"الموسيقى العربية - الأندلسية" عنوان كتاب مرجعي للعالم الموسيقي، والمختص بالموسيقى العربية كريستيان بوخه، صدر بالفرنسية عن منشورات "أكت سود" ومدينة الموسيقى في باريس. يتناول الكتاب تاريخ الموسيقى الأندلسية، ويقدم تحليلاً وصفياً للنوبات الاندلسية كما هي عليه اليوم في بلدان المغرب العربي. وترافق الكتاب اسطوانة لايزر تتضمن مجموعة تسجيلات قديمة للموسيقى الاندلسية، يعود معظمها إلى 1910 و1926، وهي وثائق نادرة جداً. ويتميز كتاب "الموسيقى العربية - الأندلسية" بدقة في تقديم المعلومات والتحليل والمقارنة. كما يرتكز في معلوماته التاريخية على مخطوطة اللغوي التونسي التيفاشي "الطرائق والالحان الموسيقية في افريقيا والأندلس". "الوسط" التقت كريستيان بوخه في باريس، وكان هذا الحوار. * كيف جاء اهتمامك بالموسيقى العربية، أنت المتحدر من عائلة نمساوية الاصل، حتى اصبحت فيها من أهل الاختصاص؟ - هذه مسألة تأملت فيها مطولاً ولا تزال سراً غامضاً. والدي وأجدادي نمساويون، وجداتي ايطاليات، ووالدتي فرنسية. في عائلتي كنا نتكلم الفرنسية والايطالية فقط، ولم نكن نتكلم العربية ابداً إلا خارج المنزل وخارج الاطار العائلي. ترعرعت على حب الموسيقى الكلاسيكية الغربية، ودرستها في حلب تماماً كما تدرس هنا في الغرب، وكنت أكره الموسيقى العربية، ولا ادري كيف انقلب الوضع. جد والدي الذي جاء من النمسا في القرن التاسع عشر كان يهوى عزف الكمان، وكان ينظم رباعيات مع موسيقيين هواة آخرين، يلتقون في داره مساء لعزف احدث المؤلفات الموسيقية التي كانت ترسل اليهم من اوروبا. اما والدي فكان حلمه ان يصبح مغني أوبرا، فجدتي لأبي كانت ايطالية. لكن لم يمكن يعقل في بداية القرن، وخصوصاً في حلب، ان يتحول ابن عائلة محترمة إلى الغناء. لكنني كنت احياناً اذهب مع مربيتي الارمنية إلى احتفالات وأعراس ارمنية، وهناك استمعت إلى الاغاني الارمنية التي اثرت فيّ كثيراً. ولا اعرف كيف بدأت الاستماع فجأة إلى الموسيقى العربية. كنت لا اطيق معظم ما يذاع، فرحت أبحث عن الجميل النادر. هكذا تعرفت عام 1965 في لبنان على مطر محمد، هذا الفنان البدوي الذي يعزف البزق، وكان يؤدي ويعزف موسيقى لا يقدّر قيمتها احد، موسيقى اصيلة ورفيعة اثرت فيّ كثيراً. منذ ذلك الحين دخلت في هذا العالم، وذهبت إلى مركز الموسيقى التقليدية في برلين حيث امضيت اربع سنوات درست خلالها وطورت علمياً معرفتي بالموسيقى العربية. * في كتابك "الموسيقى العربية - الأندلسية" تتحدث عن اختلاف كبير بين الموسيقى "الكلاسيكية" في المشرق ونظيرتها في المغرب، اي الموسيقى الأندلسية. - هذا ما انتبه اليه الموسيقيون والعلماء اثناء "مؤتمر القاهرة" الشهير 1932. الموسيقى الأندلسية مبنية على السلم الدياتوني، ولا تعرف ربع الفاصلة التي تميز الموسيقى الشرقية عن غيرها. فالعرب في الأندلس وجدوا انفسهم في بيئة تؤلف وتنتج موسيقى على السلم الدياتوني المتبع في الغرب. وهذا لا يعني ان العرب نقلوا موسيقاهم عن الاسبان، لكنهم ألفوا النوبة بنوها انطلاقاً مما هو موجود. وعندما غادروا الاندلس وتوجهوا إلى المغرب والجزائروتونس، حافظوا على هذا السلم، علماً انهم اضافوا او غيروا اشياء كثيرة في هذه الموسيقى. فما نسمعه اليوم لا علاقة له بما كان يُسمع في قرطبة. لكن بإمكاننا ان نقول ان هذه