طموح الانسان لا حد له، كما تعطشه للاثارة والدهشة وتوقه الى اكتشاف المجهول. وهل غير الماضي الطافح أبداً بالحنين، يصلح وجهة ينشد فيها المرء الفوز بجرعات الدهشة... والحقيقة؟ العودة الى عصور ولت شغلت جهابذة الفيزياء والرياضيات من نيوتن الى انشتاين ثم ستيفن هوكنغ... ولم يحتكرها العلماء، بل أدلى "المهووسون" بالصحون الطائرة بدلوهم، ووجدت الفكرة طريقها الى السينما والقصص العلمي الذي أثرى بها بدءاً من أواخر القرن الماضي. التحقيق الآتي يتوقف عند المحطات الرئيسية في حياة فكرة "العودة الى الماضي" في العلم والفن، والماضي والحاضر. الزمان: ظهر 8 تموز يوليو 1947. المكان: بلدة روزيل في ولاية نيومكسيكو الأميركية. القاعدة العسكرية المحلية تعلن عن "عثور القوى الجوية الأميركية على أحد الصحون الطائرة الغامضة" فتردد محطات الاذاعة في طول الولاياتالمتحدة وعرضها أصداء البيان المثير. وفي غضون دقائق كانت موجات الأثير في أوروبا ازدحمت بأنباء الحدث، على رغم ان الجيش الأميركي لم يلبث أن أكد ان ما وجده الجنود كان في حقيقة الأمر حطام "بالون لاختبار الطقس"! والأرجح أن الأطراف التي ساهمت في "صناعة" هذا الحدث لم تتخيل وقتذاك أنها كانت تشهد ولادة حكاية الصحون الطائرة التي شغلت، وتشغل، فصولها الغريبة أعداد متزايدة من المهتمين و"المهووسين" في أميركا وبريطانيا والدانمارك والسويد واليونان... لكن هؤلاء المتابعين، من علماء وأشخاص عاديين - مثل غلين دينيس شاهد العيان في حادثة روزيل الذي لا يزال يصر أن الحطام الذي رآه كان "يحمل زخرفات شبيهة بتزيينات المراكب الجنائزية الفرعونية" - لا يشكلون سوى أقلية ضئيلة بالمقارنة مع اولئك الذين لا يصدقون أن "سياحاً" يأتون الى الأرض من كواكبهم الغريبة في أي وقت من الأوقات. مركبات من المستقبل البعيد قد يتغير هذا الوضع جذرياً وتسنح الفرصة برواج فرضيات تقول ان هذه الصحون المثيرة للجدل ليست الا "مركبات تحمل الينا كائنات آتية من المستقبل! وعلى رغم غرابته البالغة، لم يعد هذا التفسير مستبعداً تماماً خصوصاً بعدما نالت نظرية "السفر في الزمن" صوب الماضي قدراً لا بأس به من اكسير الحياة الذي جاد به عليها البروفسور ستيفن هوكنغ 53 عاماً أستاذ الرياضيات في جامعة كمبريدج البريطانية. فالعالم الشهير تراجع أخيراً عن رأي ألحّ عليه طيلة سنوات ثلاث، وسلّم أن "امكان السفر في الزمن الى الماضي سيكون احدى النتائج المترتبة على السفر السريع بين النجوم". وهو يتحدث حالياً عن امكان الانطلاق بسرعة تفوق سرعة الضوء، ما يعني ان الانسان قد يقوم برحلة الى الماضي أو الى وجهة تبعد 20 بليون سنة ضوئية. ونظرية السفر في الزمن معقدة للغاية تستند الى فرضية مفادها ان تباطؤ سرعة الجسم الذي يقترب من سرعة الضوء سيؤدي الى عودته الى الوراء زمنياً حالما يسبق الضوء. ويُعتقد أن ذرات تفوق سرعتها سرعة الضوء ترجع الى الماضي باستمرار، الا أنها لا تزال ذرات "خيالية" لم يعثر أحد على احداها حتى الآن. ويفترض العلماء ان الثقوب السوداء، أو المناطق المظلمة في الفضاء التي نشأت عن "موت" نجم ما حيث يفقد الزمان والمكان ماهيتهما، تتصل بعضها ببعض بواسطة "أنفاق" أو "ثقوب حلزونية". وهذه الانفاق أشبه بالممرات التي تربط بين أكوان مختلفة تتمدد بموازاة بعضها. يمكن أن يذهب المسافر عبر الممرات اذن الى عوالم مختلفة. لكن الممرات الحلزونية تفتح وتغلق بسرعة هائلة لا يستطيع معها حتى الضوء ان ينفذ الى الطرف الآخر. ويذكر في هذا السياق أن الوقت الذي يستغرقه دوران عقارب ساعة على الأرض 15 دقيقة يعادل ثانية