أقام التشكيلي السعودي عبدالرحمن السليمان معرضاً جديداً ولافتاً في جدة، حيث استضافته غاليري "بيت التشكيليين". هنا تقديم سريع لتجربة الفنان الذي يقيم ويعمل في المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية. عبدالرحمن السليمان متعدد الاهتمامات والمواهب. فالفنان المولود في الاحساء، والذي حصّل دراسته الاكاديمية في مدينة الدمام حيث تخرّج من معهد المعلمين ويعمل مدرساً للتربية الفنية، هو أيضاً محرر صفحة الفنون التشكيلية في جريدة "اليوم" والمشرف عليها، كما أنه أحد الاعضاء المؤسسين لجماعة "أصدقاء الفن التشكيلي الخليجي" التي قدّمت في اسطمبول، خلال الصيف الفائت، آخر معارضها الجماعية. وبنى السليمان عوالمه التشكيلية في المنطقة الواقعة بين المتخيل والمدهش، منتحلاً "وجوهه" من واقع غرائبي غامساً اياها في أقاليم مختلطة من العتمة والنور. ويستمد هذا المبدع السعودي اداءه من الحضورين المكاني والانساني اللذين يتجاوزهما أحياناً الى البعد "الزماني". فهذا الاخير يمكن الاستدلال عليه من أتربة البيوت المهملة، أو الاوجه التي يخدّدها النسيان. وفي معظم الاحيان يبدو بطله، أو لنقل انسان "اللوحة" متلاشياً بعض الشيء، متكئاً على صفته المعنوية الموحية. كأنها ذريعة للتقرب من الداخل غير المعلن، اذ يندلع من خلال هذه الهشاشة الاداء المختلف للوحة السليمان، فيما تخضع بعض اللوحات لانساق هندسية قد تكون متأثرة بوتائر "الهندسة" الفنية الاسلامية. فهل يصل المبدع في رحلته البصرية، بشكل ارادي، الى "الاعمدة" الفنية للعمارة الاسلامية خاصة في العصور المتأخرة مثل العصر المملوكي، ويفيض اهتمامه ليشمل بصورة واعية النماذج المغربية والاسبانية، وغيرها؟ مناسبة التساؤل هي أن السليمان ينهل مادة وحيه من النماذج التي شهدت تطوراً في اساليب التصوير الجداريةمنذ بدايات هذا الفن في العصر الاموي الأول. وتبدو استفادة الفنان ملحوظة هنا، متضافرة مع الاسلوب الحديث في صنع "الرمز" وانفتاح المرموز على فضاء الاخيلة. فيما يلفت النظر في لوحته، ذلك التوازن اللوني بين مساحة العتمة والظل، وبين "كمية" النور المعلنة. تكوينات انسانية مهشّمة في بعض أعمال عبدالرحمن السليمان، تبدو "التيمات" الاسلامية واضحة، وان تداخلت معها رموز شعبية او بدوية تعتمد البساطة الجمالية. وتمتزج في هذا الحيز الخاص الزخرفات المجرّدة بالاقمار "الهشة" التي تعطي ايحاءً موقّتاً بتكوينات انسانية مهشمة من الداخل، قبل أن تعود فتنفتح مرة اخرى على الخداع البصري الذي يعطي اللوحة اكثر من دلالة ومستوى. وتميل الوان السليمان الزيتية الى السواد المفعم بالرموز الخافتة، لكن ذلك لا يلغي الوضوح. كما تستولي الالوان البهيجة احياناً على اللوحة بأكملها، منطلقة من معمارية محسوبة لكنها تغامر بالقراءة الداخلية للجدران، فتضفي على النوافذ نصف المغلقة ايحاء بالاكتمال. في احدى اللوحات - المكونة من جزئين - تبدو القرية الواضحة واقعة تحت تأثير شمس خضراء، ومحاطة بسياج علوي معلن. واذا بريشة الفنان تنتهي الى تراكيب لونية موغلة البهجة، لامتناهية الاشراق، فتبدو بعض الشخوص المبتعدة كالزهور الجافة. هكذا تحتفل الاشارات الجانبية بالوجود الانساني وتؤكده. في عمل آخر تتضح عفوية الفنان من خلال تبنيه للرموز الشعبية، ورسمه أدوات بسيطة تستخدم في الحياة اليومية. فهو يزاوج بين الاضداد معتمداً على الحركة والملمس، مع الاتكاء على رموز توحي بالجدران او بزخارف الابواب الموصدة على الاحتمالات. وكل عناصر المشهد - بألوانها الواضحة - تعتمد على الخلفية السوداء المضاءة احياناً بالاقمار الصغيرة الموغلة في التلاشي. مرة اخرى يعلو الجدار في وجه المشاهد، مرتفعاً عن قرية مهملة، لكنه جدار مختلف اذ تختفي فيه الاقمار الصغيرة، وتنتشر العناصر التراثية لتوحي بارتباط القرية الخافتة تلك بالنظرة الرومانسية المبثوثة بين طيات العمل، والمتضافرة مع المشهد الاجمالي... ويبدو الانسان "المنسي" في بعض الاحيان، اساساً للمنظومة التشكيلية، مع الاعتماد على عنصري الزمان والمكان، والتأكيد على أولويتهما في صياغة الرؤية، وحضورهما الواضح حتى على المستوى الجمالي. وينسحب تجريد الفنان في تجربته على مختلف العناصر التي يصوغ منها عمله، تلك المنتقاة من زخم الرؤى والمشاعر المتباينة، او تلك المحفوظة في دهاليز الذاكرة. ومن هذا التجريد، يخرج شكل جديد قادر على محادثة الفكر العصري، وعلى الاندماج فيه بالشكل الذي يحقق توازناً دقيقاً بين كفتي الاصالة والمعاصرة. ولعل هذا التوازن هو سرّ تماسك لوحة عبدالرحمن السليمان، ونجاح تجربته.