تناول الدكتور حسن حنفي في مقاله السابق "الوسط" العدد 158 النتائج والنهايات لتيار الاصلاح الديني ويعرض في هذا المقال بدايات ونتائج التيار العلمي العلماني. بدأ التيار العلماني تحت صدمة الحداثة. فقد شهد القرن التاسع عشر تقدما علميا واسعا في الاختراعات، من اكتشاف قوة البخار والكهرباء الى ادوات القياس الى شتى نظريات علوم الحياة. وتعرف العرب على هذه المنجزات باتصالهم بالغرب خصوصاً في عصر محمد علي أو قبله بقليل وارساله البعثات التعليمية الى اوروبا. وكانت حملة نابليون على مصر نقطة انطلاق جديد نحو العلم، كما يعبّر عن ذلك الجبرتي في عجائب الاثار واعجاب العلماء ودهشتهم، بل وخوفهم من التجارب الكيميائية التي اجراها علماء الحملة أمامهم، وقد انشأ نابليون الجمعية العلمية المصرية في عام 1798، وأصدر اثناء الحملة كتاب "وصف مصر" في مجلدات عدة وتم الانتهاء منه في عام 1809، وأنشأ المدارس والكليات العلمية في مصر والشام بعد هذا الانفتاح على الحضارة الغربية لتحديث المجتمع وتقوية الجيش، وأرسل البعثات العلمية الى اوروبا واستقدم الاساتذة والعلماء، وتأسست الجمعية الجغرافية الخديوية في عام 1875، ومدرسة الطب في دمشق في عام 1901، اضافة الى المدارس والكليات العلمية داخل الارساليات التبشيرية مثل الكلية السورية الانجيلية الجامعة الأميركية في بيروت. وازدهر التأليف العلمي، وانشئت مجلة "المقتطف" عام 1876 التي اصدرها في بيروت يعقوب صروف ونمر فارس وفيها ابواب ثابتة للزراعة والصناعة والهندسة والطب والرياضة مع اهتمام خاص بالنباتات والحيوان والحشرات والصناعات في العالم العربي، كما نشرت مجلة "الهلال" التي أسسها جرجي زيدان في القاهرة عام 1882 كثيرا من الاخبار العلمية، وكذلك مجلة "الشمس" في دمشق عام 1900، ومجلة "العرفان" لامر عارف الزيني في صيدا في لبنان ومجلة "الضياء" القاهرية لابراهيم اليازجي عام 1898 و"الزهور" لأنطوان الجميل عام 1910 ومجلة "العلم" في العراق لمحمد علي الشهرستاني. وقد بلغ عدد المجلات والصحف العلمية في مصر عام 1910 31 صحيفة ومجلة، منها 17 باللغة العربية والباقي باللغات الاوروبية. وتمت ترجمة امهات الكتب في الطب والعلوم الطبيعية والزراعة والرياضيات. ثم اصبح هذا تيارا يقوده الصحافيون اللبنانيون في مصر، امثال يعقوب صروف وفارس نمر وجرجي زيدان وتحول الى حركة فلسفية بزعامة الدكتور شبلي الشميل وفرح انطون ونقولا حداد وسلامة موسى. ويعتبر هذا التيار ان العلم هو الاساس، وان الدين ذاته يمكن دراسته كظاهرة علمية تاريخية او اجتماعية او سياسية او اقتصادية او قانونية أو ثقافية. وأدخل شبلي الشميل مذهب دارون في النشوء والارتقاء الى العالم العربي عن طريق الترجمات والمقالات التي كان ينشرها في مجلة "المقتطف". فالعلم هو خير وسيلة لاكتشاف قوانين الكون وسر الطبيعة هو الدين الجديد، طريق الخلاص، العلم رؤية للعالم اسسها هكسلي وسبنسر في انكلترا وهيغل وفشنر في المانيا، والعلوم الطبيعية هي ام العلوم واساس التربية ونبراس الحياة في اللغة والسياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون والآداب. نقد التعليم الديني التقليدي ودعا الى تحويل مدرسة الحقوق الى مدرسة للكيمياء والطبيعة وتدريس العلوم الطبيعية ابتداء من المدارس الابتدائية . وقد انتهى هذا التيار في الجيل الحالي إلى عدة أنماط تمثل تراجعا أو اعتدالا عن منطلقات الرواد وبداياتهم الأولى بحيث يكون أكثر تأقلما مع ثقافة الأغلبية، ويبدو ذلك عند زكي نجيب محمود، ومصطفى محمود، وإسماعيل مظهر، وفؤاد زكريا. فقد بدأ زكي نجيب محمود بعرض الوضعية المنطقية في المنطق الموضعي، الجزء الأول في 1951 والثاني عن فلسفة العلم في 1961 متبنيا موقفا من الميتافيزيقا في "خرافة الميتافيزيقا"، ونظريتها في المعرفة ومطبقا إياها في الفلسفة في "نحو فلسفة علمية" وشارحا وعارضا لبعض أعلامها مثل برتراند رسل