واحدة في ساعة على متن سفينة فضاء منطلقة بسرعة الضوء. لذا فالمسافر في هذه السفينة يعود الى الأرض وهو أكثر شباباً من أقرانه الذين ودعهم لدى شروعه بالرحلة. وانضمام البروفسور هوكنغ الى معسكر المؤيدين لنظرية السفر الى الماضي أثار اهتماماً واسعاً، لأن العالم يعتبر خليفة اينشتاين والامبراطور غير المتوج للفيزياء في بريطانيا على الأقل. وذاع صيته منذ 1971 حين بدأ ينشر نتائج أبحاثه المتعلقة بفيزياء الثقوب السوداء التي اعتمد في دراستها على "النظرية النسبية" و"نظرية الكم". وعلى رغم اصابته بمرض عصبي عضال أقعده وأفقده القدرة على النطق، تابع هوكنغ فتوحاته العلمية في مجال الفيزياء الفلكية وما يتصل بها من جاذبية وثقوب سوداء كان سباقاً الى ازاحة النقاب عن خصائصها التي ظن سابقوه أنها ستبقى مجهولة يستحيل التعرف اليها. وبعيداً عن الفضاء ومتاعبه استقطب الباحث الفذ الأضواء في أشهر خلت، حين عقد قرانه على ممرضته الخاصة السابقة التي حلت محل زوجته لحوالي 30 سنة وأم ولديه. وأثار هذا الزواج ضجة اعلامية مستنكرة هدأت قبل وصول أنباء الكتاب، الذي قدم له هوكنغ في مداخلة تشير الى أن السفر الى الماضي لم يعد ممكناً وحسب بل صار جديراً باهتمام الحكومة التي ينبغي أن تموّل بحوثاً الغاية منها سبر أغوار هذا السفر الغامض. وهوكنغ الذي فاجأ العالم غير مرة حين شكك في "حقائق" ثابتة، برهن من جديد أنه يتحلى بالشجاعة والواقعية اللتين تسمحان له بإعادة النظر في آرائه والتخلي عنها عند الضرورة. وكان تسبب في خلق شيء من البلبلة في بعض أوساط علماء الفضاء والفيزياء قبل سنتين حين سخر من فكرة السفر عبر الزمن مؤكداً ان "أفضل الأدلة على استحالة هذا السفر هو اننا لم نتعرض الى غزو حشود السياح القادمين من المستقبل". أما الآن فهو يجد نفسه قادراً على رؤية احتمالات القيام برحلة الى الماضي بوضوح عن طريق "مزاوجة نظرية اينشتاين النسبية مع نظرية الكم". جدال عبر التاريخ البحث والجدال بخصوص السفر الى الماضي يرقى الى قرون عدة، اذ بدأ فعلياً في عهد العالم الانكليزي اسحق نيوتن الذي أرست أبحاثه حول الجاذبية الأسس الأولى لعلم الفلك الحديث. ونفى هذا المؤسس الأول امكان العودة الى الماضي نفياً قاطعاً بحجة أن الزمان والمكان ثابتان ولا مجال لتغييرهما. هذا الفهم بقي سائداً حتى قوضه اينشتاين في 1915 عندما أثبت أن الزمن نسبي ومتبدل وفقاً لموقع المراقب وسرعته النسبية. هكذا برهن صاحب النظرية النسبية أن الزمان والمكان يتصلان بعضهما ببعض اتصالاً وثيقاً وأنهما يخضعان معاً الى تأثير الجاذبية، ما جعل التفكير في موضوع السفر الى الماضي أمراً ممكناً على نحو علمي للمرة الأولى. وبعد مساهمة اينشتاين الفريدة التي تمخضت عنها فكرة امكان عكس حركة الزمن ضمن حقول جاذبية هائلة هي الثقوب السوداء، شهد القرن العشرون مزيداً من التطور النظري والعملي في ميادين الفلك. فمن ادوين هابل الذي برهن العام 1923 على وجود مجرات خلف "درب التبانة"، الى يوري غاغارين رائد الفضاء الأول الذي أثبت قدرة البشر على التجول في الفضاء البعيد قبل تسع سنوات من هبوط أول انسان على سطح القمر في 1970. هذه الانجازات، وغيرها، كانت تبدو مجرد أضغاث أحلام لم يكن الانسان العادي على الأقل يصدق انها ممكنة قبل حصولها، ما يعيدنا الى المقدمة الجديدة التي يقول فيها ستيفن هوكنغ بين العلم وقصص الخيال العلمي علاقة وثيقة فكل يأخذ من الآخر ويعطيه، وفيما "قد لا نستطيع حتى الآن أن نذهب الى حيث لم يصل شخص من قبل، يمكننا في أقل اعتبار أن نقوم بهذه الرحلات في أذهاننا". سفر على أجنحة الخيال ولئن كانت الأمثلة على استفادة فن القصص العلمي من كشوفات الفلكيين والفيزيائيين كثيرة، فربما أسدى هو أيضاً للعلم خدمات قليلة لكنها بالغة الأهمية. ومتعاطو هذا الفن لم يكونوا أسرع من العلماء في ارتياد مجاهل الفضاء والماضي والمستقبل على أجنحة الخيال فحسب، بل سبقوهم أيضاً الى تصور أفكار صارت تمثل العمود الفقري في دراسة الفضاء، وربما غيره. فقبل اختراع الطائرات، "صمم" الفرنسي جول فيرن 1828 - 1905 في حكايات القصص العلمي التي كتبها، طائرات ومروحيات جابت شخصياته على متنها العالم. ومع أنه لم يكن مخترعاً أو قبطاناً لأحد المناطيد التي اخترعت في القرن 18 وامتطاها مرة واحدة في حياته، تمكن فيرن من التنبؤ بأشكال وخصائص الطائرات وأسلوب عملها بكثير من الدقة. وعدا انه تخيل سفينة فضائية انطلقت الى القمر من محطة في فلوريدا، فهو وصف في شيء من التفصيل احساس رائد الفضاء بانعدام الوزن. وأحد معاصري فيرن كان مارك توين 1835 - 1910 الذي قدم بعض عيون الأدب الأميركي - خصوصاً الساخر منه - وقع أيضاً قصة "أميركي من كونيكتيكوت في بلاط الملك آرثر 1889 يعود فيها البطل الى زمن مغرق في القدم بعدما يصاب بضربة على رأسه. لكن أهم روايات القصص العلمي التي تستحق صفة الريادة عن جدارة، هي "آلة الزمن" التي نشرها مؤلفها الانكليزي ه. ج. ويلز العام 1895. وتسرد الرواية على لسان بطلها الذي يدعى "المسافر في الزمن" مغامرات هذا الرجل الذي يخترع آلة عجيبة ويمضي فيها باتجاه المستقبل لاكتشاف المصير الذي ستؤول اليه الكائنات البشرية. والبطل الذي يمكث قسراً في السنة 802701 يتعرف على ظروف ذاك العصر قبل أن يتابع رحلته باتجاه أزمنة تالية يجد فيها أشكال حياة ومخلوقات نجت من الابادة التي مارسها الانسان ضد الكائنات الأخرى. وبعد 30 مليون عام يشهد "المسافر في الزمن" أفول العالم الذي تبدأ نهايته حين تبرد الشمس ويذهب دفؤها. والرواية القصيرة التي اختارت المستقبل البعيد في عوالم غريبة أداة يعالج عبرها الحاضر وتسلط الضوء على العاهات الاجتماعية والانسانية، طافحة بالمشاهد المدهشة التي رسم معالمها خيال فذ، على شاكلة وصف البطل مثلاً احساسه خلال سفره عبر الزمن بقوله: "تملكني توقع مرعب أنني مقبل على ارتطام وشيك. ولما ضاعفت السرعة، صار الليل يتلو النهار بسرعة كأنهما معاً جناح أسود خفّاق ... ورأيت الشمس تقفز في السماء، بادئة يوماً جديداً كل دقيقة ... والليل والنهار اندمجا في خط رمادي واحد". ولئن كانت الرواية تنبأت بالمشاكل البيئية التي يعاني منها حالياً الكوكب الأرضي وناسه، فهي تكهنت أيضاً بأمر أشد أهمية هو فكرة البعد الرابع الذي يناظر الزمن في فضاء رباعي الابعاد يمثل الكون حسب النظرية النسبية. وأطلق اينشتاين على هذا الفضاء الرباعي اسم "الزمان - المكان" ما يدل على ترابط الزمان والمكان وتأثيرهما المتبادل ببعضهما البعض، الذي أشار اليه ه. ج. ويلز قبل صاحب النظرية النسبية بسنوات عدة، اذ جعل بطل "آلة الزمن" يقول: "لا فرق بين الزمن وأي من الابعاد الأخرى الثلاثة للفضاء". فكرة لا تقبل التطبيق وبعد "آلة الزمن" الرائدة ازدحمت المكتبات بحكايات القصص العلمي التي تستيقظ فيها شخصيات اثر سبات عميق استغرق سنوات أو قروناً، كما في رواية ه. ج. ويلز الأخرى "عندما يستيقظ النائم". أما في السينما، فالسفر عبر الزمن كان رائجاً على الدوام، اشتهرت أفلام عدة تناولته منها "قفزة كمية" و"عودة الى المستقبل - ثلاثة أجزاء" وغيرهما من الأعمال السينمائية الزاخرة بمغامرات فانتازية ومناظر مدهشة وأدوات بالغة الغرابة. وفكرة انشتاين حول ابطاء الزمن أثناء انطلاق الجسم بسرعة هائلة، وجدت طريقها الى التطبيق في "عودة الى المستقبل" و"تايمكوب" و"كوكب القرود" حيث حملت تشارلتون هيوستون الى المستقبل. لكن الانتقال الى الماضي، هو - بطبيعة الحال - أشد تعقيداً مما صورت هذه الأفلام أو كتب القصص العلمي من "آلة الزمن" وحتى رواية "اتصال" 1986 التي وصف فيها كارل ساغان عملية المرور عبر ثقوب سوداء الى عوالم أخرى. والسفر في الزمن موضع خلاف واسع، اذ يأخذ عليه علماء مآخذ كثيرة فيما يجده آخرون مناسباً فقط لاستقطاب اهتمام الباحثين عن قصة مثيرة. ولا بد من الاشارة الى أن البروفسور هوكنغ اقتنع أخيراً بالامكانية النظرية لهذا السفر فحسب، بينما لا يزال يعتقد أن العودة الفعلية الى الماضي هي فكرة لا تقبل التطبيق على الاطلاق. ويتساءل الدكتور سايمون ميتون المدرس في جامعة كمبريدج عن سبب الضجة الاعلامية التي اثيرت بعد انتشار نبأ مقدمة البروفسور هوكنغ اذ أن العلماء عرفوا "منذ 20 عاماً أن خلق "ثقوب حلزونية" يسمح بعودة ذرات منفردة عبرها الى الماضي ... والمقلق أن التقارير الرائجة لا تفرق غالباً بين ما يمكنك أن تفعله بذرة واحدة، أو بكتل من الذرات مثل السفن الفضائية والأشخاص الذين لا يستطيعون الافادة من الظاهرة والتصرف كما لو كانوا ذرات مستقلة". ومن جهة أخرى، لو سلمنا أن الانسان نجح في اختراع "آلة الزمن" القادرة على المضي به الى أزمنة بالغة القدم، فكيف سيزودها بالطاقة والوقود اللازمين لقطع هذه المسافات الهائلة؟ ويرى البروفسور الأميركي ميشيو كاكو أن معضلة مصدر الطاقة تكاد تجعل اختراع آلة الزمن الجديدة نوعاً من الكابوس أو الحلم المستحيل. وبعيداً عن الاشكالات العلمية البحتة، يعتقد باحثون أن السفر عبر الزمن فرضية لا طائل منهاغير مضيعة الوقت باعتبار أن حصولها المستبعد سيؤدي الى تناقضات مذهلة لا يمكن حلها. ومن أبرز هذه التناقضات ما ينجم عن احداث المسافر الى الماضي تغييراً جذرياً على الظروف التي أدت الى عودته أو حتى وجوده، كأن يقتل جدته قبل زواجها مثلاً أو أن يفرق بين أبويه ويدفع كل منهما الى الارتباط بشخص آخر... وبينما تبدو هذه الانتقادات في محلها، لا يمكن الاحتجاج على غرابة عدم منطقية فكرة العودة الى الماضي. وفي آراء العالم الأميركي ريتشارد فينمان حائز نوبل للفيزياء، التي عبر عنها في محاضرة شهيرة عن "نظرية الكم" ما قد يضعنا بالعزوف عن هذا الاحتجاج إذ قال ان حوالي 12 شخصاً في العالم يفهمون النظرية النسبية، الا أني أقول بثقة ان أحداً لا يفهم ميكانيكا الكم. سأقول لكم كيف تتصرف الطبيعة، لكن لا تحلوا على أنفسكم بالتساؤل: كيف يمكنها الطبيعة أن تكون على هذا النحو ... لا أحد يعرف كيف يمكنها أن تكون هكذا". و"ميكانيكا الكم" المليئة بأفكار تبدو مخالفة تماماً لتجاربنا ومشاهداتنا الواقعية، ما يخلط الأوراق من جديد بين العلم والخيال ويجعلنا ندرك أهمية ملاحظة البروفسور هوكنغ الذي قال: "ما تحتاجه فكرة السفر في الزمن هو انفتاح العقل واستعداده للنظر في احتمالات قد تبدو فانتازية". هذه النصيحة تختصر قصة العلم من ألفها الى يائها، فهو مغامرة جعل المستحيل ممكناً والتنقيب في الغامض المجهول والمتخيل عن حقائق الانسان والكون. واذا نجح علماء هذا العصر في جعل السفر الى الماضي ممكناً، فقد يعود البعض الى أيام أجدادنا القدماء في شرق المتوسط ومصر، الذين هجسوا بفكرة الطيران كما تدل تماثيل آلهتهم المجنحة، ليزف اليهم البشارة أن أحفادهم نجحوا في تحقيق الحلم القديم وتفوقوا على الماهرين الأوائل مرة واحدة على الأقل!