تصفحت قسم "المجلة" في جريدة انكليزية راقية، كعادتي كل يوم جمعة، وفوجئت بفيض، أو طفح، غير مألوف من الجنس والعنف في كل صفحة تقريباً. بعض الجرائد والمجلات متخصص في مثل هذه المواضيع، إلا أن الجريدة التي كنت أقرأها رصينة الى درجة الملل، ومع ذلك فغلاف قسم المجلة فيها ضم عناوين ثلاثة مواضيع، واحد عن العري والعنف في دعاية لجماعة "غرينبيس" أو الخضر، وآخر عن مغنية روك شاذة، والثالث عن تماثيل صغيرة كان يجمعها فرويد، والموضوع يتضمن ايحاءات جنسية واضحة. اما الموضوع الرئيسي فاختيرت له صورة شبه عارية مأخوذة بعدسة مقربة. الموضوع هذا يتحدث عن مصورة أميركية هي ميري ألبرن التي جمعت في كتاب، هو الآن موضوع عرض في غاليري بوني بنروبي في نيويورك، صوراً التقطتها عبر النافذة الخلفية لنادٍ للرجال في وول ستريت، شارع المال والأعمال المشهور. وقرأت ان ألبرن جلست طوال أشهر الشتاء في شقة صديقة لها، وكانت تلتقط الصور لما يجري في تلك الغرفة الخلفية المقابلة لنادٍ يقصده أهم أركان الحياة الاقتصادية الأميركية. ولا حاجة بنا أن نشرح هنا ما صوّرت ألبرن، فقد كان خليطاً من الجنس والمخدرات، وكل غريزة منحطة من ناس يفترض أن يكونوا عصب الحياة العامة في بلادهم، وقمة الأخلاق والآداب والمحافظة. أغرب من ذلك كان التحقيق عن اعلان جديد ل "الخضر" فهؤلاء يفترض أن يكونوا "ضمير" الأمة في كل بلد أوروبي، وهم المدافعون عن البيئة في وجه طغيان الآلة والتقدم المزعوم. ومع ذلك فقد اختار "الخضر" دعاية تحذر من تدمير العالم الرمز فيها امرأة عارية مقتولة تغطيها الدماء، وطفل بريء، عار أيضاً، ينظر اليها مبتسماً سعيداً لأنه لا يفهم ماذا حدث. وأتوقف هنا لأقول أن الجنس والعنف والمخدرات لم تكن موضوع كل مقال أو خبر في قسم "المجلة" فقد كانت هناك تحقيقات عادية كثيرة، لكن هذه ضاعت وسط القبح المنتشر بين صفحة وصفحة. وحتى عندما ورد تحقيق عن عرض لوحات لرسام مشهور في صالة "سادلرز ويلز"، لم تختر المجلة للنشر سوى لوحة عارية تضم امرأتين واحدة من أمام والأخرى من خلف. وعندما قرأت عرضاً عن الموسيقى وجدته يتحدث عن فرقة "ارون ميدن" التي جعلت الموت والظلام محور أغانيها على مدى عشرين سنة. وكانت في الصفحة المقابلة اشارة الى مغني "بوب" أعجب الكاتب بموسيقاه، وأيضاً بجنونه وغرابته وتجاوزاته. أما صفحتا الوسط في قسم المجلة فخصصتا لمقابلة مع مغنية "الروك" الأميركية ميليسا اثردج، مع التركيز على أنها مصابة بالشذوذ، ووصف "حي" لعلاقاتها الشاذة، فاق الحديث عن موسيقاها. ما لم يقله العدد كله هو أن كلمات أغاني "البوب" هذه الأيام من نوع لا أعتقد أننا سنسمعه في عمرنا بالعربية. وكانت ضجة قامت في مصر ولم تقعد سببها أغانٍ فاضحة لمغنية اسرائيلية، إلا أن هذه تصبح من نوع الترانيم اذا قورنت بما يغنون في أميركا هذه الأيام، حتى ان الأميركيين أنفسهم فقدوا صبرهم وبدأوا ينظمون "لوبي" للاحتجاج والمقاطعة، وحتى المراقبة. ولفت نظري في القسم بعد هذا كله موضوع عن فرويد، وأي موضوع عنه لا بد أن يكون له جانب جنسي. وقرأت ووجدت ان الموضوع عن مئات التماثيل الصغيرة التي حملها فرويد معه الى لندن عندما فر من النمسا سنة 1938. وكانت الاشارات الى هوايته هذه، وترجمتها، جنسية كما توقعت. ولعل أغرب ما في الملحق كان عرض كتابين واحد بعنوان "طريق بسيطة" من تأليف الأم تيريزا، والآخر بعنوان لا أريد ترجمته من تأليف كريستوفر هيتشنز. وكتاب الأم تيريزا بسيط يتحدث عن ايمانها وعملها بين فقراء كلكتا. اما هيتشنز فهو يهاجمها ويتهمها ب "الأصولية الدينية" والخبث وتهم كثيرة أخرى من دون اثبات. وهو اختار عنواناً جنسياً صارخاً لكتابه، مع أن الجنس هو التهمة الوحيدة التي نجت منها الأمر تيريزا في كتاب هيتشنز الرابع عنها. وأعود الى ما بدأت به فالجريدة رصينة جداً، وقسم "المجلة" فيها رصين مثلها. ومع ذلك فقد فوجئت بما ضم من مواضيع، وفكرت بعد ذلك أنه إذا كان الغرب الراقي منغمساً في مثل هذه الأمور، فما هي المواضيع التي تتطرق اليها صحف الإثارة، وكيف يفكر قراؤها ويتصرفون. أهم من كل ما سبق متى تصل هذه "الحضارة" الينا؟