ومصادرها في ديفيد هيوم، ومترجما نصوصا لتدعيم الاتجاه مثل "الفلسفة بنظرة علمية" لرسل و"منطق نظرية البحث" لجون ديوي، وقد بدأت هذه المرحلة أثناء وجود زكي نجيب محمود في إنكلترا للدراسة وبعد استماعه إلى محاضرة عن الوضعية المنطقية ألقاها الفرداير بمناسبة تعيينه رئيسا لقسم الفلسفة بالكلية الجامعية بجامعة لندن، إذ وجد الأستاذ في هذه الفلسفة ما يناسب اتجاهه العلمي التجريبي، إذ يقول "ما أن تلقيت الفكرة الأساسية في هذا الاتجاه حتى أحسست بقوة أنني خلقت لهذه الوجهة من النظر". وقد ارتبطت الوضعية المنطقية بموقف عام من الغرب يقوم على الإعجاب به كما يبدو في "شروق من الغرب"، "حياة الفكر في العالم الجديد"، "أيام في أميركا"، "عن الحرية أتحدث" وترجمة كتاب "آثرت الحرية" لكرافتشنكو، فالغرب هو مهد العلم الطبيعي والحرية الفردية، ويقول الأستاذ انه منذ عودته من دراسته في الخارج في 1947 تبلور فكره في شعبتين، إحداهما: الأخذ بروح الثقافة الأوروبية المعاصرة وخاصة من حيث نظرتها إلى الإنسان المفرد، والثانية: هي وجوب الدعوة إلى التجريبية العلمية لأنها إذا كانت مجرد اتجاه فلسفي هناك، فهي بالنسبة للأمة العربية ضرورة، وكان هذا الاتجاه في عرض آثار الفلسفة الغربية قديما عند اليونان أو حديثا قد بدأ منذ الثلاثينات في "قصة الفلسفة اليونانية"، "وقصة الفلسفة الحديثة"، وقد طبق الأستاذ المنهج التحليلي الذي يعتمد على الوضعية المنطقية في نقد الواقع العربي المعاصر في "الثورة على الأبواب" والذي أصبح فيما بعد "الكوميديا الأرضية"، وفي "مجتمع جديد أو الكارثة"، وفي ترجمة "الأغنياء والفقراء" لوليز، وتتضمن نقد الحياة الاجتماعية والثقافية المصرية وتحليل أساليبها وإبراز بعض الصور السلبية فيها، ونقد وتحليل أنواع السلوك والتوجهات غير العلمية في التفكير. ويمتد النقد إلى الحياة الفنية من أجل وضع لنظراته في النقد الفني عامة والنقد الأدبي خاصة، وقد بدأ ذلك بعرض "قصة الأدب في العالم" والكتابة عن شكسبير وجمع عدة مقالات نقدية في "جنة العبيط"، و"أرض الأحلام"، "وفلسفة وفن"، وفي "فلسفة النقد" و"مع الشعراء"، وتحول ذلك لديه إلى فلسفة في الحضارة، الشرق الفنان والغرب العالم، ونحن في العالم العربي نجمع بين الفن والعلم، بين الوجدان والعقل. كما طبق "نهج نفسه في الحياة الثقافية، والواقع الثقافي ومواجهة العصر في هموم المثقفين، هذا العصر وثقافته، "ثقافتنا في مواجهة العصر"، "عربي بين ثقافتين" "في حياتنا العقلية"، "من زاوية فلسفية" من أجل زيادة الوعي بالثقافة من وجهة نظر نقدية كما هي الحال في "وجهة نظر" "قصاصات الزجاج"، "أفكار ومواقف" "بذور وجذور"، نظرا للغموض الذي شاع في حياتنا الثقافية. ولكن التطبيق الأهم والأطول كان في السبعينات والثمانينات مرحلة الاهتمام بالتراث ومحاولة البحث عن نقاط الالتقاء بين جوهر التراث وجوهر العصر بحثا عن صيغة تجمع الطرفين في وعاء ثقافي واحد، ويبدو ذلك في "تجديد الفكر العربي"، "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري"، "قيم من التراث، رؤية إسلامية"، "في تحديث الثقافة العربية"، من أجل إيجاد نوع من التوازن بين كون الإنسان عربيا بتراثه وكونه معاصرا بانتمائه إلى العصر بعلومه وثقافته. وهذا يستلزم تحليل التراث واستخلاص ما فيه من قيم ومبادئ ومثل تعبر عن الشخصية العربية وثقافتها، وكذلك تحليل أهم سمات العصر حتى تتسنى المزاوجة بينهما في محاولة لتجديد الإنسان العربي فكرا وسلوكا بحيث يكون عربيا بتراثه وأصالته ومعاصرا بتجاوبه وتفاعله مع عصره بما فيه من علم وفكر. لقد استطاع زكي نجيب محمود تقديم تيار رئيسي في الفكر الغربي لم يكن معروفا من قبل وهو الوضعية المنطقية بلغة سهلة ومفهومة من أجل خلق رؤية علمية للعالم بعيدا عن الإنشائية والخطابية، كما بين ضرورة الربط بين الفلسفة والعلم حتى يصبح تفكيرنا علميا عن طريق استخدام المنهج