولته وحياته العملية المبكرة ثم ارتقائه الى منصب قائد قوات الطيران السعودي ودوره في تطوير ترتيبات الدفاع السعودية. وفي هذا ما يكشف أموراً كثيرة لسببين: أولاً لأن هذا السرد يعطي فكرة عن الطريقة التي يتم بها إعداد أفراد الأسرة المالكة لأداء واجبهم في نظام الحكم، وثانياً لأنه يقدم وصفاً للإطار الذي اختبر فيه الجانب السعودي أزمة الخليج. ومن خلال رواية الأمير خالد لمسؤولياته في الدفاع الجوي يكشف قصصاً لم تكن معروفة حتى الآن عن سياسة المشتريات العسكرية السعودية. اذ ان الفصل الذي يخصصه للمفاوضات مع الصين من أجل شراء صواريخ "سي.اس.اس 2". يتضمن تفصيلات عن طريقة المحافظة على سرية تلك المفاوضات، كما انه يمثل مساهمة مهمة في السجل التاريخي الذي يسجله الكتاب. وفي ختام هذا الانجاز يقدم الأمير خالد أفكاره ونظرته الى دروس حرب الخليج وبعض المؤشرات لتحقيق أمن الخليج في المستقبل. وهناك نقطتان بالذات في ما يورده تستحقان الاهتمام الخاص لأنهما تعكسان هدفه. اذ يقول ان السياسة كانت مهمة تماماً مثل اهمية القدرات العسكرية في تقرير نتيجة أزمة الخليج. وحين يتناول أمن الخليج على المدى البعيد يحدد الخطوط العامة لنظام من الدفاع الجماعي والتعاون الاقليمي، يضع الدول الاجنبية الصديقة على مبعدة، وليس في صلب تلك الترتيبات في حال ظهور أزمات طارئة كبرى. ان قيمة كتاب الأمير خالد عموماً هو انه يضع القوة العسكرية الاميركية ودور الولاياتالمتحدة في حرب الخليج ضمن اطار سياسي واجتماعي واقتصادي أوسع. * رئيسة برنامج الشرق الأوسط - المعهد الملكي للشؤون الدولية، لندن.