الموسيقى الأندلسية هي اكثر نقاوة او اصالة في المغرب مما هي عليه في الجزائر. اما في تونس فتغيرت قليلاً، لأن تونس تتطلع إلى الشرق والغرب معاً، فقد ادخل التونسيون ربع الفاصلة في المألوف، ما يجعله شرقي الرنين. لا اقصد ابداً القول ان لموسيقى الآلة في المغرب او النوبة في الجزائر نبرة غربية. ان لها، على العكس، طابعاً مستقلاً. وعندما ادخل الجزائريون البيانو إلى جوقات النوبة قامت القيامة، لكن البيانو لا يغير اي شيء في النوبة، لأنه يتبع السلم نفسه والبنية ذاتها. * هل طرأت تأثيرات اخرى على النوبة الاندلسية؟ - ظهرت لدى المغاربيين، في السنوات الاخيرة، رغبة في الاقتراب من المشارقة لأسباب قومية او سياسية، فبدأوا بإدخال بعض المواويل القائمة على المقامات المشرقية رست، حجاز، بياتي، الخ.... لم تؤثر هذه المواويل على بنية النوبة القائمة على الغناء الجماعي، اذ يتوقف الجميع عن الغناء والعزف ويطلع مغن منفرد بالموال الشرقي. ويجب ألا ننسى ان الموسيقى الأندلسية ليست الموسيقى الوحيدة الموجودة في المغرب العربي، فهي موسيقى المدن. اما موسيقى الأرياف فتعتمد ربع الفاصلة مثل الموسيقى المشرقية. ولا بد من الاشارة إلى ظاهرة اخرى تتعلق باللغة: هناك عرف في الموسيقى العربية يقضي بضرورة وضوح النص المغنى لكي يستطيع الجميع فهم الكلمات والمعنى. في حين ان الكلمات تبدو غير واضحة في الموسيقى الأندلسية، علماً ان موشحاتها مكتوبة اساساً بالفصحى. لكن تناقل هذا التراث شفهياً عبر الأجيال، على يد موسيقيين ومغنين غير متمكنين من الفصحى، سهّل تسرب اخطاء لغوية عديدة. ومن جهة ثانية، دخلت النوبة قصائد باللهجة المحلية، فأحياناً ننتقل ضمن النوبة الواحدة من الموشح إلى "البروال"، وهي قصيدة شعبية. وهناك رأيان اليوم حول هذا الموضوع: بعضهم يدعو للعودة إلى لغة صحيحة صافية، وبعضهم يقول بابقاء الامور على حالها، لأن هذه التغييرات لم تحصل بين ليلة وضحاها، بل على مدى قرون. واذا غيرنا اي شيء فسوف يتشوش المغنون والنتيجة تكون سيئة. وأنا شخصياً، من انصار الرأي الثاني. * وهل أثرت النوبة على الموسيقى في الغرب؟ - قد يكون لتعاقب المقطوعات اثر على الموسيقى الغربية، وعلى مفهوم ال "سويت" Suite الذي ظهر للمرة الاولى في باريس تحديداً في القرن السادس عشر. فما هي النوبة؟ انها سلسلة من المقطوعات الموسيقية القصيرة، لها قاسم مشترك هو "الطبع" ما يعادل المقام في المشرق، وتعزف واحدة تلو الاخرى. ففي نوبة "رمل المية"، القاسم المشترك بين مجموعة القطع التي تؤلف هذه النوبة هو طبعها واسمه "رمل المية". والسؤال الحقيقي هو كيف جاءت فكرة التجميع؟ هذه مشكلة نواجهها اليوم. فهناك التفسير الاجتماعي والتاريخي الذي يقول ان العرب بعد مغادرة الاندلس قرروا تجميع هذه المقطوعات الصغيرة خشية نسيانها وفقدانها. لكن هذا التفسير غير مقنع، اذ لماذا لم تتكرر الظاهرة نفسها في حالات مشابهة شهدت غزو بلد ونزوح اهله؟ انا ميال لتفسير تقني وعملي له علاقة بدوزنة الآلات. فعندما تعزف مقطوعة في طبع معين، يجب اعادة دوزنة الآلات قبل الانتقال إلى مقطوعة ثانية في طبع ثان. فمن اجل اختصار الوقت وتفادي التوقف في كل مرة، تم جمع المقطوعات حسب طابعها. واللافت في ذلك ان النوبة هي المثال الاول في تاريخ الموسيقى لتوالي المقطوعات ضمن وحدة. هذا المبدأ ظهر في الغرب في وقت لاحق، في القرن السادس عشر. وقد غادر العرب الأندلس في القرن الخامس عشر. هل كانت النوبة موجودة في حينها؟ لا بد أن شيئاً ما حصل في اسبانيا، وان فكرة التسلسل تبلورت في الأندلس. علماً ان هذه الفكرة كانت موجودة في بغداد. ففي "كتاب الاغاني" للأصفهاني، نقرأ ان الموسيقي انتهى من عزف المقطوعة الاولى وانتقل مباشرة إلى المقطوعة الثانية. طبعاً في النوبة تسع حركات، لكن فكرة التسلسل موجودة في الكتابات العربية منذ القرن العاشر. * ما الفرق بين الموشح المشرقي والنوبة؟ - على الصعيد الموسيقي، الموشح كما نعرفه في الشرق الاوسط يختلف تماماً عن النوبة وله بنية اخرى. عندما نستمع إلى موشح شرقي، نتعرف اليه مباشرة. اما في المغرب، فلا يمكن تمييز الموشح لأنه شبيه بجميع اشكال النوبة، يشبه الزجل والبروال والشغل، كل هذه الاشكال الصغيرة التي دخلت إلى النوبة. حضرت اخيراً في لبنان مؤتمراً حول الموشح، وطرح البعض مسألة اصل الموشح، وقدموا فرضية مبدئياً، لكن ليس هناك اي برهان، لكن في سورية ولبنان كانت التراتيل تؤدى منذ زمن طويل، فربما عندما وصل الموشح شعراً اليهم طوّعوه وغنوه بأسلوب التراتيل نفسه. ربما لهذا السبب يحتل الموشح هذه المكانة الهامة في سورية. والمشكلة اليوم ان الجيل الجديد لا يهتم بالموشح ولا يريد تعلمه. فهناك موشحات في غاية الصعوبة وتعلمها يتطلب سنوات عديدة. لكن بعض الاساتذة يشكو من ان طلبة اليوم يتوقفون عن الدراسة بعد ثلاثة اشهر ويؤسسون فرقتهم الخاصة. اعتماد مخطوطة التيفاشي * نلاحظ لدى قراءة كتابك انك شديد الحذر، لا تطلق النظريات الا بتحفظ شديد وبعد تقديم البراهين. كما انك تعطي اهمية كبيرة لمخطوطة التيفاشي. - حتى الآن كانت جميع الابحاث والآراء تستند إلى مخطوطة المقري الذي جعل من الأندلس بلداً اسطورياً، ومن زرياب كائناً استثنائياً يملك جميع المواهب وتنسب اليه اهم الانجازات الموسيقية في الاندلس. مع ان ابن عبد ربه الذي ولد في قرطبة بعد وفاة زرياب ببضع سنوات، يتكلم عن هذا الاخير بوصفه موسيقياً عادياً. ما يقوله المقري جميل جداً، الا انه كتب في القرن السابع عشر عن القرن التاسع، من دون ان يشير ابداً إلى مراجعه. المؤلفون العرب يشيرون دائماً إلى مراجعهم ويلجأون إلى اسلوب الاسناد، خصوصاً اهل الأندلس الذين سعوا دائماً - بحكم بعدهم عن المشرق - إلى التحقق من صحة المعلومات. اكتشفت مخطوطة التيفاشي الذي عاش في القرن الثالث عشر، منذ ثلاثين عاماً. وهي مخطوطة تونسية طبع قسم منها في بيروت، اعتمدت عليها في المعلومات التاريخية الواردة في كتابي لأن مؤلفها منطقي ويلجأ إلى الاسناد. ثم ان التيفاشي عاش في تونس. لم يذهب إلى الأندلس، لكنه جمع الاخبار واهتم بكل ما كان يحصل هناك. كما اهتم بأخبار المشرق، وعاش فترة بين القاهرةوتونس. وكان ابن منظور الذي وضع لسان العرب، من تلامذته. وأنا اوافقه عندما يقول ان الاشياء تطورت ببطء، وان الغناء الاول في الاندلس هو الحداء، اي غناء الجمّال لتشجيع جمله. فلما سئم اهل الاندلس من الحداء، أتوا بموسيقيين من المدينةالمنورة كانوا يملكون غناء مجهولاً لديهم، اظن انه الصوت فهو الغناء الوحيد الذي كان يعرف في القرنين التاسع والعاشر في بغداد. فرح الاندلسيون بالصوت ونسوا الحداء. وهنا يدخل زرياب، وهو ايضاً كما يقول التيفاشي أتى بطريقة جديدة في الغناء، من دون تحديد هذه الطريقة. كنا مع غناء المدينة وها نحن مع طريقة تأتي من بغداد. اظن ان الطريقة البغدادية كانت احدث من اسلوب المدينة. والسبب في ذلك يعود إلى نزاع كبير وقع في بغداد في نهاية القرن التاسع بين التقليديين والمجددين ضد معلمه اسحق الموصلي الذي تزعم التقليديين. وكان زرياب يترأس جماعة المجددين ضد معلمه اسحق الموصلي الذي تزعم التقليديين. الاصفهاني لا يذكر هذا النزاع، بينما المقري يروي عن غيرة اسحق الموصلي الذي اراد قتل زرياب فهرب هذا الاخير إلى الاندلس. وأظن ان النزاع كان فنياً جمالياً. واذا ارتكزنا على الاصفهاني في ما ذكره بشكل عابر عن تسلسل الاصوات، فمن الممكن القول ان التجديد كان في فكرة تسلسل مقطوعتين او ثلاث، وكان ذلك تقدماً عظيماً، وربما هذا هو ما أتى به زرياب إلى الاندلس. قرأت التيفاشي مراراً وتأملت في كل جملة واردة فيه. لم ينشر كل المخطوط لأنه لا يقرأ، فقد خربه الزمن. والصفحات القليلة المطبوعة هي حول الموسيقى. وهناك قسم حول العود، ارجو ان يحقق ويتم نشره كي نعرف المزيد. * في كتابك تتحدث عن نظم موسيقية يعتبرها البعض مغلقة كالنوبة الأندلسية، وأخرى لا تزال مفتوحة. فما هي امكانية تأليف موسيقى تستوحي النوبة او الموشح؟ وهل تعتقد بوجوب اتباع مثال قديم من اجل احترام التراث؟ - هذه مسألة تواجهنا يومياً. على صعيد الموسيقى التراثية الشعبية، كل مرة التقيت فيها بفنان يعزف بجودة ألحاناً وأغاني قديمة وقلت له ان يحافظ على هذه الثروة التي يملكها وألا يتجه نحو التجديد، راح كلامي سدى. فاجمالاً لا يأخذ الموسيقيون بمثل هذه النصائح، ويذهبون نحو آخر تقليعة. وخلال العقدين الاخيرين في شمال افريقيا، ثم تشكيل جوقات كبيرة للموسيقى الاندلسية، تعادل الاوركسترا السمفونية، وألغيت الجوقات الصغيرة المكونة من اربعة او خمسة موسيقيين. مع العلم ان الجوقات الصغيرة تتبع قواعد مختلفة جداً عن قواعد الاوركسترا. ففي الجوقة الصغيرة الحرية عامل اساسي. اما في الاوركسترا الكبيرة فالارتجال مستحيل بسبب كثرة الموسيقيين. كما ان وجود قائد اوركسترا يجعل الموسيقى الاندلسية ثقيلة وبليدة. اما بالنسبة إلى التأليف في روح النوبة، فهناك رأيان في هذا الموضوع: المغاربة يقولون ان لديهم 11 نوبة، ولا يمكن ان تكون هناك نوبة ثانية عشرة. اما في تونس فهناك مؤلفان هما صالح المهدي وخميس ترنان ألفا النوبات، وهذا دليل على ان التأليف ما زال ممكناً. في الشرق الاوسط حيث الموشح هو رمز الصلة بالأندلس، لم يتوقف التأليف. وعندما يسألني البعض عن كيفية تطوير الموشح لتقريبه من الاجيال الجديدة، اجيب انه لا ضرورة لافتعال اي شيء، فسوف يتطور وحده مع الزمن. هذا هو الدرس الذي نتعلمه من الموسيقى التراثية: كل شيء يتغير ويتطور مع الزمن، لكن ببطء كبير. لست ضد الحداثة، انا الذي كبرت مع الموسيقى الغربية وكنت مناصراً للتجارب المعاصرة المتمثلة في اعمال ستوكهاوزن وبيار بوليز. لكن ما اطلبه من التأليف الحديث ان ينطلق من الالهام. فالموهوب والملهم يظل موسيقياً كبيراً مهما كان الاسلوب او النمط الذي سيتبعه. لا يمكن ان نمنع الناس من التأليف والتجديد، لكن قبل التجديد عليهم معرفة ثقافتهم وتراثهم وامتلاكهما. وليس هناك للأسف سوى قلة تعرف التراث الموسيقي العربي بعمق.