التحليلي والاهتمام بفلسفة العلم ونقد التفكير اللاعلمي، ولا يعني ذلك إهمال بعض الجوانب الأخرى في حياتنا الثقافية مثل الفن والاجتماع وتحليل مقومات الشخصية العربية حتى أصبح مدرسة فكرية عربية معاصرة. ومع ذلك يظل التأرجح باديا بين العلم والتراث، بين ثقافة الغرب والتراث القديم، بل إن الثلاثينات كانت تكشف عن بعض، ثم عادت الثلاثينات في السبعينات والثمانينات موضوعا للتحليل العلمي والفكر النقدي. وقد حاول في "جابر بن حيان" اكتشاف أصول المنهج التجريبي في العلم العربي بناء على تنبيه أحد الطلاب، ومع ذلك ظلت ثنائية العلم والفن، العلم والدين، تجعل العلم في ميدان العمل العام، وهذا بداية التراجع عن النظرة العلمية الشاملة. وقد بدأ مصطفى محمود عالما في النظرة إلى الحياة وماركسيا في التوجه الاجتماعي ثم تراجع بسرعة وحاول الجمع بين الاثنين الدين والعلم في برامج "العلم والإيمان"، يأخذ العلم من الغرب ويفسره تفسيرا دينيا إيمانيا حتى يبدو العلم متفقا مع الدين، لقد سخر الله الغرب العالم لخدمة المسلمين المتدينين وبالتالي يكون الله قد أعطاهم العلم وحده وكرمنا نحن بالعلم والإيمان. ويعتبر هذا الموقف تراجعا عن الموقف العلمي عند الرواد الأوائل وعند زكي نجيب محمود، فالعلم هنا جاهز منقول لا يبدع فيه العقل العربي شيئا، وبتأويل آخر قد يبدو مخالفان لا يختار من العلم إلا ما أمكن تأويله، ومن النظريات إلا ما أمكن أسلمتها دون نظريات أخرى تستعصي على التطويع، وإذا كان الدين قد حوى العلم فلماذا لم يكتشفه المسلمون قبل الأوروبيين منتظرين أن يقوم بذلك غيرهم فينقلونه؟ إن هذا الموقف يعطي المؤمنين إحساسا بالرضا، ويجعل مهمتهم مجرد النقل، نقل علم الغرب، وليس إبداع العمل، ويبقى على العقلية القديمة بل ويعطيها الشرعية بأنها تتفق مع العلم الحديث، وينتهي أيضا هذا النموذج إلى التجاور، تجاور العلم والإيمان والى نفس الثنائية التي وقع فيها النمط الأول. وهناك نمط ثالث يستمر في العلم الطبيعي، وفي نظرية التطور، ويطبقها على اللغة والأدب والثقافة العربية ثم ينقلب فجأة رأسا على عقب دون تعليق أو تطوير أو تجاور، كما هو الحال في النمطين السابقين ويتحول من العلم ودارون إلى "الإسلام أبدا"، كما حدث ذلك عند إسماعيل مظهر في أواخر حياته، فالطرق يؤدي إلى الطرف الأخر، والنقيض يحيل إلى النقيض، وثقافة الأقلية تنقلب إلى ثقافة الأغلبية، والعلمانية تتحول إلى سلفية، والحقيقة أن الموقف في كلتا الحالتين. وقد ينشأ نمط رابع يقوم على تبني العلم الغربي كلية ومعاداة التراث القديم كلية مع سبق الإصرار، إعطاء الآخر كل شيء وسلب القديم كل شيء كما حدث عند فؤاد زكريا. ونظرا لانحسار التيار العلمي العلماني للأقلية عن الثقافة الشعبية العامة للأغلبية ضعف تأثيره في الحياة العامة التي سادتها الخرافة، وكثرت الكتب عن عالم الجن والملائكة، وتم تفسير كل خطأ سلوكي بنوازع الشياطين، وكل ما يحدث بنا من مصائب فمن الله، وغاب الفرق بين التعبيرات الشعبية وبين التحليل العلمي في إدارة الأزمات، وتجنب الكوارث، والتخطيط للمستقبل. وأحيانا يتم عرض العلم الغربي، فننقله فيقوم بالوظيفة نفسها التي يقوم بها السحر وتلعبه الخرافة، مع أن العلم لا ينقل بل يعبر عن تصور علمي للعالم يقوم على استقلال العقل والطبيعة، ينبع من داخل الثقافة كتطور طبيعي لها، وكأن العلم للصناعة وليس تصورا للحياة، فإذا ما غاب العالم غاب العلم، وإذا هاجر العالم استبدل به عالم غيره من أية بقعة من الأرض يقوم بدوره. فالعلم لا وطن له، والثقافة الغربية ثقافة عالمية لا مكان فيها لخصوصية الثقافات. وهذا كله نقص في تحليل التجربة الأوروبية في العلم، فتصورها كأنها الثمار دون البذور، والنتائج دون المقدمات، الحصاد دون الغرس، فالعلم الأوروبي في القرن العشرين، إنما كان تطورا طبيعيا لعصور خلت منذ الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر.