صفحة كاملة من تاريخ الفكر العربي تطوى بانطفاء الفيلسوف المصري زكي نجيب محمود الذي توفي في القاهرة قبل أسبوعين، عن عمر يناهز الثمانية والثمانين. فالراحل هو أحد آخر المعلمين الكبار في جيل ترعرع وسط مناخات النهضة الفكرية التي أعقبت ثورة 1919، وعرف ذروة عطائه في السبعينات وما تلاها... جيل سعى في أعماله واجتهاداته الى المزج بين مكتسبات الحضارة الغربية واستيحاء روح الحضارة العربية الاسلامية وجوهرها. ولعله أشهر أبناء هذا الجيل، وأعلاهم صوتاً وأقلهم خوضاً في مجال السياسة. نشأ زكي نجيب محمود في فترة تميّزت بالخصوبة، وشهدت ثورات فكرية متلاحقة بفعل اكتشاف ونقل أعمال أساسية في الحركة الفكرية خلال القرن العشرين. ففي العشرينات من هذا القرن صدرت مجموعة من المؤلفات والترجمات التي أثرت في تكوينه النظري: كتاب "الديوان" الذي يقرأ فيه العقاد أشعار شوقي والمازني مؤسساً لنظرية جديدة في النقد وفي فهم حقيقة الشعر، كتاب محمد حسنين هيكل "جان جاك روسو" وهو دعوة الى الحرية، ثم كتاب "التطور" لسلامة موسى وكتاب "الاسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرزاق... وغيرها من المؤلفات التي ساهمت في تحديد المحاور التي سيؤسس انطلاقاً منها لنهجه الفلسفي. وكانت القضية المحورية التي شغلت المفكر المصري الراحل الذي طالما رفض أن يصنف كفيلسوف، مكتفياً باعتبار نفسه أستاذ فلسفة، هي ايجاد صيغة تتسع للمزج بين "أصولنا الموروثة وثقافة العصر الذي نعيش فيه"، حسب تعبيره في واحد من آخر أحاديثه الصحافية أدلى به الى "الاهرام" القاهرية. هذا التوجه عبر عنه للمرّة الاولى في الستينات وأوائل السبعينات: "حين دخلت علينا الثقافة الاوروبية - يقول - انقسمنا الى ثلاث جماعات. أكثرية هي الجماهير تتمسك بالموروث، وأقلية تقول بالتبني الكامل للنمط الغربي، وفئة ثالثة تجمع بين النقيضين، وفي صفوفها نجد الرواد الحقيقيين". تخرج نجيب محمود من "مدرسة المعلمين العليا" في القاهرة عام 1930، ثم حصل على درجة في الفلسفة من جامعة لندن عام 1944 أتبعها بدكتوراه من الجامعة نفسها عام 1947. في الخمسينات تبنّى نظرية "الوضعية الجديدة" التي ترى أن الحواس هي مصدر المعرفة الوحيد، وأنها لا تدرك سوى أحداث منعزلة ومادية، متوقفاً عند كون أنصار هذه النظرية يتميزون عن التجريبيين معتمدي المنطلق نفسه، بقولهم إن قوانين المنطق قبْلية ومستقلة عن التجربة. في الستينات بدأ محمود يعمق اهتمامه بالمجتمع العربي، مرسخاً مشروعه في التوفيق بين التراث العربي والحضارة الغربية. وهذه الحقبة شهدت ظهور ثلاثة من أهم كتبه: "تجديد الفكر العربي"، "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري" و"ثقافتنا في مواجهة العصر". واعتبر المفكر الراحل العقيدة شأناً فردياً: "المحدد في العقيدة هو الفرد لا الدولة، الدول تتغير والعقيدة باقية". وسار بذلك في طريق وسط بين اثنين من أشهر أقرانه، عبد الحمن بدوي الاقرب الى الوجودية وهو مقيم في باريس حيث كرس حياته للعمل الاكاديمي المحض، وبين الراحل لويس عوض الذي اختار المنهج الماركسي وخاض السياسة وسجن بسببها. بعد حصوله على الدكتوراه، تولّى زكي نجيب محمود رئاسة تحرير مجلة "الثقافة" 1948 - 1951، كما عمل استاذاً زائراً في جامعتي كولومبيا وواشنطن، ثم مستشاراً ثقافياً في السفارة المصرية في الولاياتالمتحدة. ابتداء من العام 1962، تولّى منصبه كأستاذ فلسفة في جامعة القاهرة، وعاد بعد ثلاث سنوات الى المزج بين العملين الاكاديمي والصحافي حين تولّى رئاسة تحرير "مجلة الفكر المعاصر" واستمر ذلك حتّى سفره الى الكويت 1970. وعاد بعدها ليعمل كاتباً في "الاهرام 1975. اعتبر البعض أن زكي نجيب محمود تراجع عن اجتهاداته خلال السنوات الاخيرة، بسبب مواقفه النقدية ازاء المتأثرين بالفكر الغربي بطرق عشوائية. لكن الراحل بقي - كما تشهد كتبه الاخيرة ك "تغريدة البجع" وكل تصريحاته الحديثة - عند المواقف والاضافات الفلسفية التي جعلت محمود أمين العالم ذات يوم يعتبره "مدرسة فلسفية". في آخر لقاء عام له في القاهرة، عاد نجيب محمود الى نقد انجازات العقل العربي خلال القرن العشرين. كان ذلك في "دار الاوبرا" القاهرية يوم 4 آذار مارس 1992. وأمام دهشة واعجاب تلامذته وزملائه المتحلقين حوله، أكد أنه كان ليكتب الآن ما كتبه في الماضي، مهما كانت المخاطر التي سيواجهها! وبعد اعتزاله الكتابة بسنتين، جاء المرض الخبيث ليضع حدّاً لحياة خصبة بالعطاء، بدأها عام 1935 بكتاب "قصة الفلسفة اليونانية" وكان آخر العنقود "حصاد السنين" المنشور عام 1991. ويترك الراحل بالاضافة الى مؤلفاته 56 كتاباً، مكتبة غنية تضم ما يقارب الخمسين ألف كتاب في مختلف مجالات العلم والفكر والمعرفة. يترك زكي نجيب محمود أيضاً للاجيال المقبلة مسيرة فكرية غنية، أشبه بمنارة في الليل المحيط... مسيرة أفناها في خوض المعارك ضد من "يتناوبون على عقل الامة العربية بالعبث والجدل"، منتصراً للعلم والايمان الحقيقي، في مواجهة الجهل والخرافة والتخلف.